استعراض كتاب


التعليم اللاهوتي عن شخص المسيح
(الخريستولوجيا)
في الكنيسة القبطية وممارسته العملية



يتنـاول المؤلِّف ”ستيفـن ديفـيز Stephen J. Davis“، أستاذ الدراسات الدينية بجامعة ”يال Yale“ بالولايات المتحدة الأمريكية، في كتابه: ”التعليم اللاهـوتي عـن شخص المسيح في الكنيسـة القبطية وممارسـته العملية“(1)، وقد نشـرتــه دار نشــرOxford University Press؛ يتنـاول الموضوعـات الآتية: كيف فهم الأقباط عملية التجسُّـد وعلاقتـه بـالخلاص؟ كيف أثَّر التجسُّـد علي مُشاركـة الإنسـان في الطبيعة الالهية؟ وكيـف تمَّ تطبيـق المعتقـدات الخريستولوجية في حياتهم؟

يمتدُّ المؤلِّف في هـذا العمل مـن حقبة آباء كنيسة الإسكندرية من القرن الأول الميلادي إلى القرن الثالث عشر وأوائـل القرن الرابع عشر، والـذي يُطلِق عليه: ”العصر الذهبي لكتابـات الكنيسة القبطية باللغة العربية“. كما يُناقش التعليم عـن طبيعـة المسيح في اللاهـوت السكندري اليوناني، الذي يُمثِّل الأساس للخطاب المصري عن المسيح لاحقاً. فهو يوجِّه القُرَّاء من خلال ”جولة افتراضية“ للمُمارسات الطقسية في مواقع مختلفـة. ثم يفحص التعريب الخريستولـوجي السكندري والقبطي الذي حدث في وقتٍ مُبكِّر، في القرنـين العاشـر والثالـث عشر. ثم يُناقـش في مُلحـق كتـابـه أعمـال اثنـين مـن الـلاهـوتيين: ”البطـريـرك متَّـاؤس الرابـع“ و”الأب متى المسـكين“، عـن الموضوعات الخاصة بالتجسُّد ومُشاركتنا في نتائجه من خلال الحياة الليتورجية.

+ يبحث الكاتب حالاتٍ مختلفة ليوضِّح:

أ - عقيدة التجسُّد،

ب - تطبيقه على خلاص البشرية.

وهو يُشير أيضاً إلى استمرارية تاريخية في مفهوم التجسُّد والخريستولوجيا في مصر. وقد تأثَّرت هذه الاستمرارية بعدَّة عوامل:

+ تفسير نصوص الكتاب المقدس والعقائد الآبائيـة: وتتلخَّـص روايـة القديس كـيرلس الإسكندري - الممتدَّة من الخليقة حتى التجسُّد - (في شرحـه لإنجيل يـوحنا 7: 39) في دور المسيح كآدم الثاني، بِكْر الخليقة الجديدة، الكلمة المُتجسِّد يَهَبُ الروح، ”فيُعيد طبيعة الإنسان إلى حالتها الأصلية، حالة تتميَّز بجِـدَّة الحياة وعدم الفسـاد“. ويـوضِّح أيضاً أن أغلب الكتابـات اللاهوتية التي أصدرها خُلفاء القديسَيْن أثناسيوس وكيرلس، هي إعادة تفسير وفَهْم كتاباتهم. كما كان مقال القديس شنودة رئيس المتوحِّدين يستشهد بكتابات القديس أثناسيوس الرسولي وتعاليمه، إلى الحدِّ من نطاق التأمُّلات الرهبانية الخاصة بطبيعة المسيح قبل التجسُّـد. ويستخدم ساويرس بن المقفَّع في كتابه: ”الدُرُّ الثمين في إيضاح الدين“ 191 اقتباسًا من 26 كاتباً، يرجع 35 + منها إلى القديسَيْن أثناسـيوس وكـيرلس(2). ويُبرهِن بولس البوشي على أنَّ المسيح قدَّم لنا، أكثر بكثير من الحالة التي كان عليها آدم قبل السقوط: فقد قَدَّم لنا جَسَدَه المحُيي. لقد قَبِلْنا نعمةً تفوق حالة آدم الأصلية. وهنـا يستطرد القديس أثناسيوس، في مقالـه الثاني ضـد الآريـوسيين: ”إنَّ الجنس البشري يُكمَّل فيه ويُرَدُّ إلى أصله، كما كـان مخلوقاً في البداية، ولكن مع نعمةٍ أعظم“(3).

ويُمثِّل إصدار كتابات حول الدفاع عن الإيمان المسيحى في سياق الجَدَل اللاهوتي، مثل كتاب ”القديس أثناسيوس ضد آريوس“، وكتاب ”القديس كيرلس ضد نسطور“؛ بعض النماذج التي سـاعـدَت على تشكيـل الخريستولـوجيا السكندرية.

وفي وقتٍ لاحق، كَتَبَ ابن المقفَّع للشعب، الذي ازداد تَعَرُّبُه ولم يَعُدْ يَفْهم اللغة اليونانية ولا اللغة القبطية بالكامل، لكي يجعل ترجمة الكتابات الآبـائية مُتاحـة، وليشرح لهم عقيدة الكنيسة الخاصـة بكيان المسيح. وكَتَبَ بـولس البوشي كتابـه: ”عن التجسُّد“ ليُواجه قلق المسيحيين ودفاعهم بالحجج عن المسيحية في بيئة إسلامية، ولتسليط الضوء على دور المسيح بالنسبة للدين الآخر السائد في مصر.

+ العبادة والممارسات الطقسية الأخرى التي تـؤدِّي إلى المُشاركـة في حياة السيد المسيح نفسه: إنَّ الأشكال العديـدة مـن الطقوس التي نوقشت في الكتاب تمَّ اقتباسُها من العظات الرهبانيـة للقديس شنودة رئيس المتوحِّـدين، بالإضافـة إلى الليتورجيـات والعادات المتعلِّقة بزيارة الأماكن المقدسة والفنون القبطية المرئية فى الكنائس. لكـن السرَّيْن المُقدَّسَيْن اللَّذَيْن كانا أكثر إبرازاً في حياة الكنيسة القبطية على مدى التاريخ هما: المعمودية والإفخارستيا. وبالنسبة للقديس كيرلس، يستطيع الإنسان المُشاركة في نتائج التجسُّد من خلال هذيـن السِّرَّيْن المقدَّسَيْن: المعموديـة، والإفخارسـتيا؛ واللذيـن يصفهما القديـس كـيرلـس هكـذا: ”القـوَّة المحُييـة, والقـوَّة المُطهِّرة“.

أما بولس البوشي فيُسلِّط الضوء على ثمار التجسُّد، حيث إنَّ المسيح يمنح الحياة الأبدية لذلك الجسد من خلال اتِّحاده به. وهذه الحياة الأبدية تنتقل إلينا مـن خـلال مُشاركتنا في سِـرَّي المعمودية والإفخارستيا. إنَّ البوشي في شرحه للأصحاح السادس من إنجيل القديس يوحنا، وفي تفاصيل الخريستولوجيا الخاصة به؛ يبدو أنه قد تأثَّر بالقديس كيرلس وبرأيه عن المُشاركة في الأسرار المقدسة(4).

+ وفي ملحق كتابه، يقول الكاتب(5):

[بينما كنتُ قد اخترتُ أن أختم بحثي عند نهاية القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر على أنـه ”العصر الذهبي لكتابـات الكنيسة القبطية بـاللغة العربيـة“، القبطي/ العربي، وهي الفـترة التي شهـدت نهضة الإنتاج الأدبي اللاهوتي عن التجسُّد وآثاره على الحياة المسيحية لديها؛ إلاَّ أني وجدتُ أن هـذه القضايا للمجتمع القبطي مـا زالت حيَّة حتى يومنا الحاضر.

وفي هذا التذييل، أُريد أن أُقـدِّم دراسات عن حالتين اثنتين توضيحيتَيْن: واحدة من بعد أواخـر العصر الذي شرحتُه سـابقاً، وحالة أخرى من أواخر القرن العشريـن وأوائـل القرن الحادي والعشرين؛ وذلك لإظهار مدى مـا واصل فيه المسيحيون المصريون مـن تصوُّر وفَهْم للتجسُّد، في إطار الطقوس مثل: ممارسة الحياة الرهبانيـة، والليتورجيات (أي صلوات القدَّاس الإلهي وباقي شعائر خدمات أسرار الكنيسة).

المثال الأول الذي أُقدِّمه يأتي من لحظة جدال كنسي قام بين الشرق والغرب في القرن السابع عشر. ففي عام 1672م، كان بطريرك الكنيسة القبطية هـو البابـا متَّاؤس الرابـع (حـوالي 1660-1676م)، وقـد قـام بتأليف دفـاع عـن عقيـدة الكنيسة القبطية الخاصة بسـرِّ الإفخارستيا ضد مجموعـة مـن التعاليم المضادة لهذه العقيدة التي ظهرت في الغرب.

أما المثال الثاني، فكان بعد ثلاثمائة سنة من عهد البطريرك متَّاؤس الرابع، فقد ظَهَر واحد يحمل نفس اسم البطريرك متَّاؤس قبل سيامته بطريركاً، وهو ”الأب متى المسكين“ (1919-2006م). هذا الأب بدأ يُلقي سلسلة من العظات وينشر مجموعات من الكُتيِّبات والمُجلَّدات اللاهوتية، ليس فقط عـن سرِّ الإفخارستيا، ولكن أيضاً عن مختلف نواحي حياة الكنيسة، بـاعتبار الكنيسة مَظْهَراً مـن مظاهر استعلان تجسُّد المسيح على الأرض.

وكمَثَل لهذه الموضوعات التي عرضها ”الأب متى المسكين“، كلامه عن المعمودية، حيث قال: إنها تُمثِّل ”الولادة الجديدة التي فيها نأخذ مـن ابـن الله صفاته وإمكانياتـه وقدراتـه ومواهبـه الروحية التي لا تُرَى، والتي كـانت أصلاً لا تخصُّ (الطبيعـة) البشرية قبل الإيمان بالمسيح“. وعـلاوة على ذلك، فمِـن خلال سـرِّ الإفخارستيا، ”نتَّحـد بـالمسيـح في ضـوء تجسُّـده واتِّحـاده بـالطبيعة البشرية بلاهوته الكامل“](6).

+ ويختم المؤلِّف كتابه بهذه الخاتمة:

[إنـه على المحـكِّ العملي، لا شيء أقـل مـن الفهم الصحيح للتراث الكنسي في تفسير الإنجيل المقدَّس وتعاليم آباء الكنيسة، وشكل ومضمون المواجهة المشتركة بين الأديـان والعقائـد، والأساليب الطقسية التي بها ومن خـلالها سيظلُّ المسيحيـون الأقباط يضعون إيمانهم بالمسيح على المستوى العملي](7).

(1) Stephen J. Davis, Coptic Christology in Practice. Incarnation and Divine Participation in Late Antique and Medieval Egypt, 2008.
(2) Ibid., 207-8.
(3) Ibid., 247.
(4) Ibid., 247.
(5) Ibid., 271.
(6) Ibid., 276.
(7) Ibid., 278.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis