أبحاث
ودراسات 


الصلاة
عند
الأب متى المسكين

ليس غريباً أن يكون أول كتاب يُصدره قدس الأب متى المسكين، هـو كتاب: ”حياة الصـلاة الأرثوذكسية“، الذي صَدَرَت أول طبعة له عام 1952م، بينما كان الأب متى المسكين يعيش في دير السيدة العذراء المُلقَّب بدير السريان.

نقول، ليس غريباً ذلك، لأن سيرة الأب متى المسكين منذ طفولته بدأَت بالصلاة، وظلَّت قائمة وممتدَّة بالصلاة إلى حين انتقاله إلى الحياة. لقد بَدَأَت حياة الصلاة في حياة الأب متى المسكين منذ أن كان طفلاً في سنِّ الرابعة أو الخامسة من عمره، وهو بين إخوة وأخوات كثيرين (7 إخوة وأخوات)، وذلك حينما كانت الأسرة تختاره لكي يكون مُتقدِّماً عليهم ومندوباً عنهم في الصلاة، كما يقول هـو في سيرة حياتـه الذاتية: ”عندما كنتُ طفلاً صغيراً (4-5 سـنوات، أي نحـو سـنة 1924م)... كانوا يأتون بي عندما توجد مشكلة أو ضيقة لدى الأسرة، ويوقفونني أمامهم لأُصلِّي، ولكني ما كنتُ أعرف أن أُصلِّي. وكانوا يقولون لي (أي يُلقِّنونني): قُـلْ - يا حبيبي – وراءنـا: "أبانا الذي في السموات"، فأقول. ثم: "ليتقدَّس اسمُك"، فأقول... وهكذا. ثم يقولون لي: "قُل: "”يـا رب“، اعمل كيت وكيت (أو كـذا وكـذا) بخصوص الموضوع الفلاني"، فأقول“.

+ وعند قيام الأُسرة بخَبْز الخُبز في البيت، ”كانوا يمسكون يدي ويضغطون بها داخل الدقيق، وهم يرشمون بها الصليب على القُفَّة. ولم يأبهوا بسخونة الدقيق التي كانت تلسعني، ولكني لم أكُن أقدر أن أَتكلَّم (مُشتكياً)، لأني كنتُ أحسُّ بأني أُصلِّي. وكنتُ أشعر أيضاً وقـت الصلاة برهبة عجيبـة، لأن أبي كـان يقف ورائي، وكـذلك أُمِّي وإخوتي السبعـة. وبينما كنتُ أُصلِّي (كما يُلقِّنونني)، كانوا يتكلَّمون بصوتٍ منخفض. وكنتُ أفهم أنَّ هذا الموضوع خطير، وأنَّ الأُسرة في ضيقة، وأنَّ الأمر مرفوع إلى الله على لساني. ولم يكن أحدٌ آخر يُصلِّي من الواقفين ورائي، فكانت تهزُّني رهبة شديدة، إذ كنتُ أشعر بربِّنا شعوراً عجيباً“.

+ ثم يسرد اختباراً آخر عن والدته التي تعلَّم منها المثابرة على الصلاة والخشوع: ”فقد كنتُ أتمسَّك بها، بملابسها، وأنا صغير، حتى تسمح لي بالدخول معها إلى غرفتها للصلاة. وكانت تظلُّ واقفة لعدَّة ساعات تُصلِّي وتسجد، ولا تكفُّ عن السجود مرَّاتٍ عديـدة. وكـان في يدها مسْبَحة وصليب بينما هي تُصلِّي“(1).

+ وقد ورث أبونا متى المسكين الصلاة وطقسها منذ طفولته، وإلى أن انتهى من دراسته الجامعية، وبدأ يشتغل كصيدلي. ويقول: ”بَدَأتُ أسهر وأُصلِّي وأُسبِّح، وأقرأ الإنجيل وكُتُب آباء الكنيسة“. ويستطرد أنه بدأ يشعر مرَّة أخرى بالإحساس الطفولي عندما كان عمره 5 سنوات، فيقـول: ”كنتُ أشعر بالرهبـة الإلهية، وانتابني الشعور بواقعية حضور الله سامع الصلاة“.

+ هذه الخبرة المُبكِّرة في الصلاة، امتدَّت معه طيلة أيام حياته، ثم تلألأت أكثر بعد الرهبنة، التي فيها يكون المجال مُتَّسعاً لحياة الصلاة والتسبيح أمام الله.

+ ومن هنا يقول في كتابه ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“: ”الصلاة إذا كانت روحية صادقة، فهي نداءٌ واستجابة: نداء إلهي، واستجابة بشرية“. تماماً مثلما كانت صلاته وهو طفل، نداءٌ من الله (في شخص أبيه وأُمِّه)، واستجابة بشرية (أي منه وهو طفل لهذا النداء)(2).

+ ويقول أيضاً: ”الصلاة سرٌّ مغروس في كياننا ووَعْينا النفسي. وبحسب طبيعتها البشرية، هي نداء الله الداخلي المستمر في كيان الإنسان حينما يبلغ الإنسان غاية قَصْد الله من خلقته، وهي: الاتحاد بالله“(3).

+ ويقول في موضـعٍ آخـر: ”وكأنما نحن مخلوقون للصلاة“(4).

مكانة الصلاة في عظات الأب متى المسكين:

لأول مرَّة نرى أحداً يعظُ، ثم يختم عظاته، ليس بالسؤال التقليدي للسامعين: ”مَن لديه سؤال، فليتفضَّل ويسأل؟“؛ بل كان الأب متى المسكين يختم كل عظة بالوقوف ليُصلِّي صلاةً حارة، والرهبان واقفون حوله أو وراءه. وفي عظته على آية: «صلُّوا بلا انقطاع»، كما في بعض العظات الأخرى، كان يتخلَّل العظة صلوات متتالية، وذلك خروجاً على النمط المعتاد من الوعَّاظ (مُقدِّمة، وعظة، وختام)؛ بل كانت معظم عظاته: عظة/ صلاة، أو صلاة/ عظة!

+ وفي عظة ”الصلاة بلا انقطاع“، يقول: ”الصلاة هي رَجْع (أي صَدَى) صوت الروح القدس في القلب، لأنه إنْ لم يكن لنا الروح القدس يعمل في القلب، فلن تكون صلاة مقبولة أمام الله“(5).

+ وفي هذه العظة/ الصلاة، يقول لله: ”أنتَ طَلَبتَ منَّا طلباً كريماً عجيباً سرِّيّاً: «أن نُصلِّي كـلَّ حين»، لأننا دُعينا للحياة الأبديـة، دُعينا للخلود. فإن كنَّا نُصلِّي كلَّ حين، فإننا نكون قد غَلبْنا الزمن؛ وإنْ لم نُصلِّ كلَّ حين، يكون الزمن قد غَلَبَنا. فكيف نُدعَى أبناء الله وأبناء الملكوت إنْ كنَّا مغلوبين من هذا الزمان؟“(6)

+ وفي كتاب: ”توجيهات في الصلاة“، وهو عبارة عن رسالة شخصية كتبها لأحد الآباء المتوحِّديـن، يقول فيها عن الصلاة: إنها ”صلاة القيامة، ولحظات الأبديـة، وساعة المسيح التي يُمارسها أولاد المسيح الذيـن ينهضون للصلاة والتسبيح في كلِّ وقتٍ وبلا ملل“.

+ وفي هذا الكُتيِّب الصغير، يقول: ”واحد يُصلِّي في مخدعه على انفراد بلجاجة، يستطيع أن يتسبَّب في خلاص ألف نفس من النفوس باتِّحاده بالمسيح“، وأيضاً: ”حينما يجذبنا الله إلى الصلاة، فهو لا يضع خلاصنا نحن فقط أمام عينيه، بل يُريد أن يستخدم صلواتنا لخلاص الآخرين أيضاً“(7).

+ ويستطرد: ”بل إننا نحن أيضاً في أشدِّ الحاجة إلى مَن يُصلِّي من أجلنا بحرارة الروح ليكشف لنا الروح خطايانـا المخبوءة، والمُتخلِّفة في قلوبنا، حتى تتحرَّك ضمائرنا بالندم والتوبة، ونتنقَّى من ضعفاتنا“.

+ وفي مكانٍ آخر من كتاب ”توجيهات في الصلاة“، يقـول: ”الروح القدس يَعْلَم مـا هي الطلبات اللائقة والمقبولة لـدى المسيح والآب. لذلك، فالروح القدس هو المُدبِّر الوحيد للصلاة، هو يُدبِّر زمانها ويختاره ويحثُّ عليه، وهو الذي يُلهِم الكلام، ويُلقي الحرارة والغيرة في القلب، ويُضفي روح التذلُّل والدموع والصراخ. لذلك، يصرخ في قلبنا أثناء الصلاة نحو الآب والمسيح بأنَّـاتٍ شديـدة صادقة لا يستطيع الإنسان أن يُحوِّلها إلى نُطْق، لأنها تفـوق العقل بحرارتها وعُمْقها وإخلاصها. لذلك، فالتسليم للروح القدس، معناه الديمومة في الصلاة بلا ملل، وقبول حرارة وقوَّة للوقوف والركوع والسجود بلا شبعٍ“(8).

لمَن يأتي الروح القدس؟

( ”الروح القدس بسيطٌ غاية البساطة، يُلبِّي دعوة الإنسان في الحال إذا كانت دعوة الإنسان له بإخلاص وإيمان وبساطة. يكفي أن يُناديه الإنسان كما يُنادي طفلاً صغيراً بسيطاً طاهـراً، فيسـمع ويستجيب. وفي صلوات السواعي (الأجبية) تُعلِّمنا الأجبية أن نُناديه هكذا: "هَلُمَّ تفضَّل وحِلَّ فينا"“(9).

( ”الروح القدس صديقٌ وشريكٌ لصلاة الفقير الشاكـر، والغَني المُحب للفقراء. وهـو مُعزِّي المرؤوسين المضطهَدين، والرؤساء الرحماء القلب. هو نورٌ للبؤساء، وحياةٌ للذين وضعوا أنفسهم لخدمة الإنجيل ومحبة الإخوة المساكين“(10).

( ”كما يلزم لمَن يُصلِّي أمام الله أن تكون له ثقة شديدة بمؤازرة الروح القدس الذي وَلَدَنا في جُرْن المعمودية، وعليه أن يهتفَ بـه من عُمْق قلبه مراراً، ويطلبه لكي يؤهِّله للصلاة، ويَهَبه قوة لتكميلها حسب مشيئة الآب والرب يسوع“.

+ يقـول في كتـاب ”حـيـاة الصـلاة الأرثـوذكسية“: ”الإنسان في تقديسـه لاسم الله وتقديم الخضوع والشُّكر والكرامة لـه في تسبيحٍ خالص، يصير روحانياً، شريكاً للقوات السمائية في هذه الخدمة الفائقة“(11).

+ ”ولكن نحن نسأل الأمور الزمانية من الله بسبب سقوطنا من درجتنا الروحانية الأولى التي كنَّا فيها بـلا عَوَزٍ، وهـذا (أن نطلب الأمور الأرضية) ليس من طبيعة الصلاة أصلاً، ولكن الله تنازَل من أجل جُودِه وَوَعَدَ أنه سيسمع أيضاً لصلواتنا حينما نَبُثُّه أعوازنا وشكوانا، مع أنه يسبق ويعرف كل حاجتنا، وذلك لكي يُدخِلَ على قلب الإنسان الاطمئنان أنـه لا يتخلَّى عنَّا بسبب خطايانا؛ بل إنَّ ضيقاتنا تهمُّه“.

+ وعن الصلاة الدائمة، يشرحها الأب متى المسكين هكذا:

- ”الحياة في أعمق معناها تتلخَّص في فعلَيْن بسيطَيْن غايـة البساطة: أولهما المحبـة، وهذه مصدرهـا الله؛ وثـانيهما العبادة، وهي تختصُّ بالخليقة: «الله محبة» (1يو 4: 16)، و«أما أنا فصلاة» (مز 106: 4)“.

- ”وهذان الفعلان دائمان بلا انقطاع؛ فلا الله يكفُّ عن حبِّه للخليقة، ولا الخليقة تكفُّ عن عبادة الله، كقول المسيح: «لأنه إنْ سَكَتَ هؤلاء (الأطفال الذيـن كـانوا يُسبِّحون المسيح، وهـو داخلٌ إلى أورشليم)، فالحجارة تصرخ» (لو 19: 40)“.

- ”وكل أفعال هذه الحياة وأعمالها العديدة، سوف تَفْنَى وتتلاشى، وذلك بعد أن نُدان أو نُثاب؛ ولن يبقى منها جميعاً إلاَّ هذان الفعلان العجيبان، وهما: محبة الله لنا، وعبادتنا له“!

- ”هذه العبادة هي إلهام إلهي وَضَعَه الله في طبيعة الإنسان ليحيا سعيداً بعبادته لمصدر السعادة الحقَّة... فهل من طريق يُوصِّلنا إلى حياةٍ كلها عبادة وصـلاة مستديمة لا تنقطع؟ فنجعل الله مركـزاً لتفكيرنا، والمحور الذي تدور حوله كـل أعمالنا وتصرُّفاتنا، نحيا في حضرة الله من الصباح إلى المساء، ومن المساء إلى الصباح“(12).

+ ويخرج الأب متى المسكين من هذا التقديم إلى ما يُسمَّى بالصلاة الدائمة، فيذكُر في الفصل الثامن تحت عنوان: ”صلُّوا كلَّ حين“ ما ينطوي عليه هـذا التدريب: مـن هـدف حياة الصـلاة الدائمـة، وإرشادات عملية للوصول إلى حالـة الصلاة الدائمة؛ ثم يذكُـر تعليم القدِّيسين عـن هـذا التدريب المُسمَّى أحيانـاً: ”صلاة يـا ربي يسوع“.

+ وفي الختام، إنَّ حياة الصلاة، لدى الأب متى المسكين، تتضمن كـل الحياة الروحانيـة للإنسان، وكل نشاط العبادة القلبي والجسدي لله. وهي لا تنتهي بنهاية حياة الإنسان على الأرض؛ بل تستمر وتكتمل بعد دخول الإنسان، بعد موته، إلى الحياة السماوية التي شبَّهها المسيح بقوله: «يكونون كملائكة الله في السماء»!

(1) ”السيرة الذاتية لحياة الأب متى المسكين“، ص 2.
(2) ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، ص 24.
(3) نفس المرجع، ص 25.
(4) نفس المرجع، ص 26.
(5) جُمِعَت هذه العظات في كتاب: ”صلوات الأب متى المسكين“، ص 232.
(6) ”صلوات الأب متى المسكين“، ص 225.
(7) ”توجيهات في الصلاة“، ص 12.
(8) نفس المرجع، ص 13،12.
(9) نفس المرجع، ص 13،12.
(10) نفس المرجع، ص 13،12.
(11) ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، ص 34.
(12) ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، ص 412.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis