ذِكر الصدِّيق للبركة


في الذكرى السنوية العاشرة
لنياحة أبينا الروحي
القمص متى المسكين 

روحانية الصحراء عند الأب متى المسكين

+ بحـث ألقاه الأب الراهب يـوحنا المقاري في الكنيسـة الأسقفية بالقاهرة، يوم الثلاثاء 19 أبريل سنة 2016م.

مُقدِّمــة:

إنَّ الاعتزال في الصحراء ونمو الرهبنة في مصر في القرن الرابع الميلادي، عُرِفَ منذ القديم باعتباره حَدَثاً ذا أهمية عظيمة في تاريخ المسيحية منذ نشأتها. فإنَّ الانسحاب من تيار المجتمع العام وثقافته إلى الحياة في الوحدة الصارمة في الصحراء، تولَّدتْ منه روحانية أصيلة نابضة بالحيوية، كـان لها تأثيرٌ عميق على كلٍّ منَّا في الأجيال المُعاصرة حينذاك والأجيال التالية لها إلى عصرنا هذا.

لقد كانت حركة خصبة ومتنوِّعة في مصر، ثم امتدَّت إلى الشرق والغرب، وكانت ممتلئة بالمتناقضات والتضادات. ورغم أنها كانت تتكوَّن مـن أشخاصٍ أُميين قرويين مـن الفلاَّحين في بدايتها، إلاَّ أنَّ الرهبنة وحياة البريَّة جذبت أيضاً الكثيرين من كل الطبقات من المثقفين المدنيين من مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية حينذاك.

ومع أنَّ الرهبان عموماً كانوا يتميَّزون بالبساطة والسذاجة، إلاَّ أنهم كانوا قادرين على التمييز والبصيرة الثاقبة في كافة مناحي القُوَى المعقَّدة في الشخصية الإنسانية. ففي وحدتهم، كانوا يفصلون أنفسهم عن عمدٍ عن كافة الاتِّصالات المعتادة مع المجتمع والأشخاص القريبين منهم. وكانوا يرونهم عادةً غير مرغوب في التعامُل معهم أو الالتصاق بهم. ومع ذلك فقد كان هؤلاء الأشخاص يُقدِّرونهم ويحترمونهم من أجل عُمْق نظرتهم وحُنُوِّهم الفائق للطبيعة.

وكان معروفاً عنهم جراءتهم في مُصارعة الأرواح النجسة، ولكنهم كانوا يرفضون البَوْح بذلك باعتبار هذه المُصارعة ليست بقوَّتهم أو بتقواهم. وكانوا ينطقون بكلماتٍ توحي أنهم يتكلَّمون كما بسلطانٍ، إلاَّ أنَّ ذلك كان عادةً في فترة اعتكافهم الكُلِّي، وبحكمةٍ نابعةٍ من فوق.

وكثيرون من رهبان البريَّة كانوا يرفضون التدخُّل في شئون الكنيسة وتدبيرها، مُفضِّلين أن يعيشوا على هامش المجتمع تحت الإرشاد المباشر للروح القدس وكلمة الله.

ورغم ذلك، أو ربما بسبب فرادتهم في الإحساس بالمسئولية نحو مشاكل العصر، كان لهم رأي ثاقب في الأحداث المُعاصرة في المجتمع والكنيسة يُلزمهم بالتدخُّل من أجل درء خطورة قادمة. وهكذا كانوا يتركون وراءهم تُراثاً غنيّاً ومُتعدِّداً في كافة أمور الحياة(1).

الكتاب المقدَّس وعلاقته بروحانية الصحراء:

بَدَأت الرهبنة في القرن الثالث، عندما دخل الشاب أنطونيوس الكنيسة في بلده أثناء قراءة الإنجيل، فسَمِعَ الرب يقول للغَني: «إنْ أردتَ أن تكون كاملاً، فاذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كن‍ز في السماء، وتعالَ اتبعني» (مت 19: 21).

( ويقول البابا أثناسيوس الرسولي كاتب سِيرة القديس أنطونيوس أبي الرهبان:

[أمَّا أنطونيوس، فكأنَّ الفقرة قُرِئت له خصيصاً. وللحال خرج مـن الكنيسة، وأعطى القرويين ممتلكات آبائه، وكانت ثلاثمائة فدان من أجود الأراضي، لكيلا تكون عثرة في سبيله](2).

( ويُعلِّق على ذلك الأب متى المسكين، قائلاً:

[إنَّ الحياة التي اقتبلها القديس أنطونيوس، هي حياة حسب الإنجيل تماماً، آزرها الروح القدس بقوَّة فائقة. فقد كان خروجه من العالم، وهو ابن ثماني عشرة سنة، ليعيش في الجبال والبراري المُقفرة، تعبيراً عن مستوى الإيمان الناري الذي امتلأ به قلب أنطونيوس الفتى الغَضّ ابن التنعمات. لم تحجزه عن تلبية دعوة الإنجيل، ظروف أخته الوحيدة اليتيمة، ولا إغراءات ثلاثمائة فدان تُبشِّر بأيام سعيدة حسب الجسد!

ولنَعْلَم بكل يقين، أنَّ حياة النُّسك التي رسمها الرب يسوع المسيح، بأقواله ووصاياه في الإنجيل المقدَّس، هي الدافع الوحيد الذي ألهب قلب الفتى أنطونيوس، وجعله ينطلق تاركاً العالم وراءه، ولم يكن له أيُّ دافع آخر ولا كان أمامه أيُّ هدف آخر. وهذا يُقرِّره القديس أثناسيوس في كتابـه عـن حياة أنطونيوس الأولى بقوله: ”والرب حفظه لأجـل فائدتنا وفائدة الآخرين، لكي يكون مُعلِّماً للكثيرين عن النُّسك الذي تَعلَّمه مـن الكُتُب المقدَّسة“ (”حياة أنطونيوس“ - فصل 45).

فطاعة الوصية المقدَّسة التي تحُضُّ على الحياة النسكية، كانت له بمثابة الإلهام الوحيد المباشر الذي حرَّكه - دون فحص للوصية أو تفسير عقلي لها - للإقدام على حياة النُّسك والتوحُّد والبُعْد عن العالم بإمكانياته الفردية الضعيفة](3).

والواقع أنه منذ أن وضع الرب أُسس النُّسك المسيحي، باعتزاله في البراري المُقفرة وصومه عنَّا أربعين يوماً وأربعين ليلةً، ارتبط النُّسك بالامتلاء من الروح القدس؛ وذلك لأن الربَّ خرج «ممتلئاً من الروح القدس» (لو 4: 1).

وكان حلول الروح القدس على الرب مثل حمامة من أجلنا، وليس من أجل نفسه، لأنه كان أصلاً متَّحداً به. كما أنه «أُصْعِدَ إلى البرية من الروح» (مت 4: 1)، و«كان يُقتاد بالروح في الب‍ريَّة أربعين يوماً، يُجرَّب من إبليس» (لو 4: 2،1)؛ وذلك، لكي بانتصاره على إبليس، يمنح البشرية قوَّة الغلبة عليه.

( وفي هذا يقول القديس أنطونيوس الكبير:

[إنَّ الروح القدس يدفع الجسد للصوم الكثير والسهر والجهاد (في الصلاة)، وبقية الخِدَم التي هي ثمار الجسد. وأمَّا النفس فيفتح عينيها أيضاً للتوبة الحقيقية، لكي تتطهَّر مع الجسد، ويكونان كلاهما في الطُّهْر واحداً، لأن هذا هو تعليم الروح القدس] (الرسالة الأولى)(4).

( ليس هذا فحسب، بل وجميع الآباء الأوائل أيضاً بنوا حياتهم النُّسكية على الامتلاء من الروح القدس. فالقديس أنبا مقار يقول:

[إنَّ ما ينبغي على الراهب أن يعمله، هو أن يكون حارّاً كلَّ حين في الروح] (فضائل أنبا مقار).

( والقديس إيسيذوروس تلميذه الخاص، يقول:

[بدون قوَّة الروح القدس الذي أعطانا الله إيَّاه لإتمام وصاياه، والتي تتقوَّى فينا كل يوم بالتناول مـن جسده ودمه؛ لن نتخلَّص مـن الخطايا، ولن نستطيع أن نقهر الشياطين، ولا أن نتقدَّم في الفضيلة] (”بستان الرهبان“، ص 256).

( ومعروف جداً لكلِّ مَن اختبر الحياة النسكية أن العمل النسكي، الذي يبدو لأول وهلة صعباً وثقيلاً للإنسان الطبيعي، نجد أنه يصير سهلاً خفيفاً، بل وحلواً وشهيّاً حينما يُمارَس من أجل حبِّ الله بفعل الروح القدس. وفي هذا يقول القديس أنطونيوس:

[وأنا أُعلمكم عملاً آخر يُثبِّت الإنسان من بدايته إلى نهايته، وهو أن يحبَّ الله من كلِّ نفسه ومن كـلِّ قلبه. وكـلُّ أتعاب الجسد أيضاً، والهذيذ والسهر، وحَمْل نِير الرب؛ يصير خفيفاً حلواً] (الرسالة الثامنة)(5).

وهذا هو السرُّ في كلِّ أعمال القديس أنطونيوس النسكية، سواء في جرأته في سُكنى القبور أو التوحُّد في الجبال البعيدة منفرداً وسط الوحوش، أو مقاومته للشياطين بكلِّ شجاعة، أو في نموِّه الروحي المتزايد حتى وهو في سنِّ الشيخوخة.

وهكذا كان هذا هو السر في كلِّ جهادات النُّسَّاك والرهبان الذين عاشوا في الجبال والبراري وشقوق الأرض من أجل عِظَم محبتهم في الملك المسيح.

وهكذا يتبيَّن لنا بمنتهى الوضوح أنَّ الحياة النُّسكية التي عاشها آباء الرهبنة، هي تطبيق عملي للوصية الإنجيلية كما ألهمها الروح القدس لقلوبهم، دون أيِّ دافع آخر إلاَّ طاعة الوصية في حدِّ ذاتها، حُبّاً في المسيح الذي أحبَّنا أولاً وأَسْلَم ذاته لأجلنا.

ليس في الانفصال عن العالم عداوة أو تعالٍ:

كان القدِّيسون آباء البريَّة (مثل القديس مقاريوس الكبير، والقديس يوحنا السُّلَّمي، والقديس إسحق السرياني)(6)؛ كانوا هم مـن أكثر المُدافعين المُخْلِصين عن الحقِّ القائل بأنَّ آبـاء البريَّة وروحانياتهم، ليست من النوع الذي يتمركز حول الذات egocentric.

وهم أيضاً ليسوا مُنحصرين في ذواتهم، ولا هم أعداء المجتمع؛ بل بالعكس، كانوا يَرَوْن أنَّ الراهب السعيد حقّاً هو مَن يَعتَبِر كل الناس كمثل الله (بسبب صورة الله التي فيهم)، والذي يرى أن خير كل البشر وتقدُّمهم يُسبِّبان له فرحاً كأنهما خيره وتقدُّمه.

( ويُقرِّر القديس مار إسحق قائلاً:

[نحن الرهبان نعرف أنَّ الذهن لا يمكنه أن يستنير بمجرَّد المُخاطبة والمحبة لله، بمعزل عن المحبة للقريب] (الميمر 76: 377)(7).

( وأيضاً قوله:

[إننـا نغصب أنفسنا دائماً وفي كـلِّ وقت، أن نكـون في داخلنا رُحماء على كـلِّ الخليقة] (الميمر 6: 276)(8).

الانفصال عن العالم، هو محبة فيَّاضة للجميع بلا شبع:

إذ أنَّ الرحمة الباطنية داخل نفس الراهب، هي هي البرهان الواضح للمحبة تجاه الله. كما أنَّ كمال القدِّيسين واتِّحادهم بالله يظهران في التدفُّق الفيَّاض لمحبتهم وعطفهم على كلِّ الناس.

( وهذه كلمات جميلة للقديس مار إسحق في هذا الموضوع:

[كما يُغذِّي الزيت لهب المصباح، هكذا الرحمة تُغذِّي المعرفة في النفس. ومفتاح المواهب الإلهية يُسلَّم للقلب بمحبته للقريب] (الميمر 48: 234)(9).

وحدة البشرية، هي رجاء النُّسَّاك:

إنَّ أقوى طريقة لتحقيق هذه الوحدة وأكثرها تأثيراً، هي تحويل الطبيعة البشرية إلى ذلك الإنسان الواحد الكامل، الإنسان الروحي أو المتَّحد بالله، الإنسان الرسولي؛ وذلك بتجديد الذهن وبالسكون الذي يُمارسه الفكر، والنابع من العشق والحب الإلهيَّيْن، كمَن أحسَّ بالنشوة بهذه المحبة لله ولكلِّ البشر ولكلِّ العالم.

مثل هذه المحبة تفتح الأبواب لهذا الإنسان، فيدخل إلى المنازل الكثيرة التي في الملكوت السماوي (يو 14: 2).

[وكلما يدخل الإنسان، كلما تنفتح أمامه أبواب أخرى تؤدِّي به إلى مئات المنازل الإلهية. حينئذ يصير غنياً بالروح، بـل أغنى، ويزداد غِنًى، وتنكشف أمامه عجائب أخرى جديـدة ومُدهشة] (القديس مقاريوس 8: 69-70؛ 14: 93)(10).

روحانية الصحراء في أيامنا في مفهوم الأب متى المسكين:

(الحياة الرهبانية في كلمات)(11):

+ الحياة الرهبانية حياة صلاة وحُب وبَذْل.

+ الطريق سهل طالما يوجد مُرشد مُختَبِر، وتوجد طاعة.

+ التعزية الروحية توجد دائماً حينما يوجد التواضع.

+ رأس مال الطريق الضيِّق هو التوبة.

+ النُّسك هو الصمت والصوم والصلاة الدائمة. وهذه بمثابة المصباح المُنير الذي يقود خطواتنا على مدى الطريق، حتى نصل إلى فجر الحياة الجديدة، حينما يُشرق فينا وجه يسوع الحبيب.

+ بقدر ما نموت عن الدُّنيا، بقدر ما نولَد للحياة الأبدية.

+ الرهبنة مدرسة روحية، فيها مُعلِّمنا الأعظم هو يسوع، ومُهدينا هو الروح القدس. فتتلمَذ على الإنجيل وتمِّم الوصايا، واجعل روح الله يقودك في كلِّ فكر وعمل.

+ الرهبنة هي صَلْب الذات للمسيح وصَلْب العالم، ثم التمسُّك المُطلق بوصايا يسوع للخلاص. ثم الانشغال بالحبِّ الإلهي كل لحظة بـ ”الصلاة“، ثم الامتلاء بالحبِّ لحياة الاتِّحاد الدائم بالربِّ يسوع.

+ العمل والتعب جيِّد للراهب، والجسد المُثقَّل أفضل من الروح المُثقَّلة. والرب الإله يُشرق على الروح والجسد معاً.

+ العمل والتعب والبَذْل بدون طلب آخر أو شُكر أو مديح، يجعل الراهب يرتفع عن الأرض، وكأنه يعيش في السماء، وينفتح أمامه سرُّ الصليب.

+ ليس هناك قانون مُوحَّد للحياة الرهبانية لجميع الرهبان، بل لكلِّ راهب قانونه، يُرشده له الأب الروحي الذي أَخَذَ موهبة الأُبوَّة والتدبير والإفراز.

التحوُّلات الروحية السويَّة في حياة الراهب(12):

1. التحوُّل الأول: وهو في الحقيقة ليس تعويضاً، بل هو ارتقاء:

الراهب حينما يدخل الدير - وقد وضع العالم خلف ظهره بالحقِّ - تستقبله الملائكة وأرواح القدِّيسين، كعضوٍ جديد في رعية القدِّيسين وأهل بيت الله. لقد ترك الراهب عالماً ليدخل عالماً آخر، بكلِّ المعنى الحرفي والعملي. وبقدر ما يملأ عينيه وقلبه من هذا العالم الجديد، شاكراً مُسبِّحاً فَرِحاً، بقدر ما يصغر العالم الذي تركه ويتلاشى، ويضعف جَذْبه حتى يتلاشى من قلبه. وبقدر ما يشبع من خيرات ودَسَم بيت الله، بقدر ما تُسوَّى في أعماقه قضية الحرمان مِمَّا تركه دون ارتباك، وهذا هو شُغله الشاغل كل يوم.

أما مفاعيل النعمة في الحياة الجديدة، فتعمل بقوة خفية من جهة الأهل والأقارب والأصدقاء وبقية المظاهر الاجتماعية. فتحسُّ النفس وكأنَّ فاصلاً عميقاً بدأ يفصلها عن الجميع، إذ أصبحت تابعة لعالمٍ آخر، وكأن الراهب قد دخل في سماءٍ جديدة وأرضٍ جديدة، والمسيح مركز لها جميعاً. فلا يعود الراهب قادراً أن يجمع بين القديم والجديد، لا لأنه أخفق أن يُحقِّق وجوده؛ بل لأنه يحيا وجوداً آخر روحياً يملأ عقله وفكره وحواسه، ويُشبِع نفسه شبعاً لا يستطيع أن يُضيف إليه شيئاً مِمَّا كان له. هنا تحقيق الوجود الروحي للإنسان، ينبع من وجوده مع المسيح في الحياة الجديدة. فلا يعود الراهب يشعر بأيِّ حرمان أو نقص، ولا يعود يلتفت إلى وراء. فهو مشغولٌ برؤية أمامية بعيدة جديدة لا يخفض بصره وعقله وقلبه عنها. وكلما قطع شوطاً إلى الأمام، في سعيه الروحي بالصلاة والصوم والعبادة والسهر واللهج في كلام الله؛ كلما ازدادت الرؤيا بُعْداً، وانخطف قلبه وراءها، يسعى بلا شبع.

الراهب الذي يحيا بالروح، يأكل مع كلِّ لُقمة نعمةً، ويشرب الروح مع شُرب الماء. فلا يعود يُميِّز بين اللذيذ والخسيس، لأن مذاق الروح يفقد مذاق الخَلق، وملء النعمة يكفي مع الفُتات لملء البطن. وكل ما يُقدَّم له يأكله كما من يد المسيح، فيصير له بركة. كل همِّه أن لا يتوه منه الدَّرب الضيِّق الذي سارت عليه الأجيال السابقة السعيدة، وعبروا عليه من باب المحن بلا تذمُّر، فحُسِبوا أهلاً للنجاة، وجاءهم العَوْن من الأقداس العُليا في حينه الحسن.

2. التعويض الروحي عن تَرْك الزواج، وهذا أيضاً ليس تعويضاً، بل هو ارتقاء:

الزواج مُتعة ذاتية، وراحة نفسية، وتسلية دنيويـة، ومسئولية بشرية، وشركة حياتية، وأمانـة خُلُقية، وسر الكنيسة للوحدانية الجسدية. وهي اقتسام اللُّقمة والفكرة والمسئولية، لقيام الأُسرة وتربية الخِلْفة. وحينما استصعب التلاميذ التدقيقات التي وضعها الرب من جهة الزواج، وقالوا له: «إنْ كان هكذا أَمْر الرجل مع المرأة، فلا يُوافق أن يتزوَّج»! فقال لهم: «ليس الجميع يقبلون هذا الكلام (أي عدم الزواج)، بل الذين أُعطِيَ لهم. لأنه يوجد خِصيان وُلِدوا هكذا من بطون أُمهاتهم، ويوجد خِصيان خصاهم الناس، ويوجد خِصيان خَصَوْا أنفسهم (لم يتزوَّجوا) لأجل ملكوت السموات. مَن استطاع أن يَقْبَلْ فلْيَقْبَلْ» (مت 19: 10-12). الراهب ليس كالجميع، فهو قد أُعطِيَ له أن لا يتزوَّج، حسب نص كلام المسيح. وقد عبَّر عن ذلك القديس بولس هكذا: «مَن زوَّج فحسناً يفعل، ومَن لا يُزوِّج يفعل أحسن» (1كو 7: 38). هنا الأفضلية جاءت، بحسب فكر بولس الرسول، لكي يكون اهتمام الإنسان كله للرب.

أما السرُّ الكنسي الذي يَهَب الرجل والمرأة، في الزيجة المقدَّسة، جسداً واحداً، فقد عوَّضه الراهب بسرِّ الروح القدس الذي يجعل مَن يلتصق بالربِّ يصير معه روحاً واحداً، كقول القديس بولس الرسول: «وأمَّا مَن التصق بالرب فهو روحٌ واحد» (1كو 6: 17).

الرهبنة، كـالتصاق بالربِّ، هي عطية، أي موهبة، حسب قـول الرب: «الذين أُعطِيَ لهم». والموهبة تحتاج إلى إضرام: «فلهذا السبب أُذكِّرك أن تُضرِم أيضاً موهبة الله التي فيك» (2تي 1: 6). إذن، فالموهبة حرارة من الله، تحتاج إلى إضرامها وإلهابها، وذلك بالصلاة والدموع مع الصوم والصبر في الوقوف على باب الله، والقَرْع مع الصراخ ليلَ نهار، لأن إذكاء النار الإلهية وإضرامها أَمْرٌ ثمين جداً، وهو ضمانٌ أكيد لملكوت الله.

والذي خضعت له غرائزه، يُدرك عِظَم فخر الدعوة المقدَّسة للحياة مع المسيح، كما في زيجة روحية عالية القَدْر؛ فلا تعود روحه فقط التي تتنعَّم بحضرة الرب وشهوة الحديث إليه في شركةٍ بسرٍّ لا يُنطَق به؛ بل والجسد أيضاً يَنْعَم براحةٍ وسلام في قناعة لا يشوبها إحساسٌ بحرمان.

3. التعويض الروحي عن طبيعة الأُبوَّة المُخصَّصة

لحَمْـل مسئوليـة الأُسرة في نشاطٍ باذِل ومُضحِّي:

حيث ليس هو في الحقيقة، تعويضاً؛ بل ارتقاء لِمَا هو أفضل وأعم.

هنا أيضاً، عِوَض الغرائز المُخصَّصة في الإنسان لخدمة أُسرته، والتي لا يهدأ الأب حتى يُشبعها ويُكمِّل عملها؛ يُوهَب الإنسان فيضاً من قوة غير محدودة، وموهبة أُبوَّة متَّسعة لا تستَنفِد طاقتها خدمة العالم بأَسره. ليس مصدرها الغريزة، ولا هدفها إشباع الذات لطبيعة الأُبوَّة؛ بل مصدرها المسيح العامل والمُريد فينا كأبٍ للبشرية كلها.

مِن هنا كان إصرار بولس الرسول على الدعوة لعدم الزواج، لكي يتفرَّغ الإنسان للرب العامل فيه لخدمة الجميع، كل إنسان، بلا تمييز، في غيرة متَّقدة كالنار: «مَن يضعف وأنا لا أضعف؟ مَن يعثر وأنا لا ألتهب؟» (2كو 11: 29). هنا بَذْل مع حُبٍّ مع تعب وكدٍّ مع عمل، لا على مستوى إرضاء غريزة أُبوَّة، لا إشباع مسئولية أبويَّة؛ بل موهبة أُبوَّة فائقة الحدِّ والوصف، تدفعها قوَّة إلهية فيها حنان وحُب الله نفسه.

اسمع بولس الرسول، وهو يصف نَهَمه في تحمُّل الآلام والمشقَّات على مثال المسيح نفسه؛ بل ولحسابه: «الذي الآن أفرح في آلامي لأجلكم، وأُكمِّل نقائص شدائد المسيح في جسمي، لأجل جسده، الذي هو الكنيسة» (كو 1: 24).

4. التعويض الروحي عن توريث الذات وغريزة حُبِّ البقاء في الدُّنيا:

وهذا ليس، في الحقيقة، تعويضاً؛ بل ارتقاءٌ بالروح.

الراهب قَطَعَ امتداد وجوده في العالم، وفَقَدَ بإرادته ميراثه؛ وبالتالي توريثه لِمَا عنده، لأنه ليس مَن يأخذ منه، وذلك ليرث ملكوت السموات. فهو لم يَعُد ابناً لأبيه الذي ولده بالجسد؛ بل ابناً لله في المسيح: «الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإنْ كنَّا أولاداً، فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح» (رو 8: 17،16). الجهاد في الدير هو ضد الذات القادرة أن تحرم الإنسان من كلِّ سعيه وغاية أمله، إنْ هي طلبت البقاء والخلود على تراب الأرض، وذلك حينما تطلب ما لذاتها. لهذا يُلحُّ علينا القديس يوحنا الرسول صاحب سِفْر الرؤيا، بفم المسيح: «مَن يغلب يرث كل شيء، وأكون له إلهاً، وهو يكون لي ابناً» (رؤ 21: 7).

ثم ماذا يغلب الراهب؟ إلاَّ العالم الذي لا يزال يشدُّه نحو التراب من خلال غرائزه! وماذا يرث إذا غلب؟ إلاَّ المسيح نفسه! فحينما أراد المسيح أن يُدخِل في قلبنا الشجاعة والقوَّة ضد العالم، طمأننا بقوله: «ثقوا، أنا قد غلبتُ العالم» (يو 16: 33).

هكذا قيَّم المسيح الاهتمام بالله بأنه موتٌ عن العالم. أليس على هذا الأساس قال: «إنْ أراد أحدٌ أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه ويحمل صليبه (موته) ويتبعني» (مت 16: 24)!!

( إذن، فروحانية الصحراء هي حياة حسب الإنجيل ووصايا الرب يسوع، بقيادة الروح القدس، تحت تدبير أب روحاني مُختَبِر، لتسليمه أسرار الطريق. وقد لَخَّصها الآباء في ثلاث كلمات: الفقر، والطاعة، والعفة.

ولربنا المجد الدائم إلى الآبد، آمين.


(1) Douglas Burton-Christie, The Word in the Desert, Introduction, p. 3.
(2) ”سيرة القديس أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس الرسولي“. English Translation of St. Anthony's Vita (Paulist Press, 1980).
(3) الأب متى المسكين: ”القديس أنطونيوس ناسك إنجيلي“، الطبعة الثامنة 2014.
(4) ”رسائل القديس أنطونيوس“ (مخطوط عربي، رقم 93 بالمتحف القبطي - 88 طقوس).
(5) ”رسائل القديس أنطونيوس“ (المرجع السابق).
(6) من بحث مأخوذ من مقال: Introduction to Eastern Patristic Thought and Orthodox Theology, by Constantine N. Tsirpanlis, Liturgical Press, USA, 1991.
(7) Ibid.
(8) Ibid.
(9) Ibid.
(10) Ibid.
(11) ”الحياة الرهبانية في كلمات“، مُذكِّرات خاصة لرهبان الدير، للأب متى المسكين.
(12) الأب متى المسكين: ”توجيهات رهبانية (1) التحوُّلات السويَّة في حياة الراهب، ومواطن الإخفاق والنكوص“، الطبعة الثالثة: 2008م، مطبعة دير القديس أنبا مقار - وادي النطرون.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis