عظات
وكلمات روحية


القيامة
وسر الإفخارستيا



نيافة أنبا إبيفانيوس

أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار الكبير

+ نص العظة التي ألقاها نيافته ليلة عيد القيامة المجيد 1 مايو 2016م في كنيسة القديس أنبا مقار الكبير بديره العامر ببرية شيهيت.

يُخبرنا إنجيل القديس لوقا أنه في فجر الأحد أَتَينَ النسوة حاملات الحنوط إلى القبر، فوَجَدْن أنَّ الحجر قد دُحرج، ثم رأين ملاكَيْن أخبراهُنَّ أنَّ الربَّ قام من بين الأموات. ولكن أول ظهور يُذكَر صراحةً في هذا الإنجيل، كان لاثنين من التلاميذ كانا منطلقَيْن إلى قرية تُدعى ”عِمْواس“. ففي طريقهما اقترب منهما الرب يسوع وأخذ يتكلم معهما عن آلامه وموته وقيامته، لكنهما لم يتعرَّفا عليه، إلاَّ عندما كَسَر الخبز أمامهما وهم في بيت أحدهما (لو 24: 30-31). وهكذا، كان سرُّ الإفخارستيا هو الواسطة التي بها انفتحت أَعْيُن التلميذَيْن ليتعرَّفا على الربِّ. وصارت الإفخارستيا، التي كانت تُقام يوم الأحد من كلِّ أسبوع في الكنيسة الأولى، هي واسطة استعلان القيامة، والوسيلة الأكيدة لاتِّحادنا بالربِّ القائم من بين الأموات، وهي الوسيلة الوحيدة لاحتفالنا بقيامة الرب.

[ففي الإفخارستيا نحن نأكل المسيح، نأكل المسيح القائم من بين الأموات... وكُلَّما نأكل من خبز الإفخارستيا ونشرب كأسها، نَثْبُت في قيامة المسيح وتَثْبُت قيامة المسيح فينا يوماً بعد يومٍ لنُكمِّل مشيئة الآب كأبناء للقيامة](1).

+ هناك عظة فصحية من القرن الثاني محفوظة ضمن كتابات القديس يوحنا ذهبي الفم والقديس هيبوليتس، تـربط ربطاً محُكماً بـين قيامـة الرب والفِصْح السِّرِّي، أي مائـدة الإفخارستيا المقدسة(2):

[ 1. الآن أضاءت علينا إشعاعات من النور المقدَّس للمسيح،

وأشرقَت علينا أضواء صافية من الروح القدس النقي،

وانفتحت علينا كنوز سماوية من المجد والألوهة(3).

لقد ابتُلِعَ الليل الكثيف الحالك،

وانقشع الظلام الدامس واختفى ظِلُّ الموت الكئيب.

الحياة امتدَّت وشملت كل واحد، وامتلأ الجميع من النور غير المحدود.

الفجر الجديد أشرق على الجميع،

والمسيح العظيم القوي غير المائت،

الذي قبل كوكب الصبح (مز109: 3)(4)، بل وقبل كل الأجسام المنيرة،

صار يُضيء الآن على الجميع أكثر من الشمس.

2. بسبب ذلك أَوْجَد لنا نحن المؤمنين به،

يوماً جديداً مُضيئاً عظيماً أبدياً لا ينقص نوره.

إنه الفصح السرِّي،

الذي كانوا يحتفلون به رمزياً في الناموس،

ولكنه الآن اكتمل بالتمام في المسيح.

إنه الفصح العجيب، إبداع فضيلة الله وفِعْل قوَّته(5)،

العيد الحقيقي والتذكار الأبدي الذي فيه نَبَعَ انعدام الآلام من الألم،

وعدم الموت من الموت، والحياة من القبر،

والشفاء من الجروح، والقيامة من السقوط،

والصعود إلى أعلى (السموات) من الن‍زول إلى أسفل (الجحيم)].

وبالرغم من أنَّ القدَّاس الإلهي في مُجمله هو تذكارٌ دائمٌ وحَيٌّ لموت الرب وقيامته، إلاَّ أنَّ هناك إشارةً طقسيةً رائعةً نُمارسها في كلِّ قدَّاس، خاصةً في قدَّاس القديس مرقس، لتُذَكِّرنا بقيامة الرب.

نُـلاحظ أنـه في صلـوات القـدَّاس الإلهي يتكـرر نـداء الشماس: ”للصلاة قِفوا +++ +++++++++ +++++++“. ونُـلاحظ أنَّ هـذا النداء يأتي في قدَّاس الكلمة، أو ما كان يُعرف بقدَّاس الموعوظين فقط؛ لكنه لا يأتي على الإطلاق في قدَّاس المؤمنين، الذي يبدأ بصلاة الشكر الكبرى، التي تبدأ بقَوْل الكاهن: ”الرب مع جميعكم“، ”ارفعوا قلوبكم“، ”فلنشكُر الرب“. هذا الكلام ينطبق على الثلاثة القدَّاسات المعروفة في كنيستنا القبطية: القدَّاس المرقسي، والقدَّاس الباسيلي، والقدَّاس الغريغوري.

وواضح من هذا النداء أنَّ الشماس يُنبِّه المُصلِّين هنا بأنَّ هناك صلاةً ستبدأ، وأنَّ عليهم أن يقفوا ليُشاركوا في هذه الصلاة. فالعبارة التي يستعملها الكتاب المقدس للتعبير عن التواجُد في حضرة الله بالصلاة، هي عبارة: ”الوقوف أمام الله“، فنرى ذلك سواء في العهد القديم أو العهد الجديد، أو حتى في تسبيح الملائكة في السماء:

ففي سِفْر التثنية يتكلَّم الرب عن خدمة بني لاوي أنها الوقوف أمام الله: «فِي ذَلِكَ الوَقْتِ أَفْـرَزَ الرَّبُّ سِبْطَ لاوِي لِيَحْمِلُوا تَابُوتَ عَهْدِ الرَّبِّ وَلِيَقِفُوا أَمَامَ الرَّبِّ لِيَخْدِمُوهُ وَيُبَارِكُوا بِاسْمِهِ إِلى هَذَا اليَوْمِ» (تث 10: 8)، «وَخَدَمَ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ مِثْل جَمِيعِ إِخْوَتِهِ اللاوِيِّينَ الوَاقِفِينَ هُنَاكَ أَمَامَ الرَّبِّ» (تث 18: 7).

وعندما أوصانا الرب يسوع بطقس الصلاة، قال: «وَمَتَى وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ، فَاغْفِرُوا إِنْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ، لِكَيْ يَغْفِرَ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ زَلاَّتِكُمْ» (مر 11: 25).

وعن تسبيح الملائكة يقول سِفْر الرؤيا: «وَرَأَيْتُ السَّبْعَةَ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ يَقِفُونَ أَمَامَ اللهِ، وَقَدْ أُعْطُوا سَبْعَةَ أَبْوَاقٍ» (رؤ 8: 2).

فأول أمر لإتمام الصلاة، هو الوقوف أمام الله.

وفي نهاية قدَّاس الكلمة، يُنادي الشماس في مَرَدِّ القُبْلة المقدسة، سواء في قدَّاس القديس مرقس أو في القدَّاس الباسيلي، ويقول: ”قِفوا برعدةٍ وإلى الشرق انظُروا“. وفي القدَّاس الغريغوري: ”لنقف حسناً، لنقف بتقوى، لنَقفْ باتصال، لنَقفْ بسلام، نَقفْ بخوف الله ورعدة وخشوع“. وهنا يوضِّح الشماس مَهَابَة الوقوف أمام الله.

أما إذا انتقلنا لقدَّاس المؤمنين، فإننا لا نجد أيَّ أَمْرٍ بالوقوف للصلاة، فما زال نداء الشماس في نهاية قداس الكلمة يرن في أذهاننا؛ لكن من الممكن أن نُوجِّه الشكر لله، لأنه جعلنا مستحقِّين أن نقف أمامه، مثلما نقول في مقدِّمة القسمة في القدَّاس الباسيلي: ”وأيضاً فلنشكُر الله ضابط الكل، أبا ربنا وإلهنا ومُخلِّصنا يسوع المسيح، لأنه جعلنا مستحقِّين أن نقف أمامه ونرفع أيدينا إلى فوق“.

لكننا نجد نداءً واحداً تتميَّز به قدَّاسات كنيستنا، وهو نداء الشماس في صلاة الشكر الكبرى: ”أيها الجلوس قفوا ++ +++++++++ ++++++++“. فما معنى هذا النداء؟

نُلاحظ أن تنبيه الشماس للشعب بالوقـوف في قـدَّاس الموعوظين يأتي باللغة اليونـانية +++ +++++++++ +++++++، ويُستعمل فيه الفعل ++++++، الذي معناه: ”يقف“، فيكون معنى المرد: ”للصلاة قفوا“.

أمَّا النداء في قـدَّاس المؤمنين: ”أيها الجلوس قفوا“، فإنـه يأتي أيضاً في اللغة اليونانيـة: ++ +++++++++ ++++++++، لكنه يستعمل الفعل ++++++++، والذي معناه: ”يقوم“ (هكذا ورد حوالي 112 مرة في العهد الجديد). إذاً الأمر هنا في قدَّاس المؤمنين ليس للوقوف، بل للقيام.

القدَّاس الإلهي، كما قلنا، هو الاحتفال بقيامة الرب يسوع من بين الأموات. لذلك كانت صلوات الإفخارستيا في الكنيسة الأولى تتمُّ يـوم الأحد مـن كـلِّ أسبوع، لأن يوم الأحد هو يوم الرب كما كانوا يسمُّونه. هنا الشماس يُريد أن يُذكِّر الشعب دائماً بالمناسبة الكبرى التي نجتمع من أجلها، وهي الاحتفال بقيامة الرب، فيوجِّه نداءه للمؤمنين قائلاً: ”أيها الجلوس قوموا“. لذلك لم يكن من المناسب على الإطلاق أن يأتي هذا النداء في قدَّاس الكلمة، حيث هناك مَنْ لم ينالوا المعمودية بعد، أي الموعوظين.

دعونا نتتبَّع هذا المرد في القدَّاس المرقسي. فبعد صلاة الصلح، يبدأ القداس بصلاة الشكر، التي تبدأ بالكلمات: ”لأنه بالحقيقة مستحقٌّ وعادل، ومقدَّسٌ ولائق، ونافعٌ لنفوسنا وأجسادنا وأرواحنا“، ثم تُقَدَّم صلاةُ الشكر لله على الخليقة كلها وعلى خِلْقَة الإنسان على صورة الله، ثم الشكر على تقريب الذبيحة الناطقة غير الدموية. فيرد الشعب: ”يا رب ارحم“. ثم ينتقل القدَّاس مباشرةً لصلوات الأواشي التي تبدأ بأوشية السلامة وتنتهي بأوشية الاجتماعات. أمَّا ختام أوشية الاجتماعات فيأتي هكذا: ”قُمْ أيها الرب الإله، ولتتفرَّق جميع أعدائك، وليهربْ مـن قُدَّام وجهك كل مُبغضي اسمك القدوس“. هنا يـأتي مرد الشماس: ”أيها الجلوس قوموا“. فبعد أن صلَّى الكاهن إلى الله قائلاً: ”قُمْ أيها الرب الإله“، يوجِّه الشماس النداء للمُصلِّين: ”أيها الجلوس قوموا“.

النداء هنا ليس للجالسين على الكراسي، فالشعب كله يكون واقفاً حسب نداء الشماس السابق له في مرد القُبْلة المقدَّسة، لكن النداء هنا هو نتيجة مباشرة للوعود المقدسة التي تُبشِّر الجالسين في الظلمة بظهور نور قيامة الرب يسوع، كربط أصيل للنداء المُوجَّه للرب: ”قُمْ أيها الرب الإله“. وقد أَدْرَجت الكنيسة مثل هذه الوعود في النبوَّات التي تُقرأ ليلة عيد القيامة المجيد، كما جاءت في سِفْر إشعياء: «لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ، لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ» (إش 42: 7)؛ وكما جاء في الإنجيل المقدس: «الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ» (مت 4: 16)؛ «لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ» (لو 1: 79). أو كما تقول التسبحة المقدسة، في ثيئوتوكية الأحد، القطعة الخامسة: ”وبظهوره أضاء علينا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت، وقوَّم أرجلنا إلى طريق السلام، بشركة أسراره الإلهية“.

إن نداء الجالسين في الظلمة، هو نفسه النداء على الأموات ليتمتَّعوا بقيامة المسيح، كما جاء على لسان بولس الرسول: «اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ» (أف 5: 14).

والعجيب أنه هناك إشارة غاية في الإبداع في مخطوطاتنا تُشير للمعنى الأصلي لهذا النداء، فحسب مخطوطات ترتيب البيعة(6) هناك إشارة طقسية تقول: ”في عيد القيامة وحتى نهاية الخمسين المقدسة لا يُقال المرد: ++ +++++++++ ++++++++ (أيها الجلوس قفوا)؛ بل يقولون: كيرياليسون“. فهنا نحن في احتفال عيد القيامة، ونحن جميعاً قائمون بقيامة الرب من بين الأموات، أي أننا الآن نعيش قيامة الرب وقيامتنا؛ لذلك لا يُطالبنا الشماس بأن نقوم. أمَّا في باقي السنة فيأتي المرد: ”أيها الجُلوس قوموا“، ليُذكِّرنا بقيامة الرب لنعيش حَدَثَ القيامة في كل قدَّاس على مدار العام.

+ ”المسيح قام من بين الأموات، بالموت داس الموت.

والذين في القبور (الجالسون في الظلمة وظلال الموت)، أنعم لهم بالحياة الأبدية“.

ولإلهنا المجد الدائم، آمين.

(1) الأب متى المسكين، ”القيامة والصعود“، الطبعة الأولى: 1982، ص 46.
(2) Homélies Pascalis, Un Homélie Inspirée du Traité sur la Paque, Sources Chrétiennes 27, Paris 1950, p. 117,119.
(3) عمل الثالوث القدوس في القيامة: «وتعيَّن ابن الله بقوَّةٍ من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات: يسوع المسيح ربنا» (رو 1: 4).
(4) (مز 109: 3 سبعينية = 110: 2 عب‍ري): «مِن البطن قبل كوكب الصبح ولدتُك».
(5) يقول الأب متى المسكين: [هذا السرُّ هو الأساس لكل المفاهيم اللاهوتية الخلاصية، واللاهوت كله لا يمكن أن يُفسَّر إلاَّ على أساس الإفخارستيا، ولولا الإفخارستيا لبَقِيَ الصليب غير معروف أو واضح في أذهاننا كمسيحيين، ولولا قول الرب: ”خُذوا
اشربوا هذا دمي المسفوك عنكم وعن كثيرين“، لظلَّ دم المسيح شيئاً غير مفهوم، ولم يُعْلَم لماذا سُفِكَ!] (عظة: ”الإفخارستيا والخلاص“، عظة مُسجَّلة، 1 مايو 1975).
(6) انظر: الراهب القس أثناسيوس المقاري، ”عيد قيامة المسيح مُخلِّصنا“، طبعة أولى: 2013، ص 268.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis