الافتتاحية



إرسالية الكنيسة
إرسالية كل الدهور ()



للأب متى المسكين

إرسالية الدهور كلها، مدعَّمة بسلطاتٍ سماوية فائقة لضبط الأرض وما عليها وإخضاع الإنسان لتاريخ الخلاص. فالكنيسة مغمورة بعناية من فوق وتدبير من تحت، وقوة قائدة وقوة دافعة وقوة حافظة. هي المسيحية استوطنت الزمن على الأرض لحساب السماء، لتنطلق بعد أن تُكمِّل خدمتها لتستوطن السماء إلى الأبد. متغرِّبة عن الأرض ولكنها أهل بيت الله (أف 2: 19).

وصية الإرسالية العُظمى ذات الكُلِّيَّة التي لا تُنسى:

+ «دُفِعَ إليَّ ”كلُّ“ سلطان...

اذهبوا وتَلْمِذوا ”كلَّ“ الأمم...

وعلِّموهم أن يحفظوا ”كلَّ“ ما أوصيتكم به.

وها أنا معكم ”كل“ الأيام» (مت 28: 18-20).

لقد جمعها المسيح في نَفَسٍ طويل لتملأ: ”كل قلبك“ و”كل فكرك“ و”كل نفسك“ و”كل قدرتك“.

لقد بلغت هذه الخاتمة لإنجيل القديس متى، فيما يخصُّ الاستمرار في رسالة المسيح حتى إلى أقصى الأرض وعلى مدى كل الدهور، مبلغاً من الاتساع الواعي لمستقبل ما سيكون، مِمَّا أذهل العالِم الألماني الكبير هارناك، فأخذ يقول:

[إن تعبئة هذا المانيفستو (المنشور الملكي) بهذه المعايير، جاءت كنقطة نادرة كتبها القديس متى وله في أعماقه تقييمٌ وانطباعٌ عن شخص المسيح وعظمته، وما سوف يكون مستقبل عمله العظيم بوضع لا يمكن مجاراته ... فالإنسان لا يملك أن يقول أعظم من هذا وبمنطق أكبر من هذا](1).

الكُلِّيَّةُ(2) الأُولى:

18:28 «فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً: دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ».

لم يعبأ المسيح بشكوكهم (شكوك التلاميذ)، بل تقدَّم هو بالرغم من تراجعهم هم. لم يُدخِل في حسابه ما ينقصهم، لأن عنده ما يُغطِّي حاجتهم ويزيد. فإن كانوا قد رأوه لا يملك أسباب التصديق الكامل لقيامته، فهو قد مَلَكَ لهم ومن أجلهم كل السلطات في الأعالي وعلى الأرض. فلا يهمُّ ما عجزوا عـن استيعابه، إذ قد استوعب لهم كل سلطان في السماء وعلى الأرض، ليكون عوناً لهم في كل حين، ومصدر قوة وبرهان ويقين، ليُثبِّتوا به قلوب الملايين ويردُّوا التائهين.

واصطلاح «تقـدَّم يسـوع وكلَّمهم proselqën ? 'Ihsoàj ™l£lhsen a?to‹j» قيـل في مـرَّة سـابقة في (مت 17: 7) في موضـوع التجلِّي، إذ كُتب: «فجاء يســوع ولمسـهم pros?lqen ? 'Ihsoàj kaˆ ?y£menoj a?tîn». وهنا يظهر لنا مدى السريَّة المحيطة بهـذا الفعل في هاتين المناسبتين. فهنا تقدُّم المسيح هو بمعنى ارتفع بهم إلى مستواه. فكما ارتفع بهم إلى مستواه وهو في حال التجلِّي: «ولمسهم وقال: قوموا ولا تخافوا»، لأنهم كانوا قد «سقطوا على وجوههم وخافوا جدّاً» (مت 17: 7،6) حتى يُزيل ما اعتراهم من عجز وقصور عن اللحاق به؛ هكذا حدث تماماً، وبنفس الأسلوب والمعنى والمستوى، في حال ظهور المسيح للأحد عشر وبعضهم في حالة شكٍّ! حتى يمدَّهم بتيار من مجاله المرتفع ليُسدِّد عجز إيمانهم ورؤيتهم!

وفي الحالتين كان موات التلاميذ مُعطِّلاً عن بلوغهم التجلِّي أو القيامة، وهذا حال أولاد المائتين، فمِن أين لابن التراب أن يَقْوَى على التطلُّع في وجه ابن السماء أو ربِّها؟ وهل يرى الفاسد عدم فساد برؤيا كلِّيَّة أو كاملة؟؟ فإن كان موسى لم يؤتَ من القوة والنعمة ما يؤهِّله لرؤية وجه الله في مجده: «فقال (موسى) أَرني مجدك»، فكان الرد: «أُجيز كل جودتي قدَّامك ... فتنظر ورائي، وأمَّا وجهي فلا يُرَى» (خر 33: 23،19،18). فإن عَجَزَ التلاميذ الأحد عشر عن أن يَرَوْا قيامته بالرؤية الصافية وهي قمة استعلانه، فكان عليه أن يجوز بكل جوده أمامهم: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتَلْمِذوا جميع الأُمم». فعِوَض المشاهدة - للبعض - أُعطوا من لَدُنْه سلطان الشهادة بقوة من السماء ونعمة من الأرض ليُتلْمِذوا جميع الأُمم. فمَن أعوزته المشاهدة، تكفيه الشهادة لِمَن مَلَكَ السلطان في السموات وعلى الأرض. فالربُّ قد مَلَكَ ولَبِسَ القوة وتمنطق بها (مز 93: 1)، وصارت الأرض كلها للرب ومسيحه (رؤ 11: 15)، «فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة، وكل اسم يُسَمَّى ...» (أف 1: 21)، «وأمَّا عن الابن: كُرسِيُّكَ يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب مُلْكك» (عب 1: 8).

والابن ليس مجَّاناً قد حاز على كل مجد الآب وجلس عن يمينه، بل لأنه «أخلى نفسه آخِذاً صورة عبد صائراً في شِبْه الناس ... وَضَعَ نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفَّعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل رُكْبة مِمَّن في السماء ومَنْ على الأرض...» (في 2: 7-10).

أخلى ذاته من مجد الأُلوهة ليأخذ خطايانا ويُكفِّر عنها بدمه ويرتفع بنا إلى مكانه الأول. هنا المسيح يُكلِّم تلاميذه من مكان مجده الذي كان له قبل إنشاء العالم، ليُوقظ قلوبهم النائمة أنه ليس لنفسه يتكلَّم ولا لنفسه ينسب مجده، بل لهم الذين عسر عليهم أن يتعرَّفوا عليه مصلوباً ولا قائماً من بين الأموات. وهكذا تجاوز المسيح جهلهم ليجذبهم إلى نعمة حكمته لأنه - لهم وليس لنفسه - صار في المجد الذي كان له وصار لهم. وإن كان قد عسر عليهم أن يفهموا مَنْ هو الذي أقام لعازر من الموت أو ابنة يايرس وهو قائمٌ أمامهم، فليعرفوه الآن وهو يُقيم البشرية كلها من الموت الذي تملَّك علينا، ويدين الذين لا يعترفون بأنَّ «يسوع هو ربٌّ لمجد الله الآب» (في 2: 11).

والآن يُدرك القارئ جيداً: لماذا قدَّم المسيح كُلِّيَّته الأُولى على السماء والأرض، ليُسلِّم تلاميذه الشكَّاكين كلِّيَّة رسالتهم الأُولى على كل الأُمم!!

الكُلِّيَّةُ الثانية:

19:28 «فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا (كلَّ) جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ».

”الفاء“ في بداية الكلام ”فاذهبوا poreuq?ntej oân“ تُفيد معنى: الآن، وأنا قد دُفِعَ لي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا!! فليس ذهابهم عبئاً على أنفسهم ولا هو سُخْرة يأخذون أَجْر أتعابها، بل من المجد الذي لي (للمسيح) يأخذون وبالسلطان الذي دُفع إليَّ في السماء وعلى الأرض يتسلَّطون بالنعمة والروح القدس وباسم الآب، وبه يكرزون ويُعمِّدون. والآن تأتي ”كل“ الأُولى لترتاح على ”كل“ الثانية. فكلُّ سلطان الابن صار هو العامل في التلاميذ لكل الأُمم. فالكلُّ الثانية كابنٍ للكلِّ الأُولى ترضع من تعزيات السماء وتشبع وتُغني عن جوع. فكلُّ سلطان المسيح حطَّ على كل الأُمم ليصنع منهم شعباً مُبرَّراً:

+ «وأمَّا أنتم (كل الأُمم) فجنسٌ مختارٌ، وكهنوتٌ ملوكيٌّ، أُمَّةٌ مقدَّسةٌ، شعبُ اقتناءٍ، لكي تُخب‍روا بفضائـل الذي دعاكم مِن الظلمةِ (الوثنية) إلى نورهِ العجيب. الذين قبلاً لم تكونوا شعباً، وأمَّـا الآن فأنتم شعبُ الله. الذيـن كنتم غير مرحومين، وأمَّا الآن فمرحومون» (1بط 2: 10،9).

«فاذهبوا»:

هي قوة دَفْع نَطَقَ بها المسيح من مصدر سلطانه، لتبقى معهم وتدوم حتى آخر لحظة من حياتهم وحياة العالم. فقد أَخَذها المسيح كمهمَّته الأخيرة والعُظمى أن يضع العالم على ذِرَاعي الصليب ليستمدَّ من موته وحياته حياةَ الأبد عِوَض موت الخطية والعار. «فاذهبوا» هنا هي بمثابة نفخة من روح المسيح تُبيد الشيطان وتُقيم الميت، يُصوِّرها القديس يوحنا هكذا: «ولَمَّا قال هذا، نَفَخَ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس» (يو 20: 22). أمَّا القديس لوقا فقد وضعها وضعاً حركياً بديعاً، إذ أمهلهم قليلاً حتى أرسل لهم هذه القوَّة المحسوسة بل المنظورة لتسكن قلوبهم وعقولهم وأرواحهم: «وها أنا أُرسِل إليكم موعد أبي. فأقيموا في مدينة أُورشليم إلى أن تُلْبَسُوا قوَّةً من الأعالي» (لو 24: 49). وهكذا بالحقِّ والفعل، سلَّمهم المسيح هذه القوة الديناميكية التي تستمدُّ نورها ونارها من السماء، لتصنع لها تياراً من النعمة لا يكفُّ ولا يهدأ، حتى يخرج من أفواههم وقلوبهم رجاءٌ حيٌّ يُقيم ويدوم حتى آخر إنسان في العالم.

وهكذا تحوَّل كل سلطان المسيح لخدمة خلاص كل إنسان في العالم.

«وتَلْمِذوا»: maqhte?sate

الملاحَظ هنا عدم استخدام أيٍّ من الاصطلاحات المعروفة للإرسالية: اخدموا، اربحوا، جدِّدوا، عظوا، علِّموا، ولكن تَلْمِذوا؛ مع أنه أبطأ جميع أفعال الكرازة والبشارة والتعليم، فهو مَدرسيٌّ للغاية. والمعنى تربية مسيحية بالكامل كإنشاء مدارس للتعليم المدرسي البطيء لإخراج تلاميذ جُدُد للرب، على الأقل ثلاث سنوات ونصف، كما تتلمذوا هم جالسين حول المعلِّم آكلين شاربين نائمين سائرين مسافرين برّاً وبحراً. إنها مُشاركة حياة لحياة لتسليم أصول الحياة الجديدة. فهي تشمل التبشير لكل القامات ليبلغ الجميع إلى ملء قامة المسيح. وهذا يعني أنه على أساس الرسل أنفسهم، والأنبياء، والمسيح حجر الزاوية، تُبنى النفس وتنضج هيكلاً للرب. فهي مهمة جديدة في مفهوم التعليم، لأنها كبناءٍ روحي يحتاج إلى بنَّائين حاذقين بأصول تربية الطفل والصبي والشاب والرجل والكهل. كل القامات تخضع لإعادة بناء روحي من القاعدة. هنا عمل الروح القدس أساسي، الذي يُخاطب أعماق النفس، ويبني الروح قبل العقل، والمشاعر قبل الجسد، والضمير الصالح الطيِّب الذي هو رقيب السماء في هيكل الإنسان. حيث تأتي المعمودية كختم مرور نحو السماء وقبول تبنِّي بالروح للحصول على شركة أمينة وصادقة مع المسيح في جسده كعضو ملتحم بالأعضاء.

على أنَّ أهم ما تُوحي إليه كلمة التلمذة عِوَض الكرازة والبشارة والخدمة، هو التعبير عن بناء الشخصية. فالمسألة ليست معارف ومفهومات ومُسلَّمات، بل بناء شخصية حيَّة مُتفاعلة بالروح مع المسيح والآب. المسيح هنا يكشف عن مفهوم حيوي جديد للكرازة، وهو ميلاد حقيقي لشخصيات جديدة روحية حيَّة ونَشِطَة وعاملة بالروح، التي يُعبِّر عنها بولس الرسول بقوله: «ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوف (بدون برقع الناموس)، كما في مرآةٍ، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها (من قامة إلى قامة)، من مجدٍ إلى مجد، كما من الرب الروح» (2كو 3: 18). وكحَبَّة الحنطة التي تنمو حتى تأتي بالثمر، أو الهيكل الذي يُبنى: «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية، الذي فيه كلُّ البناء مُرَكَّباً معاً، ينمو هيكلاً مُقدَّساً في الرب. الذي فيه أنتم أيضاً مبنيُّون معاً، مسكناً (هيكلاً) لله في الروح» (أف 2: 20-22).

+ «... مُتمسِّك بالرأس الذي منه كلُّ الجسد بمفاصل ورُبُط، متوازِراً ومُقترناً ينمو نموّاً مـن الله» (كو 19:2).

+ «صادقينَ في المحبة، ننمو في كلِّ شيءٍ إلى ذاك الذي هو الرأس: المسيح، الذي منه كلُّ الجسد مُرَكَّبـاً معاً، ومُقترِنـاً بمؤازَرةِ كلِّ مَفْصلٍ، حَسَبَ عملٍ، على قياسِ كُلِّ جُزءٍ، يُحصِّلُ نموَّ الجسد لبنيانه في المحبة» (أف 4: 16،15).

هذا النمو الذي يُركِّز عليه القديس بولس هنا هو صنفان: نمو فردي على مستوى الاتحاد والنمو في المسيح يسوع، ونمو المؤمنين بالمسيح معاً لتكوين جسد المسيح الذي هو الكنيسة. فالتلمذة التي يقصدها المسيح تجمع هذين النموين معاً: نمو في المسيح، ونمو في الكنيسة؛ تماماً كما كان الرسل. فالتلمذة تجمع بين النمو في الحياة الفردية الخاصة، والنمو الجماعي معاً بصورة صحيَّة سليمة. فالذي يُخفق في أن يبني نفسه في الرب ويلتصق به شخصياً بالحب والأمانة الذاتية، يستحيل أن يصنع مع الآخرين نموّاً في جسدٍ واحد للجماعة. لذلك، التأكيد هنا على التلمذة إشارة إلى استمرارية عمل المسيح بين الأفراد لإنشاء وحدة واحدة من أفراد. وهذا منتهى قَصْد الإيمان المسيحي وعمل الكنيسة في العالم:

+ «لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة، لبُنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله - إلى إنسان كامل - إلى قياس قامة ملء المسيح ... صادقين في المحبة ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس: المسيح» (أف 4: 12-15).

فإن أردتَ أن تتصوَّر حقيقة حال الكنيسة في أحسن درجاتها، يمكنك أن تتذكَّر حال التلمذة في المسيح مع الرسل كما سجَّلها الإنجيل؛ حيث عبَّر عنها المسيح بأنها مهنة شريفة مقدَّسة هي مهنة صيد بكل فنونها، ولكن ”صيد الناس“، السمكات الكبيرة المقدَّسة، حيث التلاميذ أعضاء مهنة مقدَّسة واحدة يتبعون نظاماً وقانوناً واحداً لا يَحيدون عنه؛ يقودهم فيه الصيَّاد الأعظم الذي طرح شبكته على العالم، وهو عتيدٌ أن يسحبها وشيكاً من بحر العالم على شاطئ الأبدية، ويفرز الجياد لحساب أبيه.

«كل الأُمم»: p£nta t¦ œqnh

طموح المسيح هنا يفوق كل ما جاء في التوراة التي انطوت على أُمة واحدة خسرتها في النهاية وخرجت بلا شعب. هنا كل الأُمم مرة واحدة! نعم، كل الأُمم، وليس أقل من كل الأُمم. فالشيطان أراد أن يمنح المسيح عالمه آنئذ الذي كان يُعَدُّ على أصابع اليد إنْ هو تنازَل عن مُلْكه السماوي وسجد له، فآل المسيح على نفسه أن يُسْقِطه (الشيطان) من هذا العالم، وراهن وهو مذبوح على صليبه بالعالم كله وبكل أُممه. فالدم الذي سَكَبَه على الصليب هو كفؤٌ بكل قوة ومعنى وحساب أن يفدي العالم كله من كل خطاياه، إنْ قَبِلَ العالم أن يؤمن به!! والآن هو مُرسِلٌ تلاميذه القلائل، ولكن وَضَعَ فيهم من روحه حتى تبقى الرسولية قائمة بهم وفيهم إلى آلاف السنين، إلى أن تبلغ الكلمة من أقصى السموات إلى أقصاها، فيراه كل بشر حتى وإن كان ”الإيمان ليس للجميع“؛ حيث سيتبرهن لكل قلب أن الذين آمنوا هم حقّاً كل العالم، وأنَّ ”الجميع“ هم ”الجميع الكلِّي“ بدون الذين ليسوا من الجميع (أي الذين لم يؤمنوا)! فاللاشيء لا يُحسَب شيئاً!! لأن كلمة الله ثابتة على ممر الدهور، وما وعَدَ به الله إبراهيم قائمٌ، وقد حقَّقه ”نسله“ - المسيح - حسب الوعد: «ويتبارك في ”نسلك“ (مفرد) جميع أُمم الأرض»(3) (تك 22: 18). والآن قد بدأ تنفيذ الوعد: «تَلْمِذوا جميع الأُمم»!! وهكذا انتهى الإنجيل من حيث بدأت التوراة!! وتمَّت نبوَّة إشعياء النبي عن المسيح في وسط السنين:

+ «أنا الرب قد دعوتك بالبر، فأُمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأُمم» (إش 42: 6).

+ «فقد جعلتُك نوراً للأُمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض» (إش 49: 6).

كما تمَّت نبوَّة دانيال النبي عن ابن الإنسان:

+ «فأُعطي سلطاناً (ابن الإنسان) ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب والأُمم والألسنة. سلطانه سلطانٌ أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض» (دا 7: 14).

وردّاً على هذه الإرسالية الأُولى لكل الأُمم لتأخذ طريقها إلى كافة بلاد العالم، نقول إنَّ الكنيسة تقاعست أخيراً عن إرساليتها العُظمى، واكتفت كل كنيسة بواقعها داخل حدودها، وانخمدت نار الإرسالية المسكونية التي ألهبت صدور الأجيال الأُولى والأخيرة على السواء، وحلَّت محلها حركات السياحة المسكونية، وربما الجاسوسية المسكونية، لاستغلال الأُمم الضعيفة وابتلاع الكنائس المحتضرة. وإن كنا نصرخ: لماذا تأخَّر الرب عن مجيئه؟ لأننا تراخينا عن حَمْل الشعلة إلى البلاد البعيدة؛ إذ لا يأتي الرب إنْ لم يصل الإنجيل إلى كافة أطراف الأرض، ويُصيِّر تلاميذ له ينتظرونه في كل أُمم العالم. وصوت الرب لا يزال يُطالِب: ”اطلبوا من ربِّ الحصاد أن يُرسِل فَعَلة إلى حصاده، لأن الحصاد كثير والفَعَلَة قليلون“ (مت 9: 37). فإن صحَّ هذا القول على مدى إسرائيل أيام الإنجيل، فكيف الحال الآن والقيامة أُعلنت لكل العالم والحصاد أصبح بالأُمم وليس بالأفراد!

أمَّا العلماء الذين ينتقدون صحة هذه الإرسالية العُظمى مع بقاء زمانها قبل سِفْر الأعمال، لأن في ذلك الزمان كانت الكرازة لمدنٍ في الأُمم كأنها بدعة جديدة؛ فكيف يفسِّرون قول القديس بولس عن القديس بطرس الأول بين التلاميذ إنه رسول ختان أي لليهود فقط، وانقسم التلاميذ إلى: رُسُل ختان (عددهم 12)، ورسول أُمم واحد!! «إذ رأوا أني اؤتُمِنْتُ على إنجيل الغُرْلة (الأمم) كما بطرس على إنجيل الختان» (غل 2: 7)؟ إلى هؤلاء العلماء نقول: بل اسألوا واندهشوا أنَّ هذا الكلام قيل بحذافيره لتلاميذ ”شكُّوا“ (مت 28: 17) في القيامة؟؟ أليس هذا يُوضِّح أشد الوضوح أن موضوع الكلام يفترق زمناً ويفترق فكراً ويفترق قدرةً وتنفيذاً عن أيام التلاميذ هذه وهم في حالة شكٍّ من القيامة؟ الذي يعني أننا قبل يوم الخمسين بخمسين يوماً، والعقول عن النور مُعتمة وبغياب الروح غارقة في أفكار وظنون وخوف ورعدة! أو اسألوا سفن الصيد التي ضبطها المسيح وهي تحمل بطرس ومعه ستة تلاميذ آخرين يصطادون قيئهم من جديد!!

إذن، فالوصية العُظمى هنا، بالإرسالية لكلِّ الأُمم، سُجِّلت قبل أوانها للكنيسة، كما سُجِّل عشاء الفصح والدم المسفوك قبل الفصح وقبل الصليب، حتى إذا كان تؤمنون يا سادة. فالروح حينما يتكلَّم وحينما يُعلِّم، لا يحدُّه الزمان والمكان. فالأُمم في نظر المسيح المُقام: «هوذا الأُمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان (الذي لا يحسبه الميزان) تُحسَب... كل الأُمم كلا شيء قدَّامه. من العدم والباطل تُحسَب عنده» (إش 40: 17،15). ولكنه جاء وصُلِبَ من أجلها عن اهتمامٍ ورضا ومسرَّة.

فإن كان إشعياء قد أحسَّ بالقيامة والإرسالية القادمة لكل الأُمم قبل موعدها بسبعمائة سنة، أَلا يحسُّها المسيح، وهو ربها ومُرسلها قبل ميعادها بخمسين يوماً!

+ «فقال لهم: ”ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه، لكنكم ستنالون قوَّةً متى حلَّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً في أُورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض. ولَمَّا قال هذا ارتفع وهم ينظرون» (أع 1: 7-9).

(1) A. Harnack, Frandemoelle, 49, cited by F.D. Bruner, Matthew, A Commentary, p. 1094.
(2) هي وصف لكلمة ”كل“ التي وردت في مت 28: 18-20: «فتقدَّم يسوع وكلَّمهم قائلاً: دُفِعَ إليَّ كل سلطان... فاذهبوا وتَلْمِذوا جميع (كل) الأمم».
(3) شرح «وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض» (تك 12: 3)؛ «ويتبارك به جميع أُمم الأرض» (تك 18: 18).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis