مفاهيم كتابية



عن الكم والكيف
- 2 -

+ أوضح الجزء الأول من هذا المقال (عدد مايو 2015، ص 55)، أنَّ التعليم الكتابي يتجاوز الكم ومعناه المتَّسع، ويدعونا ألاَّ نقف عند حدود الظاهر والشكل والعدد والحرف والجسد، وأن نهتم بالكيف والباطن والقيمة والقلب والروح، فهذا هو ما يُعتَدُّ به وما يبقى. وقد طبَّقنا هذا التعليم في مجال الصلاة والصوم. ونستكمل في هذا الجزء ما يتصل بالعطاء.

+ عن العطاء:

ينبغي أن يوقر (وَقَرَ: أي ”وَقَعَ وبَقِيَ أَثره“ بحسب المعجم العربي الأساسي) في الذهن أنه مهما كان عندنا من مال وممتلكات، فنحن في الحقيقة لا نمتلك شيئاً، وأنَّ الله هو مالك ومُعطي كل شيء: «لك الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها» (مز 24: 1).

وعندما يطلب الرب منَّا أن «هاتوا العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام»، فهو لا يقف أمامنا محتاجاً، ولكنها محبة الله ولُطفه أن يحثنا أن نُعطي كأنما نحن مَن نملك. وهو عندما حدَّد في العهد القديم ما يطلبه بالعشور، ولكي يُشجِّع الإنسان أن يستجيب ويُعطي، قال: «هاتوا... وجرِّبوني»، فسوف أَرُدها لكم أضعافاً، وأكثر من ذلك: «إنْ كنتُ لا أفتح لكم كوَى السماء، وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع» (ملاخي 3: 10).

كما قال الرب أيضاً: «أَعْطُوا تُعْطَوْا، كيلاً جيداً مُلبَّداً مهزوزاً فائضاً يُعْطُون في أحضانكم» (لو 6: 38). على أننا ينبغي أن نذكر الحقيقة ونقول لإلهنا: عفواً، «لأن منك الجميع، ومِن يدك أعطيناك... ولك الكل» (1أي 29: 16،14).

وبالتالي، مـن نـاحية المبدأ، يصير تقديم العشور إلى بيت الله أمراً إلهيّاً واجب الطاعة، وغير قابل للمساومة، أو التثاقُل، أو التشاغُل، أو الاعتذار بأنَّ الظروف لا تسمح، فهذه تصرُّفات مَن يملك. أما ما دام المال مال الله، ونحن فقط مجـرَّد وكـلاء عنه، لإنفاقه فيما ينبغي بغير إسراف أو تقتير؛ مِن هنا تصبح العشور الحدَّ الأدنى للعطاء، وأنَّ مَن يمنع عن الربِّ عشوره فهو كمَن يسلبه (ملاخي 3: 8).

+ على أنَّ الرب بيَّن أنَّ الأمر ليس تنفيذاً شكلياً للوصية، كمَن يصلُّون بالشفاه، والقلب مبتعدٌ عن الرب بعيداً (مت 15: 8؛ مر 7: 6)، فلا يصير العطاء هنا من أعمال الإيمان والمحبة، وإنما مجرد فريضة يصير إتمامها كيفما اتَّفق هدفاً في حدِّ ذاته، مثل هؤلاء الذين ذكرهم المسيح وهم لا يفوتهم أن يُعشِّروا حتى النَّعْنَع والشبث (والسَّذاب وكل بَقْل) والكمـون، بينما هم يتركـون الأعظم و«أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان (الحق ومحبة الله)». فتقديم العشور لا يُجدي إنْ لم يكن مسنوداً بالإيمان المستقيم والرحمة الصادقة ومحبة الحق، ولن يغني الواحد عن الآخر: «كان ينبغي أن تفعلوا هذه ولا تتركوا تلك» (مت 23: 23؛ لو 11: 42).

+ على أنَّ المسيح، المُبشِّر بعهدٍ جديد للإنسان مع الله، قال في مجال العطاء: «إنكم إنْ لم يَزِدْ برُّكم على الكَتَبَة والفرِّيسيين لن تدخلوا ملكوت السموات» (مت 5: 20)؛ بمعنى أنه إنْ لم يتَّسع القلب، فيحب الله أكثر من النفس والممتلكات، وبالتالي أن يتجاوز حد العشور ويُعطي مثل إلهه «بسخاء» (يع 1: 5) و«بسرور» (2كو 9: 7)؛ فلن يستحق الشخص أن يكون تلميذاً للمسيح ووارثاً للملكوت.

+ ولكن الأمر، بحسب المسيح، ليس فقط يتجاوز العشور ومحدودية العطاء؛ بل إنَّ الوصية تمتدُّ إلى «مَن سألك فأَعْطِهِ، ومَن أراد أن يَقترض منك فلا ترُدَّه... ومَن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً... ومَن أخذ الذي لك فلا تُطالبه» (مت 5: 42؛ لو 6: 30،29).

فالمسيح يريد أن يكون المسيحي مثله: سفيراً إلى العالم، ينثر الحب والرحمة والعطاء وسد الإعواز، ليس فقط لمَن يسأله أو يقترض منه؛ بل ومَن يريد أن يأخذ الذي له، دون انتظار المكافأة أو المقابل:

+ «وإن أقرضتم الذين تَرْجُون أن تستردُّوا منهم، فأيُّ فضل لكم؟ فإنَّ الخطاة أيضاً يُقرِضون الخطـاة لكي يستردُّوا منهم المِثْل... بل... أحسنوا وأقرِضوا وأنتم لا ترجون شيئاً، فيكون أجركم عظيماً وتكونوا بني العَليِّ... فكونوا رُحماء كما أنَّ أباكم أيضاً رحيمٌ» (لو 6: 34-36).

ولا شكَّ في صعوبة هذه الوصايا وإمكان تنفيذها، ولكن صاحب الوصية يُدرك أيضاً قصورنا، فيحمل مع المؤمن عبء تنفيذها بنعمته؛ كما أنَّ الله، باعتباره صاحب المال، هو الذي سيملأ ويعوِّض ما نقص من صندوق العطاء.

+ ربما مع بدء العلاقة مع المسيح قد يقتصر الأمر على تقديم العشور بالضبط. ولكن كلما زادت المحبة، وانتعشت الحياة الروحية، يتشدَّد الإيمان وتنمو الثقة في الله، وبالتالي تتضاءل قيمة المال والأشياء.

وهكذا يصير العطاء السخي والاستجابة التلقائية لمَن يسألنا شيئاً أو قرضاً، بهجة للقلب؛ وفي نفس الوقت، يفيض الرب بالبركة على المؤمن وعلى بيته سلامـاً وفرحـاً وخيراً: «مَـن يزرع بالبركات، فبالبركـات أيضاً يحصـد» (2كو 9: 6)، كمـا يتمتع بمحبة الله: «المُعطي المسرور يحبُّه الله» (2كو 9: 7)، وتتأكَّد بنوَّته لله.

+ الله يفرح بالعطاء الكريم بغير تحفُّظ، وبنفس مبتهجة شاكرة لله أنه أتاح لها أن يكون عندها ما تُعطيه.

ولكن الله يتأسَّف بإزاء الذين يعطون بالشُّح، ونصيبهم من عطايا الله الغَني بالتالي سيكون شحيحاً: «مَن يزرع بالشُّحِّ فبالشُّحِّ أيضاً يحصد» (2كو 9: 6).

+ والله يُشدِّد على ألاَّ يكون العطاء لحساب الذات، أو سعياً لمديح الناس، أو طلباً لمقابل فيرتبط العطاء بالأَخذ، فهذا كله يعني أنَّ العطاء ليس مُقدَّماً لله. هكذا قال الرب في موعظته على الجبل، وهـو يديـن المظاهر المُصاحبة لتقديم الصدقة في ذاك الزمان:

+ «احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قُدَّام الناس لكي ينظروكم، وإلاَّ فليس لكم أَجرٌ عند أبيكم الذي في السموات. فمتى صنعتَ صدقةً فلا تُصوِّت قُدَّامك بالبوق، كما يفعل المُراؤون في المجامع وفي الأَزقَّة، لكي يُمجَّدوا من الناس. الحقَّ أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم! (فقد أخذوه من الناس ومِن رضاهم عن أنفسهم)، وأمَّا أنت فمتى صنعتَ صدقةً فـلا تُعرِّف شمالك مـا تفعل يمينك، لكي تكون صدقتك في الخفاء. فـأبوك الذي يـرى في الخفاء هـو يُجازيك علانيةً» (مت 6: 1-4).

والقصد أنه إذا كان مطلوباً عند العطاء ألاَّ تعرف شمالي ما تفعل يميني، كأني أخفي العطاء عن نفسي، فلا تمتلئ بالرضا والزهو، فبالأَوْلَى أن يُخفَى هذا الأَمر عن الآخرين، ليكون مُقدَّماً لله وحده، وهو الذي سيُجازي «كل واحد كما يكون عمله» (رؤ 22: 12).

+ كما أنَّ الله يرفض عطايا الذين يُقدِّمون، ولو كثيراً، وإنما عن اضطرار أو تحت ضغط الحرج من الآخرين، كما فعل حنانيا، الذي لمَّا رأى الكل يبيعون ممتلكاتهم من حقول أو بيوت ويأتون بأثمانها عند أرجل الرسل، وجد نفسه مضطراً لأن يبيع الحقل الذي يملكه. ولكن لأن نيته لم تكن صافية، فقد احتجز جانباً من ثمن الحقل، بعلم امرأته سفيرة، وأتى بباقي الثمن ووضعه عند أرجل الرسل، مُدَّعياً أنه كل الثمن، كما فعل الآخرون، حتى لا يبدو مختلفاً عنهم.

ولأن الله لا ينظر إلى حجم العطاء، وإنما هو «ينظر إلى القلب» (1صم 16: 7) واستقامة النيَّة مع الإيمان والمحبة، فلم يجد الكثير الذي أتى به حنانيا قبولاً عند الله، الذي رفض عطاءه بصورة علنية، وسمح لبطرس أن يردَّ له فضته، واعتَبَر ما فعله اختلاساً من ثمن الحقل، وتدبيراً من الشيطان، وكذباً على الروح القدس. فالله لا يحتاج إلى تقدمات المُرائين والجُبناء والكاذبين والمُدَّعين، وهكذا حَكَمَ بالهلاك على حنانيا.

كما كان لسفيرة امرأته أيضاً نفس المصير. فهي جاءت وهي لا تعرف بما جرى لزوجها. ولما سألها بطرس إن كانا قد باعا الحقل بهذا المقدار، فأقرَّت بذلك. ويا ليتها قالت الحقيقة، فلو فعلتْ ذلك لأفلتتْ من حُكْم الموت الذي سمعته بأُذنيها: «ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب؟ هوذا أرجُل الذين دفنوا رجُلكِ على الباب، وسيحملونكِ (فاقدة الحياة) خارجاً»، لتُدفن بجوار رجلها (أع 5: 1-10).

+ الصورة الضدُّ نراها عندما جلس الرب في الهيكل تجاه الخزانة «ينظر ”كيف“ يُلقي الجمع نُحاساً في الخزانة؟». وكان أغنياء كثيرون يلقون كثيراً، وكأنهم يتفضَّلون على الله بما أفاضه عليهم. ثم جـاءت أرملة فقيرة بـدا أنها تحب الله، ولكن ما معها كان قليلاً. مِن هنا فهي دخلت الهيكل على استحياء، ثم ألقت فلسين (قيمتهما رُبع)، ولعلها أرادت أن تفرَّ بعدها خجلاً من ضآلة ما قدَّمته.

على أنَّ الرب نظر إلى عطائها، وأنها لم تحجب القليل، الذي هو كل ما كان عندها، عن الله الذي تحبه. فدعا تلاميذه مُقدِّراً عطاء الأرملة بما يُثير الدهشة، إذ قال لهم إنَّ هذه الأرملة «ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة»، كيف؟! فقال لهم: «لأن الجميع من فضلتهم (مما فاض عندهم من دخولهم الكبيرة) ألقوا في قرابين الله، وأمَّا هذه فمِن إعوازها (أي مِمَّا لا تزال تحتاجه) ألقت كل المعيشة التي لها (كل ما عندها)» (مر 12: 41-44؛ لو 21: 1-4).

فالأغنياء رغم كثرة ما أعطوا، أعطوا بالشُّحِّ؛ أمَّا الأرملة على قلة ما أعطته، فإنها أعطت بسخاء.

فليس القليل أفضـل مـن الكثير، ولا الكثير أفضل من القليل؛ ولكن المهم أن يكون العطاء، القليل أو الكثير، من نفس مؤمنة متضعة تفرح بالعطاء، وتُدرك أنها تُعطي لله مِمَّا لله، وليس مِن عندها قلَّ أو كثر.

+ مع هذا فإنَّ بعض مؤسساتنا تحفل بـأصحاب الكثير، وتغضُّ الطرف عـن مـدى إيمانهـم وانتمائهـم للمسيح وطاعـة وصيتـه، والتزامهم بالتوبة الدائمة، والسلوك بالاتضاع، فما يهمُّ هنا هو ”الكم“ الذي يسهم في ارتفاع المباني وتمويل المشاريع. وهم في هذا يتنكَّرون لناموس المسيح الذي لا يحفل بالكَم والظاهر، وإنما بالدوافع وكونها روحية أو جسدية، وأن يكون القلب صادقاً مستقيماً يقتاده الروح.

وقد ألمح القديس يعقوب إلى مثل هذه العيوب، في مواقع بعينها في الكنيسة الأولى، كانت تُحابي الأغنياء المتسلِّطين، وتحتقر الفقراء، في نهج يُضاد شريعة المسيح ولامهم قائلاً: «أَمَا اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان، وورثة الملكوت الذي وَعَدَ به الذين يحبُّونه؟» (يع 2: 5)، ودانهم بأنهم إذ يتعدُّون الوصية: «تحب قريبك كنفسك»، فإنهم ”يفعلون خطية“، ومَن «عثر في واحدة، فقد صار مُجرماً في الكلِّ» (يع 2: 10).

(+(+(

والكلام هو لنا أيضاً. وليت روح الله يهبنا أن نفرح بالعطاء، وأن يتَّسع قلبنا بمحبة الله، كي نرى شخص الرب فيمَن تضعه النعمة أمامنا لنُعطيه أو نُقرضه: «لأني جُعتُ فأطعمتموني. عطشتُ فسقيتموني. كنتُ غريباً فآويتموني. عرياناً فكسوتموني» (مت 25: 36،35).

(للمقال بقية)

دكتور جميل نجيب سليمان

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis