تأملات في
شخص المسيح الحي
- 27 -



المسيح



الخدمة العلنية للرب يسوع

- 3 -

تجربة المسيح على الجبل (2)

الأنواع الثلاثة للتجارب الشيطانية التي واجهها المسيح

حالما تعمَّد المسيح كتدشين لخدمته بـاعتباره ”المسيَّا“، فقد ”تصدَّى له إبليس بتجاربه الثلاث على الفور“(1). وتُقرِّر الأنـاجيل الثلاثة الأولى بـأن المسيح تجرَّب من إبليس مباشرة بعد عماده الذي كان بمثابة تدشين خدمته باعتباره المسيَّا خادم الله لخلاص البشرية وبعد صومه، وكإشارة إلى أن تجارب إبليس هذه متَّصلة اتِّصالاً جوهرياً بدعوة المسيح الخلاصية.

+ وتُصوِّر الأشكال الثلاثة لتجارب إبليس ليسوع، تُصوِّر صراع يسوع من أجل: أ - الحفاظ على جوهر خدمته الخلاصية باعتباره مسيَّا الله، وذلك بأن يتبع جوهر رسالته ودعوته الإلهية لخلاص البشر؛ أو: ب - بتفسير دوره كمسيَّا بوسائل الشيطان لتحويل الخدمة الخلاصية إلى نوع من الرفاهية، أو بسلطان الأعمال المعجزية الباهرة لنَيْل تمجيد الناس، أو لإخضاع الخدمة للمطالب الشعبية النفعية (كما وَرَدَ في اقتراحات إبليس الثلاثة: مت 4: 1-11؛ مر 1: 13،12؛ لو 4: 1-13).

وعموماً هذه المطالب الشيطانية الثلاثة يمكن اعتبارها مثالاً للإغراءات البشرية الشعبية عموماً لرجـال الديـن، ليُحوِّلوا خدمتهم المقدَّسـة إلى إرضاء مطالب الشعب الذي يخدمونـه، عكس الرسالة الإلهية الخلاصية التي دُعوا إليها من أجل خلاص نفوس المؤمنين.

ولكن هنا كان إبليس يسعى من وراء تجاربه لتحويل خدمة المسيح الماسيَّانية لخلاص البشر لتنحرف إلى استعراض قوته الإلهية. وهنا مصدر الخداع، لأن تدبير الله للتجسُّد كان بأن يبذل ابنه بالموت عن حياة العالم، لا باستعراض قوَّته الإلهية للناس ليُصفِّقوا له ويجعلوه مَلِكاً أرضياً.

+ لقد كانت تجارب إبليس للمسيح أن يستخدم قواه غير العادية - أي الإلهية - لغايات وأهداف أبعد ما تكون عـن القصد الإلهي في خلاص البشرية: لكي يُثبت بنوَّته لله بأعمالٍ معجزية باهرة تضمن خضوع البشر له؛ أو لرفاهية جسدية (تحويل الحجارة إلى خبز يُشبع الناس)؛ أو لإساءة استخدام قوَّته الإلهية باعتباره ابن الله (بأن يجعل الملائكة يحفظونه من السقوط من أعلى جناح الهيكل)؛ أو للعبادة والسجود لغير الله مقابل أَخْذه كل مجد وغِنَى العالم (وذلك بالسجود للشيطان مقابل تسليمه زمام كـل هـذه الأُمم والشعوب)، لأن العالـم والأُمم والشعوب كانت خاضعة لإبليس منذ سقوط آدم.

+ وللأسف، فإنَّ تلاميذ المسيح كانوا مغلوبين بهذه الأفكار المُشابهة في آمالهم في المسيح، فقد كانوا حتى بعد قيامة المسيح متمسِّكين بأفكارهم عن ملكوت الله المُنتَظَر أنه سيتحقَّق على مستوى بشري عالمي يتمُّ بإعـادة السلطة السياسية لإسرائيل (أع 1: 6)! كما كانوا يُقاومون أحاديث المسيح عن أنه سوف يتألَّم ويموت (مت 16: 22؛ أع 1: 6).

1. التجربة الأولى: حَصْر دور المسيح في

توفير الرفاهية البشرية:

فالمسيح بعد أن صام 40 يوماً استعداداً لخدمته الخلاصية للناس، «جاع أخيراً». والمسيح كإنسان لا شكَّ كان يُعاني الجوع بعد صوم طويل 40 يوماً، وهو في برية قاحلة، وليس مَن يُنجده ولو بكِسْرة خبز. وهكذا استغلَّ المُجرِّب هذه الظروف القاسية وانتهز الفرصة ليُهاجم.

وكما يقول القديس إيرينيئوس (أسقف ليون في القرن الثالث): ”فكما كان في بدء الخليقة، أغوى الشيطان آدم وحواء بالطعام بالرغم من عدم وقوعهما تحت معاناة الجوع، إلاَّ أنهما تعدَّيا على وصية الله؛ هكذا في النهاية لم ينجح إبليس في غوايته لآدم الجديد بتحويله الحجارة إلى خبز، بالرغم من جوعه“(2).

+ فلما أُغوي المسيح لتحويل الحجارة إلى خبز، أجاب يسوع: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» (لو 4: 4 - ارجع إلى سفر التثنية 8: 3). لقد أرسى المسيح هذا المبدأ الجوهري: إنَّ رفاهية وراحة البشر لا تكمن في الطعام، فهو ليس مصدر الحياة الحقيقي؛ بل بطاعة كلمة الله وحده يكون الضمان لدوام الحياة.

2. تجربة ممارسة قوَّة المسيح الإلهية

بدون الطاعة لله أبيه:

كانت هذه التجربة، لكي يُمارس يسوع أعمال الأعاجيب والمعجزات، كطريقة لإسباغ الشرعية على رسالته الماسيَّانية. وكان موقع هذه التجربة: الهيكل المقدَّس في المدينة المقدسة، حيث يمتلئ المشهد بجموع اليهود المؤمنين بالله: «ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل. وقال له: ”إنْ كنتَ ابن الله فاطرَحْ نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوبٌ: أنه يُوصي ملائكته بك، فعَلَى أياديهم يحملونك لكي لا تَصْدِم بحجرٍ رِجْلَك“. قال له يسوع: ”مكتوبٌ أيضاً: لا تُجرِّب الربَّ إلهك“» (مت 4: 1-11؛ مر 1: 13،12؛ لو 4: 1-13).

+ وقد أكَّد إبليس هذه التجربة بالاستشهاد من الأسفار الإلهية (في مز 91: 12،11)؛ لكن الخدعة تكمن في أنه تغافَل عَمْداً عـن جملة من الآيات لا تتناسب مع غرضه الشريـر، ”فبذِكْره الأسفار المقدَّسة، ليس لكي يقرأ الكلمات المقدَّسة صحيحاً؛ بـل لكي يُدمِّرها بـاستخدام حروفها فقط دون روحها“(3).

+ وقد قام الرب يسوع بالردِّ على إبليس مُقاوِماً التجربة بنفس القياس: «مكتوبٌ أيضاً: لا تُجرِّب الربَّ إلهك» (لو 4: 12؛ تث 6: 16). وهذا الرد ينقض ويُبطِل الادِّعاء الشيطاني بأنه يمكننا أن نضع الله تحت التجربة والامتحان من جهة صِدْق وعوده! إنه ليس إيماناً منَّا، بل هو ادِّعاء كاذب أن نُعرِّض أنفسنا للهلاك بأنْ نقفز من أعلى مكان في الهيكل أو غيره، لكي نُثبت لأنفسنا أو لغيرنا، أنَّ الله صادق وسيُرسل ملائكته لتحفظنا بناءً على وعود الله!

3. تجربة العبادة لغير الله، وادِّعاء القوة

الشيطانية الزائفة بامتلاك العالم:

ثم كَشَفَ المُجرِّب نفسه مَن هو حقّاً (لأن كلمة ”الشيطان“ تعني: ”المرتد“)(4)، بإظهار كل ممالك العالم في لحظةٍ من الزمان للرب يسوع قائلاً له: «لك أُعْطِي هذا السلطان كله ومجدهُنَّ، لأنه إليَّ قد دُفِعَ، وأنا أُعطيه لمَن أُريد. فإن سجدتَ أمامي يكون لك الجميع» (لو 4: 5-7). هذه كانت الخدعة الأخيرة للمُجرِّب، وقـد كـانت هي المُخاطرة الشاملة لكل ما يُريده الشيطان من المسيح. إنَّ كل الممالك التي أراها للمسيح، كانت فعلاً محكومة بإبليس نفسه، ولكن عن طريق الشهوة، والمجد الباطل، والتي هي الوسائل التي بها يحكُم إبليس العالم.

+ وكان ردُّ المسيح: «للربِّ إلهك تسجد وإيَّاه وحده تعبُد» (لو 4: 8؛ ارجع إلى تث 6: 13؛ 10: 20). وكما يقول القديس إيرينيئوس: ”إنَّ كبرياء العقل الذي كان في الحيَّة، قد صار إلى العدم، بالاتضاع الذي أظهره المسيح“(5).

إنَّ كل هذه التجارب الثلاث التي عُرِضَت على الرب يسوع، كانت تهدف إلى إعطائه مجد الملكوت بدون الآلام والصليب. وهذا، بالتحديد، هو الخداع الذي قصده إبليس لتحويل نظر المسيح عن الخدمة التي أرسله الآب من أجل إتمامها، والتي هي الدعوة المُميِّزة للمسيَّا خادم الله. لقد كانت نية المُخادِع أن يُجرِّده من شرعية دعوة المُخلِّص، وبالتالي إخفاقه في تحقيق خطة وتدبير الله للخلاص(6).

لماذا كانت التجربة؟

لقد ”تجرَّب (المسيح) حتى بانتصاره، ننتصر نحـن أيضـاً“(7). وقـد لخَّصهـا القديـس غريغوريوس اللاهوتي بأنَّ المسيح تجرَّب ”لكي ينتصر على الذي سبق أن انتصر (على آدم)“(8). إذ كان، كما ذَكَرَ القديس إيرينيئوس، بأنَّ المُجرِّب ”لابد سوف يُربَط بنفس الأغلال التي كبَّل بها الإنسان، حتى إذ يُطلَق سراح الإنسان، يعود إلى ربِّه، تاركاً هذه الأغلال له (لإبليس) التي بها رَبَط الإنسان، أي الخطية“(9).

والآن، وإذ أخفق إبليس في كل تجاربه الثلاث، «تركه إبليس، وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه» (مت 4: 11).

هل اجتاز المسيح كل مظاهر الحياة الإنسانية؟

لا يمكن لكائنٍ بشري أن يُجرِّب كل شيء في الحياة: كذلك المسيح فهو لم يكن مستثنى من كل العلاقات الإنسانية التي تُرافق كل إنسان بشري. فإن كان الأمر كذلك، فإنَّ نمو المسيح - كما أوضحنا في مقال سابق (عدد مارس 2015، ص 17) - كان يتمُّ ويكتمل كمثل أي إنسان بشري آخر. فهو كـان إنساناً كـاملاً في نموِّه، مُشتَرِكاً في كل مجالات الحياة البشرية، بما فيها تجارب إبليس، ولكن هنا نجد استثناء هو:

لماذا كان المسيح متبتلاً بلا زوجة مثل باقي الناس؟ هناك مبدأ راسخ في بشريتنا، أننا لا نعيش في كلِّ عصر، ولا نتكلَّم بكل لغة، ولا نفعل كل عمل، ولا نختبر كل ما يختبره الناس. فحقيقة أنَّ يسوع لم يكن له زوجة، فهذا أمرٌ طبيعي. فكما أنَّ أي إنسان لا يمكن أن يكون في وقت واحد رجلاً وامرأة؛ كذلك يسوع، فقد اختار ألاَّ تكون له زوجة. وهذا لا يُعطِّل اكتمال بشريته.

لقد سبقنا وشرحنا أنَّ المسيح اجتاز واختبر كل ما يختبره الإنسان من استجابة لكل المشاعر والانفعالات، وكـان مثل كـل البشر عُرضـة للانتقاد، كما مارَس كل ما يُعانيه البشر بصفة عامـة، مثل: الجوع والعطش والنوم والحزن والألم. وكمـا قـال إشعياء النبي في القديم: «أحـزاننا حملهـا، وأوجـاعنا تحمَّلهـا» (إش 53: 4)؛ لكن هذا لا يعني أنَّ يسوع اجتاز كل نوع من أنواع الأمراض والآلام. لقد كانت له فترات من الحزن والألم وإحساس العطش في وقتٍ ما، ولكن ليس كل ألم بصفة عامة.

+ وبنفس الطريقة، كانت هناك اختبارات بشرية اجتازها الرب يسوع. ولكن لم يجْتَز أن يكون رجلاً وامرأة في وقتٍ واحد؛ بل رجلاً فقط (وليس امرأة). وكذلك لا يمكن أن يكون متزوِّجاً وغير متزوِّج في وقتٍ واحد؛ بل فقط صار غير متزوِّج. وهذا الوضع أو ذاك لا يؤثِّر في شيء من جهة بشريَّة الرب يسوع الكاملة المُشابهة تماماً لطبيعتنا، فيما عدا الخطية وحدها؛ لأن الخطية ليست ضمن صفات الطبيعة البشرية التي خُلِقَ عليها آدم، بل هي دخيلة على الطبيعة البشرية بإرادة الإنسان الأول. فالرجل غير المتزوِّج أو المرأة غير المتزوِّجة ليسا أقل بشريَّة أو إنسانية من المتزوِّج أو المتزوِّجة، ولا هما من طبقة أدنى من البشرية. لذلك، فالمسيح عاش الحياة البشرية في كل ملئها، ولكن دون أن يتزوَّج، ودون أن يكون له أبناء.

+ لكن المسيح، في شخصيته الجامعة لكل البشرية صار أباً وأُمّاً وأخاً في البشرية لكل رجل وامرأة وطفل وطفلة؛ بل صار عريس الطبيعة البشرية بأكملها، وفيه قد صار الجميع أبناءً لله أبيه.

(يتبع)

(1) Tertullian, Baptism 20.
(2) Irenaeus, Ag. Her. V.21; ANF, Vol. I, p. 549.
(3) Origen, Hom. on Luke, XXXI.
(4) Irenaeus, Ag. Her. V.21; ANF, Vol. I, p. 549.
(5) Irenaeus, Ag. Her. V.21; ANF, Vol. I, p. 549.
(6) Augustine, Comm. on Psalms 8; NPNF, 1st Ser., Vol. VIII, pp. 32.
(7) Origen, Hom. on Luke, XXIX.
(8) Flight to Pontus 24; NPNF, 2nd Ser. Vol. VII, p. 210.
(9) Irenaeus, Ag. Her. V.21; ANF, Vol. I, p. 550.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis