شهادة من أرخن


الأب متى المسكين
عملاق الكنيسة الأرثوذكسية



للواء دكتور/ رفيق أسعد سيدهم - دكتوراه في القانون الجنائي

مقدِّمة:

استقبَلَت السماء فجر الخميس 8 يونية 2006م بفرح عظيم، روح أبينا الفاضل القمص متى المسكين الأب الروحي لدير القديس أنبا مقار، بعد أن أمضى على كوكبنا الفاني قرابة 87 عاماً، قضى منها 58 عاماً في حياة الرهبنة والإبداع العلمي فيما تركه لنا من مؤلَّفات يصعب إحصاؤها في شتَّى الموضوعـات الدينية والتاريخية، تجـاوزت 180 مؤلَّفاً. ولعل تفسيره وشروحه لمعظم أسفار العهد الجديد، والتي أصدرها في سلسلة لم يَرْقَ إليها ولم يُضارعه فيها أيٌّ مِمَّن كَتَبَ من تفاسير في العالم، بخلاف العديد من المقالات المنشورة بالصحف والدوريات وتزيد عن 300 مقالة. هذا بخلاف المكتبة الصوتية التي تزخر بالعديد من عظاته الثمينـة في كـافة موضوعـات الكتاب المقدس وحياتنا الروحية.

نشأة الأب متى المسكين ورهبنته:

+ وُلِدَ أبونا الحبيب عام 1919، باسم يوسف إسكندر، وتـربَّى في المنصورة وسـط أسـرة مسيحية بسيطة، وأنهى دراسته بكليـة الصيدلـة عـام 1944، وبدأ حياته العملية بنجاح، وأصبح لديه صيدلية بمدينة دمنهور.

ولكن كما فعل أبونا العظيم كوكب البرية القديس أنطونيوس عندما سمع قول فادينا: «إنْ أردتَ أن تكون كاملاً فاذهبْ وبِعْ أملاكك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنزٌ في السماء وتعالَ اتبعني» (مت 19: 21)؛ هكذا فعل أبونا متى المسكين وانخرط في حياة البتولية ناشداً الكمال المسيحي. وكانت بداية رهبنته بديـر الأنبا صموئيـل المعترف بصحراء القلمون. وبعد أن أمضى عامين، انصرف من الدير - لأسباب صحية - ليزور برية شيهيت التي معناها: ”ميزان القلوب“، متوجِّهاً إلى دير السريان ومكث فيه. وقد جذب إلى الدير أعداداً وفيرة من خيرة شباب الكنيسة، ليدخلوا حياة النسك والرهبنة تحت أُبوَّته ورعايته. وقد كان بحقٍّ باعث النهضة الحقيقية للرهبنة في مصر في القرن العشرين.

انتدابه وكيلاً للبطريركية في الإسكندرية،

ثم توجُّهه إلى وادي الريان:

+ وفي عام 1954، انتُدِبَ وكيلاً لقداسة البابا يوساب الثاني بالإسكندرية، ولم يستمر كثيراً حيث عادَه الشوق إلى مغارته ليُكمِل حياته الرهبانية. ثم غادر المكان عائداً إلى نقطة البداية الأولى - دير أنبا صموئيل المعترف - مع زُمرة من أبنائه الرهبان الذين رهبنهم في دير السريان.

+ ولظروفٍ متعدِّدة، وسعياً إلى مزيد من التوحُّد، توجَّه مع أبنائه إلى صحراء وادي الريان بزمام محافظة الفيوم عام 1960م، حيث الحياة جافة مُوحِشة ولا توجد مياه عذبة بالمنطقة، ناهيك عن الحيوانات المفترسة والزواحف التي تزخر بها. وقد صمد ومعه مجموعة من الرهبان؛ ومَن بَقِيَ منهم على قيد الحياة، يُمثِّلون اليوم شيوخ دير القديس أنبا مقار.

ذهابه إلى دير القديس أنبا مقار وتعميره:

+ ولم تمنعه ظروف المعيشة في هذه المنطقة من التأمُّل والبحث والدراسة. وظل في وادي الريان مدة طويلة (أقل من 10 سنوات)، حتى أرسل له قداسة البابا كيرلس السادس، طالباً منه اختيار دير للإقامة فيه مع مَن معه من الرهبان، لكي يُجدِّد مبانيه شبه المنهارة، وحتى يتمكَّن من أداء رسالته في ظروفٍ أفضل، وكان ذلك في عام 1969؛ حيث وقع اختياره على دير القديس أنبا مقار بوادي النطرون.

+ وكنتُ قد زرتُ دير القديس أنبا مقار قبل ذلك التاريخ، فوجدته مكاناً مُقْفِراً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع. وكان به ستة رهبان من الشيوخ، ليس لديهم القدرة الكافية للاستمرار في حياة النُّسك والرهبنة. بخلاف ما آلت إليه مباني الدير من حالة مُزرية تُهدِّد بانهيارها في أيِّ وقت.

استطاع قدس أبينا القمص متى المسكين، وبتعضيد من الروح القدس، وعزيمة مَن معه من رجال، أن يُحوِّل هذا الدير إلى منارة علمية دينية حضارية، واستطاع أن يُضاعف مساحة الدير ستة أضعاف، حتى أصبح الدير قِبْلة المسيحيين من جميع أنحاء العالم، ومفخرة للرهبنة القبطية بين الكنائس في العالم أجمع.

مؤلَّفاته القيِّمة، وإعلاؤه قيمة العمل اليدوي:

+ وهنا استطاع أبونا متى أن يُثري المكتبة المسيحية بالمؤلَّفات القيِّمة التي تمَّ ترجمة الكثير منها إلى اللغات الحيَّة، وكذلك يجري تدريسها في العديد من جامعات العالم.

ولم يَنسَ أبونا الفاضل قيمة العمل، فقد حرص على أن يكون للرهبان نشاطٌ مستمر، وعمل دائم. وعليه فقد تمَّ في عهده استزراع أكثر من 2000 فدان من الأرض الصحراوية التي اشتراها بالطريقة القانونية وضمَّها للدير، ويُباع اليوم إنتاجها في السوق المحلي بخلاف ما كان يتمُّ تصديره إلى الخارج. كما أدخل أيضاً المزارع النموذجية التي يتمُّ فيها تربية المواشي والدواجن، والإفادة من إنتاجها وإعادة تصنيعه.

الكشف الأثري الذي تمَّ اكتشافه في عصره:

+ وتمَّ في عصره – في القرن العشرين – كَشْفٌ أثري عظيم، مما يؤكِّد تعضيد الروح القدس له؛ إذ تمَّ في عام 1976، اكتشاف المقبرة التي تحـوي رفـات القدِّيسَيْن يـوحنا المعمدان وأليشع النبي، وكانت قد وصلت إلى الإسكندرية في القرن الرابع، ثم نُقِلَت إلى دير أنبا مقار. وقد تمَّ التدليل على ذلك بالبراهين العلمية القاطعة من علماء شاهدوا الرفات قبل اختفائها تحت ركام سقف كنيسة أنبا مقار سنة 1909. وقد حضر وقتها للدير العديد من علماء الآثار ورجال الإعلام وقاموا بتسجيل هذا الحَدَث العظيم وإذاعته في وكالات الأنباء العالمية.

مواقفه الشُّجاعة:

+ وقد كان لأبينا القمص متى المسكين مواقفه الشُّجاعة التي تُسجَّل له في تاريخ الكنيسة. إذ أنه إبان الخلاف الذي حدث بين الرئيس الأسبق أنور السادات وقداسة البابا المتنيِّح شنودة الثالث عام 1981، قام الرئيس السادات على أثره، بسَحْب قرار تعيين البابا شنودة الثالث بطريركاً، والتحفُّظ عليه في دير الأنبا بيشوي. ولمَّا كانت تربط الأب متى المسكين والرئيس السادات علاقة طيبة، ويُذكَر للرئيس أنه بعد أن عَلِمَ بالنشاط التعميري لرهبان الدير، قـام بمنح الديـر مساحة 1000 فدان لاستصلاحها وزراعتها، ونظراً لهذه العلاقة الطيبة، وبناءً على إلحاح من بعض أراخنة الكنيسة؛ تدخَّل أبونا متى لحلِّ هذه المشكلة، ومَنَع الرئيس من تحويل البابا إلى المحاكمة حسبما أذاع الرئيس ذلك.

وقد فاجَأ الرئيس السادات الأب متى المسكين برغبتـه في أن يُعيِّنـه على كرسي الكـرازة المرقسية خلفاً للبابا شنودة، فاعتذر أبونا المحبوب في شجاعة قائلاً للرئيس السادات: ”إنَّ قرار تعيين البابا من السماء، ووفقاً لتقاليد الكنيسة فإنَّ خدمة البابا تبقى حتى وفاته“. وقد تفهَّم الرئيس السادات الوضع وقتها، وازداد أبونا الفاضل كرامةً في عينَي الرئيس، وفي عيون كل المصريين.

+ وفي أوائـل عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، أرسل له الأب متى المسكين رسالةً خاصة، بضرورة إرجاع قداسة البابا شنودة الثالث إلى كرسيه في أسرع وقت؛ وكان كذلك، فأُعيد إلى كرسيه سنة 1985م.

أشهر مؤلَّفاته:

+ ومن أشهر مؤلَّفات قدس أبينا الراحل، نذكر على سبيل المثال هذه الكُتُب: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، ”الرهبنة القبطية في عصر القديس أنبا مقار“، ”القديس أثناسيوس الرسولي البابا العشرون“، ”صوم العذراء القديسة مريم“، ”المسيحي في المجتمع“، ”الفضائل المسيحية بحسب الإنجيل“. ولعل أشهر الكُتُب التي كان لها صداها على المستوى القومي، كتاب: ”الكنيسة والدولة“ (1976)، الذي دعا فيه إلى نَبْذ التعصُّب والإحساس بعُقدة الاضطهاد؛ ولكن هذا الكتاب لم يُرضِ بعض الاتجاهات المناوئة داخل الكنيسة. وقبل أيام من نياحته كان قد انتهى من آخر مؤلَّفاته، وهو عن ”السيدة العذراء مريم“، وقد تنيَّح قبل ظهور هذا الكتاب إلى النور.

سماته وفضائله:

+ ولقد كان أبونا الفاضل إنساناً مُحبّاً ومحبوباً، متواضعاً وزاهداً، يعمل في صمت. وقد ترفَّع عمَّا وجَّهه إليه البعض من انتقادات وتجريح في غير محلِّه، وكان مُتسامحاً معهم، مُلقياً كل همِّه على الله. وكما قيل قديماً: ”أمَّا الزبـد فيذهب جفاءً؛ أمَّا الخير فيمكث في الأرض“.

+ رَحِمَ الله راحلنا العزيز، وأنفعنا بصلواته وعميق فكره اللاهوتي الذي أثرى به حياة الكنيسة. فقد كان بالحقِّ أحد عمالقة الكنيسة القبطية في القرن العشرين. عاش في صمت، ورحل في هدوء. وحتى في جنازته، كان قد أوصى رهبان الدير بالصلاة عليه في جنازة بسيطة، كما يفعلون مع أيِّ راهب بالدير ينتقل من هذه الحياة، حيث تمَّ تشييعه إلى مثواه الأخير بأحد المغائر التي اختارها هو قبل نياحته في صحراء الدير وداخل أسواره، وذلك في فجر الخميس 8 يونية 2006م.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis