في الذكرى السنوية التاسعة لنياحة أبينا الروحي القمص متى المسكين
ذِكر الصدِّيق للبركة




الثالوث الأقدس في حياة وكتابات الأب متى المسكين

(تابع)

بدأنا الكتابة في هذا البحث من العام الماضي (2014م) في الذكرى الثامنة لنياحة أبينا الروحي القمص متى المسكين. فقد لفت نظرنا مدى ارتباط كتابات قداسته بسرِّ الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس؛ مِمَّا يعكس عمق شركته الداخلية مع الله، في أُبوَّته لنا وبنوَّتنا له في شخص ابنه الوحيد الحبيب يسوع المسيح ربنا، وروحه القدوس المُحيي الذي سكبه علينا لنثبُت فيه ويثبُت فينا ويسكن فينا ونصير هيكلاً له.

وقد ساعدنا كثيراً على سَبْر أغوار هذا السر العميق، ما كتبه الأب المتنيِّح الراهب القس أزارياس المقاري الذي تنيَّح في 12 ديسمبر عام 2014م، وترك لنا بحثاً كبيراً في معظم كُتُب الأب متى المسكين، تُبيِّن مدى تعلُّق أبينا الروحي بسرِّ الشركة الداخلية مع الله الآب والابن والروح القدس، الثالوث الأقدس، لاهوت واحد، نسجد له ونُمجِّده إلى الأبد، آمين.

والعجيب أن معظم اقتباسات هذا البحث جاءت من الكُتُب الأربعة التي كتبها قداسة أبينا الروحي تحت عنوان: ”مع المسيح“، في السنة الأخيرة من حياته على الأرض. ونحن هنا نُكرِّر ما سبق أن كتبناه في ذِكْراه الماضية، حيث يوصي أنه: ”ينبغي لنا في دراسة اللاهوت أن نعرف ونتيقَّن أن الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس، إنما عملهم واحد. ولكن موزَّع عليهم بحسب اختصاصهم، وليس بحسب طبيعتهم، لأن طبيعتهم واحـدة وعملهم أيضاً واحـد، وإنما متنوِّع الاختصاصات. وكل ما يعمله الأقنوم الواحد إنما يعود بالمجد لباقي الأقانيم“ (كتاب: ”مع المسيح“، جزء 2، 13 أكتوبر 2005م، ص 256).

«ليس بكيلٍ يُعطي الله الروح» (يو 3: 34):

وتحت هذا العنوان، يقول الأب متى المسكين (في كتابه: ”مع المسيح“، جزء 2، 8 أكتوبر 2005م، ص 227،226):

( إنَّ كَيْل الروح القدس لا تسعه السموات والأرض. وقد خصَّ الإنسان الجديد المولود من الروح من فوق، الشيء الكثير.

فقد استطاع الروح القدس أن يُلقِّن الإنسان الجديد كلَّ ما يخصُّ المسيح والآب، وجهَّزه ليدخل الشركة مع الآب والابن، والقيامة مع المسيح للجلوس عن يمين الآب، وأن يليق للحياة الأبدية، ويَنْعَم بسرِّ الخلود. أيُّ كَيْل هذا؟ وبأيِّ معيار تحوَّل الإنسان من خليقة ترابية مآلها اللعنة والموت، إلى خليقة سماوية تحيا بالروح لتَنْعَم بشركة سرِّية فائقة مع الله؟!

إن الكَيْل الذي كال به الله عطيته للإنسان من أعظم أسرار الله والوجود، فلا ملاك ورئيس ملائكة ولا نبيّاً، إلاَّ الابن يمكن أن يُعبَّر به عن الكَيْل الذي كال به الله الروح وسكبه علينا سكيباً، ولكي نُوضِّح الأصل الجديد الذي قُطفنا منه، نسمع المسيح ابن الله يقول: «لأجلهم أُقدِّس أنا ذاتي» و«أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (يو 17: 22،19). كما حلَّ علينا المجد الإلهي الأبوي عندما رُفِعَ يسوع المسيح من بين الأموات، فرُفِعنا معه بمجد الآب، وصرنا في المسيح من «أهل بيت الله» (أف 2: 19)، عشيرة جديدة سماوية للإنسان، تَنْعَم بملكوت الله الأبدي، تحيا مع الابن في ظل الآب.

الثالوث الأقدس في ميلاد الرب يسوع:

( «فأجاب الملاك وقال لها (للعذراء): الروح القدس يحلُّ عليكِ، وقوة العَليِّ تُظلِّلكِ. فلذلك أيضاً القدوس المولود منكِ يُدعَى ابن الله» (لو 1: 35،34).

«الروح القدس يحلُّ عليكِ»: احتوى روح القداسة الرَّحِم وصاحبته (العذراء مريم)، فكان بمثابة البذرة الإلهية التي سكنت كيانها الأنثوي. وأمَّا قوة العَليِّ التي ظلَّلتها، فكانت بمثابة الحضن الأبوي للابن الوحيد الذي نزل منه. وهكذا حتماً، وبالضرورة، أَخَذَ الجنين منذ ساعته الأولى اسمه الأزلي: «لذلك أيضاً القدوس المولود منكِ يُدعَى ابن الله». وهذا ليس مجرد اسم أو لقب، بل كيان إلهي من كيان إلهي: «أنا والآب واحد» (يو 10: 30). فإن كان قد خرج من الحضن الإلهي، فقد خرج والحضن لا يزال يحتويه؛ ولكن عودته هي الأمر المُذهل لنا حقّاً، لأنه يعود مرتفعاً ونحن فيه ليُجلسنا عن يمين أبيه. يحكي المسيح في إنجيل القديس يوحنا عن حقيقة التجسُّد الذي أتمَّه بجسده الذي أخذه من العذراء، فيقول: «أنا فيكم» (يو 14: 20)، وفي المقابل: «اثبتوا فيَّ» (يو 15: 4)؛ وأيضاً: «وأنا فيهم» (يو 17: 26)، وفي المقابل: «ليكونوا هم أيضاً فينا» (يو 17: 21).

فكان هو صاحب المبادرة في الاتحاد بالإنسان. ولكن بمجرد أن اتَّحد بجسدنا، حصلنا على المقابل الحتمي، وصرنا فيه متَّحدين، والذي أكمله هو بالاتضاع نُكمِّله نحن بالإيمان. فالذي صنعه هو بجبروت تنازُله الإلهي ليتَّحد ببشريتنا، طرحه ليكون حقّاً لكلِّ بشرٍ، كل مَن يؤمن؛ إذ أنه لا يستطيع أن يمنع بشراً يطلب ما له فيه: «مَنْ يُقبِل إليَّ لا أُخرجه خارجاً» (يو 6: 37). لقد آمنت العذراء بهـذا، فكان لها حالاً: «فقالت مريم: هوذا أنـا أَمَة الرب، ليكن لي كقولك» (لو 1: 38)، فكان! (من: ”تفسير إنجيل القديس لوقا“، ص 103،102).

الثالوث الأقدس في المعمودية:

( يُقرِّر يوحنا المعمدان أنه رأى الروح القدس نازلاً على المسيح مثل حمامة. هنا رؤية يوحنا المعمدان للروح النازل على المسيح بهيئة حمامة منظورة، هام جداً، لأنه بحسب إنجيل القديس يوحنا، هذه علامة من الله لكي يتعرَّف المعمدان على المسيح، فرأى وعرف وشهد (يو 1: 34،33).

لذلك فن‍زول الروح القدس بهيئة منظورة - مع أنه ليست له هيئة منظورة - كان أساساً لإعطاء المعمدان العلامة ليتعرَّف على المسيح. وإن كان قد قيل إنَّ المسيح رجع من الأردن وهو ممتلئ من الروح القدس، فهذا يستحيل فهمه على أنَّ المسيح كان غير ممتلئ من الروح القدس قبل العماد وقبل حلول الروح القدس عليه؛ لأنَّ الصوت الذي جاء من السماء من عند الآب: إنَّ ”هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ“، يدلُّ على أنَّ الابن لم يكن في وقتٍ ما غير ممتلئ من الروح القدس.

أما حلول الروح عليه، فكان حلول المثيل على المثيل، لم يَزِد المسيح شيئاً لم يكن له، وإنما كان لاستعلان حقيقة شخص المسيَّا (ابن الله الحبيب)، ولافتتاح زمان خدمة المسيح بعمل الثالوث وحضوره: الآب بصوتٍ من السماء، والروح القدس نازلاً عليه بهيئة منظورة، والابن يتلقَّى لحظة البدء بالعمل (من: ”شرح وتفسير إنجيل القديس متى“، ص 183،182).

الحلول والملء والتقديس تمَّ بالتجسُّد:

( المسيح هو الكلمة المتجسِّد ابن الله قبل أن يعتمد كما هو بعد أن اعتمد، واحدٌ مع الآب والروح القدس بالاتحاد، جوهر واحد للآب والابن والروح القدس.

والمسحة التي أخذها على الأردن هي مسحة بدء الخدمة كإشارة من الروح فقط وليس للملء أو الإرسالية. فالإرسالية تمَّت قبل التجسُّد، والملء فيه لحظة حُبِلَ به في البطن حين قدَّسه الله وأرسله إلى العالم. وللتأكيد نعود فنقول إنَّ الحلول والملء والتقديس والمسح هذه كلها تمَّت بالتجسُّد وليس بالعماد. والعماد أظهرها وأعلنها وأطلقها للعمل.

فالذي تمَّ على الأردن هو عملية التكريس العلني التي هي بمثابة استعلان بدء حياة المسيح المخصَّصة للصليب؛ انتقل بعدها المسيح مـن الحياة العادية التي كـان يظهر فيها كأنه إنسان عادي - نجار الناصرة - إلى حياة الصليب العلنية، حيث يظهر فيها لاهوته بانفتاح السماء وإعلان الآب عن حقيقته المخفية أنـه ابنـه الحبيب. والروح القدس النازل عليه للتعيين والإشارة كَشَفَ في الحـال للمعمدان - بالعين الإيمانية - أنه ابن الله المملوء من الروح القدس والمزمع أن يُعمِّد بالروح القدس.

فهذه المسحة التي تمَّت بصوت الآب من السماء وحضور الروح القدس والمعمدان كشاهد، كانت هي بدء الإرسالية العملية بصورتها العلنية وبشهادة الشهود في السماء والأرض، لم يأخذ فيها المسيح مؤهَّلات جديدة للخدمة، فهو الكامل وملء الذي يملأ الكل.

ولكن هذه المسحة استعلَنتْ علناً بنوَّته للآب وحيازته ملء حُب الآب وملء الروح القدس. فهي كانت لحظة تنصيب للخدمة وليست إعداداً أو تكميلاً. وهذه اللحظة عينها قال عنها المسيح بعدئذ: «من أجلهم أُقدِّس أنا ذاتي»... وفيها استعلان لاهوته وبنوَّته للآب. وبالتالي، وبالضرورة، استُعلِن ملؤه من الروح القدس لَمَّا حلَّ عليه الروح القدس، مُشيراً إليه، فكانت مسحة استعلان، فظهر للناس وخاصة للتلاميذ في هذا الملء. فهو لم يمتلئ من الروح القدس في الأردن، بل بالحري استُعلِن ملؤه من الروح القدس كما استُعلِنَت بنوَّته للآب تماماً وبالتساوي. فالابن له الروح القدس خاصةً كالآب، وهو لا يأخذه بل يُعطيه (من: ”شرح إنجيل القديس يوحنا“، ص 144-146).

«وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19):

( المعمودية هي السرُّ الأول لدخول المؤمنين وانتمائهم للمسيح لمنح قوة الروح القدس لتثبيت الإيمان لحساب المسيح، حيث يصبح الإنسان مملوكاً للمسيح والنعمة، لينضم كعضوٍ حيٍّ في جسد المسيح أي الكنيسة، ولعبادة الله الآب بالروح القدس: «لأن الآب طالبٌ مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (يو 4: 24،23)، وليصير واحداً من أهل بيت الله. والمعمودية ليست مجرَّد إجراء طقس، بل فعل روحي لتقبُّل قوة النعمة. ولذلك فإنَّ قول المسيح في إنجيل القديس متى: «عمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»، يعني في الحال دخول المؤمن في شركة الآب والابن والروح القدس...

إنَّ المعمودية تُعتَبَر أهم أسرار المسيحية قاطبة، لأن بها يُحسَب المؤمن حاصلاً على موهبة الآب والابن والروح القدس، أي معترفاً ومؤمناً وشريكاً في قداسة الثالوث الأقدس. وقد وضعها المسيح هنا كحجر أساس في عمل الإرسالية الأعظم. فهي تُقدِّس أي تُعطي صلة اتحاد بالقدوس، وتُدخِل المؤمن ليصبح من أهل بيت الله. والتعميد عملية اتحاد والتحام المؤمن بالمؤمنين. فهو سرُّ توحيد وتجميع تحت سلطة الله الواحد والكنيسة الجامعة لعمل جسد المسيح. على أنَّ التعميد باسم واحد (بالمفرد) للآب والابن والروح القدس يفيد إفادة قاطعة أنَّ الثالوث الآب والابن والروح القدس هو الله الواحد. وهكذا حينما تنفتح عين الإنسان المولود جديداً لله، يرى في المعمودية اعترافاً راسخاً بوحدانية الله كاختبار فعلي لعمل الآب والابن والروح القدس في ميلاده الجديد. فالمعمودية تذوُّق ماهية الله اللاهوتية كفعل ولادة بالروح، حيث الآب يلد والابن يتمخض والروح القدس يُخرجنا إلى الوجود الحي في الله. ولكن المُعمَّد يخرج موسوماً باسم المسيح كابن في الابن بالروح القدس لله الآب، ليأخذ في اسم المسيح بنوَّة الله بالروح لحياة أبدية. وبمجرَّد ميلاد المعمَّد باسم المسيح يشهد له في الحال الروح القدس أنه ابن الله مع المسيح في الروح لميراث ملكوت السموات: «ليفتدي (المسيح) الذين تحت الناموس، لننال التبنِّي. ثم بما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً (بفمكم): ”يا أَبَا الآب“. إذاً لستَ بعد عبداً بل ابناً، وإنْ كنتَ ابناً فوارث لله بالمسيح» (غل 4: 5-7). والقديس بولس الرسول يصف عمله الذي يُهيِّئ به المؤمنين لقبول فعل المعمودية كأنه يتمخَّض بهم ليولدوا على صورة المسيح هكذا: «يا أولادي الذين أتمخَّض بكم أيضاً إلى أن يتصوَّر المسيح فيكم» (غل 4: 19).

«المولود من الجسد جسدٌ هو، والمولود من الروح هو روحٌ»:

( ولأن التعميد هو باسم الآب والابن والروح القدس، لذلك قال المسيح: «إن كان أحدٌ لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسدٌ هو، والمولود من الروح هو روحٌ» (يو 3: 6،5). فالروح القدس هو صاحب الفعل الداخلي ليُعطي المُعمَّد النقلة من وضعه المادي: الإنسان العتيق، إلى وضعه الروحي: الإنسان الجديد، كخليقة روحانية على صورة خالقه في البرِّ وقداسة الحق. فبالروح القدس يُولَد المُعمَّد - ثانية من فوق - من الماء بالروح لله... وذلك اعتماداً على أنَّ الإنسان عند التغطيس في الماء يُشارِك في الإيمان بأنه مات مع المسيح ودُفِنَ معه؛ وعند الخروج من الماء يُشارِك في القيامة ويُعتَبَر أنه قام مع المسيح، حيث القيامة هي قيامة بالروح لشركة في جسد القيامة الحي بالروح والحاصل على الحياة الأبدية. ولكن هذه القيامة بالروح وبالجسد الروحاني هي كالعربون ليعيشها في الحاضر الزمني كسَبْق تذوُّق للقيامة العتيدة المجيدة في المسيح للمشاركة فيها بالجسد الروحاني الكامل.

لذلك نقول في قانون الإيمان: ”وننتظر قيامة الأموات، وحياة الدهر الآتي، آمين“. فالمعمودية هي شركة بالإيمان في موت المسيح الذي أكمله على الصليب، ثم الدفن في القبر، وشركة بالإيمان في قيامته من بين الأموات... (من: ”تفسير إنجيل القديس متى“، ص 859-861). (يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis