-119-


الكنيسة القبطية في أواخر القرن السابع عشر
وأوائل القرن الثامن عشر
البابا بطرس السادس
البطريرك الرابع بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1718 - 1726م)
- 3 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

الأحداث التي حدثت للأقباط
في أوائل القرن الثامن عشر

+ حدث في السنة التالية لرسامة البابا بطرس السادس (أي في سنة 1719م) أن قامت فتنة بلغت من حدَّتها أنها كانت أشبه بالحرب الأهلية.

وانتهز الرعاع الفتنة، فأمعنوا في السَّلْب والنهب، وفي إشعال النار في البيوت. وقد نتج عن هذه الفتنة أن الباشوات الموفدين من الباب العالي (قصر السلطان العثماني في تركيا) لتولِّي الحُكْم، أصبحوا مجرد ألاعيب في أيدي المماليك. بل لقد بلغ بالعامة أنهم تجرَّأوا على الوالي بالسَّبِّ واللعن من غير أن يحاول رَدْعهم. وكانت هذه الفتنة الشرارة الأولى التي جعلت من السنوات الممتدة من هذا الوقت وإلى قدوم الحملة الفرنسية في 27 يونية عام 1798 (79 سنة) فترة مليئة بالمنازعات والقلاقل.

+ فلم تَعُد الخصومة قائمة بين حزب الوالي وحزب المماليك فحسب، بل امتدَّت الخصومة بين أفراد الحزب الواحد للوصول إلى الرئاسة.

+ وبالطبع كان لهذه الفتن والقلاقل أوخم العواقب على الزراعة والصناعة معاً. وليس ذلك فحسب، بل إن الأُمراء في تعارُكهم كانوا يطوفون بالبلاد، يسلبون وينهبون. وفي الإسكندرية أوجبوا على الأقباط مائة ألف ريال، وهدموا الكنائس، واضطر غالبية الناس إلى الهروب من المدينة (حتى المسلمون منهم) تجنُّباً لِمَا قد يُصيبهم من ضرب وإهانة.

+ وبعد أن عاثوا في الأرض فساداً، حتى لقد ساووا بعض القرى بالأرض، عادوا إلى القاهرة. ويبدو أنهم كانوا قد سئموا كل هذه المنازعات، وخاف البعض منهم على حياته، فاجتمعوا ذات مساء في الغورية، وانتهى بهم الحديث أن قال ”حسين بك“ (أحد أعوان إبراهيم بك الأمير المملوكي): ”كلنا نهَّابون، أنت تنهب، ومراد بك ينهب، وأنا أنهب كذلك“. وعلى هذه الكلمات انفضَّ المجلس وهدأت الفتنة.

+ على أنَّ كل هذه الانتفاضات الشعبية كانت تضيع هباءً منثوراً، رغم أنها كانت بقيادة العلماء ومشايـخ الحِرَف والتُّجَّار، ذلك لأن القيادات ذاتها لم تكن شعبية صميمة، كما أنها لم تكن مُنظَّمة.

+ وخلال كل هذه السلسلة من الفِتَن، كانت هناك فترات قصيرة من الهدوء والاستقرار. وهكذا انتهت هذه الفتنة الأولى، فتنفَّس الأنبا بطرس السادس الصعداء، وقام برحلته الرعوية. وهكذا تفقَّد شعبه، وقامت بينه وبينهم صلة المودَّة والتفاهُم. ولم يكتفِ هذا البابا الساهر بمجرد الأُلفة والتفاهُم بين أبنائه؛ بل سعى لدى الحُكَّام إلى أن نجح في استصدار فرمان بإقرار الشريعة المسيحية فيما يتعلَّق بالزواج والطلاق.

الأعمال الأدبية للعلماء الأقباط

أولاً: كان هناك أَرخن اسمه ”مرقوريوس“، وكان كاتباً لدى شيخ من أكابر الشيوخ في مصر. وقد قام هذا الأرخن بتجديد كنيسة السيدة العذراء بالعَدَويَّة (ناحية بولاق). وكان بهذه الكنيسة دير مُلحَق بها جدَّده أيضاً.

ومِن مآثر هذا الأرخن أنه كان ناسخاً للمخطوطات، وكان مجتهداً، فترك لنا مخطوطة تتضمن عدداً من الميامر والسِّيَر، أهمها:

1. ميمر وضعه الأنبا قسطنطين أسقف أسيوط تمجيداً للقديس الشهيد يؤانس الهيرقلي، الذي تُعيِّد الكنيسة بيوم استشهاده في 4 بؤونة من كل عام. وكانت ”هيرقل“ إحدى مدن أسيوط، وقد أصبح اسمها الآن ”حميور“.

2. ميمر للأسقف ذاته تمجيداً للشهيدة أفروسينا التي أَطلقت على نفسها اسم ”زبرجد“. وتُعيِّد الكنيسة ليوم استشهادها في 4 أمشير (مخطوطة 88 - 33 أدب، محفوظة بمكتبة المتحف القبطي).

ثانياً: ناسخ آخر اسمه ”سليمان بن جبرائيل الفرارجي“. لا نعرف عنه إلاَّ أنه نقل كتابات القراءات الخاصة بالآحاد السبعة للصوم الكبير مكتوبة باللغة القبطية، ولو أنه كَتَبَ بعض العناوين بالعربية. وقد نسخ هذه المخطوطة تلبية لطلب كاهن اسمه القس ميخائيل كاهن كنيسة السيدة العذراء ببابليون. وانتهى من كتابتها في 22 كيهك سنة 1428ش/ 1711م.

ثالثاً: من بين آلاف المخطوطات القبطية التي سبق أن سُرقت من أديرتنا القبطية بواسطة المستشرقين، وهي تملأ الآن شتَّى المتاحف والمكتبات العالمية في مختلف أنحاء العالم؛ المخطوطة المحفوظة بالمتحف البريطاني، وتتضمن طروحات وتذاكيَّات وذوكصولوجيات، وكاتبها اسمه ميخائيل (س 363، مخطوطة 865).

رابعاً: وتوجد مخطوطة بمكتبة المتحف القبطي بمصر القديمة، تتضمن ”السنكسار“ القبطي. وهذا السنكسار مختلف عن الشائع قراءته، والذي جمعه أنبا ميخائيل أسقف مليج. والجزء الأول من هذه المخطوطة يرجع إلى أواخر القرن الثاني عشر وأوائـل القرن الثالث عشر. أمـا أوراقها الأخيرة فقد تمَّ تجديدها في 21 أمشير سنة 1450ش/ 27 فبراير 1734م. وناقل وناسخ هذه المخطوطة ”يوليوس الراهب“ (ابن الحاج يوحنا الاسطفاوي تابع ”أبونا خريستوذولو“ بإياص الحبش في دير عابد). وتتألَّف هذه المخطوطة من ثلاثة أقسام، جاء في قسمها الثاني أنَّ الأنبا خريستوذولو قد ترجمها من اللغة الحبشية إلى اللغة العربية، ثم طلب مـن الراهب يـوليوس نساخة هذه الترجمة (المخطوطة رقم 12 - 155 أدب).

نماذج من صِيَغ خاتمة المخطوطات:

+ هناك دفنار نقرأ في خاتمته ما يلي: ”كمل هذا الدفنار لشهرَي هاتور وكيهك، كمل في شهر مسرى سنة 1445ش/ 1729م بخط القس بطرس بدير أنبا أنطونيوس ببرية العربة“.

+ وهذه صورة أخرى من خاتمة المخطوطات: ”والمهتمُّ بهذا الكتاب المقدس من ماله وتعبه الأخ الحبيب مُحب الغرباء والمساكين الأَرخن المُبجَّل الدَّيِّن الأرثوذكسي الشماس المُكرَّم المعلم نيروز بن المتنيِّح في الأحضان الإبراهيمية نوار. صُنع هذا التذكار المقدَّس برسم كنيسة أبي قير ويوحنا المعروفة باسم الست بربارة بقصر الجمع (الشمع) بفسطاط مصر. وقدَّمه هدية مع كتب محفوظة بخزائنها وأوقفها عليها، وعمَّرها الله على الدوام. طالباً بذلك غفران خطاياه، والوقوف أمامه بغير عيب. الرب الإله يُعوِّض عليه عِوَض الواحد مائة وستين وثلاثين ويغفر له خطاياه، ويُسكِنه فردوس النعيم بعد التمتُّع بطول الأَجَل، ذلك على يد العبد المسكين ساروفيم“. ويلي ذلك الآتي: ”لا يُباع ولا يُرهَن ولا يُوهَب ولا يخرج من البيعة المذكورة بوجه من وجوه التلف. وكلُّ مَن تعدَّى وأخذه سَلْباً أو خِفيةً، ولم يُعِدْهُ إليها يكون تحت كلمة الحق القاطعة، تُحدَر نفوس المخالفين إلى قاع الجحيم، والعياذ بالله من فاعل هذا الفعل. وعلى بني الطاعة تحلُّ البركة آمين، والشكر لله دائماً“.

+ وإليك خاتمة أخرى كان يكتبها الناسخ عن نفسه، حيث يُغدِق على القائم بالصرف على نسخ المخطوطة من ألقاب التبجيل والاحترام بقدر ما يأبَى عليه تواضعه إلاَّ أن ينعت نفسه بألفاظ التحقير (ظنّاً منه أن في هذا يكمن الاتضاع)!

وهذه خاتمة كتاب قطمارس الخمسين: ”اذكُر يا رب عبدك الخاطئ المسكين الغارق في بحار الخطايا والذنوب، الذي لم يستحق ذِكْر اسمه من أعماله الرديئة، وأنت يا سيِّدي فاحص القلوب، وأجثو بهامتي الخاطية تحت أقدام سادتي الآباء الكرام الكهنة والشمامسة والأراخنة التاليين في هذا القطمارس المقدس أن يقولوا بلسان فصيح وقلب جريح: "يا سيدي يسوع المسيح، اغفر خطاياه ولوالديه وأقاربه وأولاد المعمودية بالميرون الشريف كما غَفَرْتَ للخاطئة قديماً"“.

شخصيات كنسية في عصر البابا بطرس السادس

+ خلال ظلمة العصور العثمانية، أقام الله رعاة ساهرين متيقِّظين. ومن الآباء المعاصرين للبابا بطرس السادس، وكانوا مساندين له في جهاده الروحي ورعايته الساهرة، الأنبا بطرس أسقف إسنا الذي وجَّه اهتماماً خاصاً إلى القوانين والنُّظُم الكنسية؛ فوضع فيها كتاباً على شكل سؤال وجواب ليتلقَّن عنه الشعب الحرص على هذه التوجيهات الكنسية (مخطوطة رقم 438 – 755، محفوظة بالمكتبة البابوية بالقاهرة، وتاريخها 1715م).

+ على أنَّ أبرز المطارنة في هذه الفترة كان - من غير شك - الأنبا ميخائيل أسقف البهنسا والأشمونين المُلقَّب بـ ”العلاَّمة“. فقد كتب هذا الأسقف شرحاً وافياً للعقيدة الأرثوذكسية، ردَّ فيه على أقوال ”لاون“ أسقف روما (البابا الروماني في مجمع خلقيدونية عام 451)، وهو الأسقف الروماني الذي عاصر البابا ديسقوروس البابا الإسكندري الخامس والعشـرون (تنيَّـح سنة 454م)، وهذه مقتطفات من أقوال الأنبا ميخائيل في شرحه:

- ”... إنَّ إيماننا متسلسل من الرسل والآباء الثلاثمائة والثمانية عشرة، بلا زيادة ولا نُقصان... إننا نؤمن ونعتقد بالآب والابن والروح القدس إلهاً واحداً وجوهراً واحداً. واحد بالذات، مثلَّث بالصفات، صفاته ثابتة في ذاته الأزلية، وهو كلمته المولود من ذاته الإلهية الذي هو نُطْق ذاته، وروحه المنبثق من ذاته الذي هو حياة ذاته. ثلاثة أقانيم متساوية، ذات واحدة، ذات عقل ونُطق وحياة، خواص جوهر بغير انفصال“.

- وأيضاً: ”نعترف بتجسُّد أقنوم الابن، أي كلمة الله الآب المساوي له... ونزل الابن حسب إرادة أبيه وروحه القدوس، وحلَّ في أحشاء سيدتنا مريم العذراء...“

- وشرح تجسُّد الابن ”من الروح القدس“: ”أعني أنَّ الروح القدس هو الذي أَبْدَعَ القوة النفسانية في أحشاء القديسة مريم من غير نُطْفَة رجل، وبها تصوَّر ناسوت المسيح... والابن لا يتَّحد في شيء ما لم يسبقه الروح القدس، يُقدِّسه على الشَّبَه“.

- ”... والكاهن في صلاة القدَّاس يسأل حلول الروح القدس، فيحلَّ على المائدة، ويُقدِّسها، ويتَّحد الابن بها، وتصير جسده ودمه“.

+ وتُعلِّق الأستاذة إيريس حبيب المصري (في كتابها: ”قصة الكنيسة القبطية“ - الكتاب الرابع، الذي اقتبسنا منه موضوع هذا المقال، من صفحة 106-107، 108-120)، قائلة:

- ”وهنا يجدر بنا أن نقف قليلاً لنتمعَّن في عمل الله العجيب خلال كنيسته القبطية، فقد تجتاز في ذلك العصر فترة حالكة من الناحيتين السياسية والاجتماعية، حتى لقد ترسَّخ في أذهان الكثيرين أن حلكة الظلام الذي خيَّم على مصر، خيَّم على كنيسة مصر أيضاً. ولكننا إذا تمعنَّا في كتابة هذا الأسقف، وفيما تركه لنا هذا العصر من مخطوطات، وإذا ما تأمَّلنا في جهاد الآباء المعاصرين له، سنجد أنه سطع في وسط ظلمة القياسات العالمية نورٌ روحاني أَوضَحَ لنا في جلاءٍ أنَّ نعمة الله متى تجاوبت معها القلوب، بدَّدت كل ظلمة؛ بل جعلت من الظلمة نوراً. وأمام هذه الحقيقة المُذهلة نُدرك أننا لن نستطيع بعد اليوم أن نقول إنَّ الكنيسة عاشت في عصرٍ ذهبي ثم في عصور مُظلمة. وكل ما نستطيع قوله هو الإقرار بأنَّ الكنيسة مرَّت في عصورٍ من الضيق والظلم، ولكنها ظلَّت خلالها مُشرقة، وأنَّ التاريخ الكنسي مجموعة من عصور ساطعة وعصور أكثر سطوعاً. فحقَّ لنا أن نُردِّد مع النبي إشعياء بأنَّ كنيستنا «خيمة لا تنتقل، لا تُقلَع أوتادها إلى الأبد، وشيء من أطنابها (أي حبل من أحبالها) لا ينقطع» (33: 20)...“. (يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis