المسيح
-17-


إعداد: الراهب باسيليوس المقاري

المسيح والروح القدس (1)
السُّكنى الشخصية للروح القدس

كما أن المسيَّا كان هو الحضور الشخصي (الأقنومي) لكلمة الله؛ هكذا الروح القدس هو السُّكنى الشخصية (الأقنومية) للروح القدس في الإنسان لتحقيق عمل فداء المسيح له.

العمل الأساسي للروح القدس في الفداء لم يكـن واضحاً بالتمام، بـالرغم مـن حضوره في المسيح ومـع المسيح، إلى أن اكتمـل الفـداء على الصليب، وتثبَّت واكتمل في قيامة المسيح.

وحينئذ فقط، يكون الأوان قد حلَّ لانسكاب الروح القدس في يوم الخمسين. وحينئذ تكون النار المنتظرة التي سبق أن حلَّت على ”الشاكيناه“ (وهو الرمز القديم للمجد الإلهي في خيمة اجتماع الله مع البشرية، التي كانت قديماً بعد خروج بني إسرائيل من مصر، وبعد استلام موسى الشريعة من الله)؛ هذه النار المادية القديمة كانت رمزاً لانسكاب نار الروح القدس على المجتمعين في العليَّة في أورشليم يوم الخمسين على شكل ألسنة نار، شاهدة ومؤكِّدة ومُعلِنة عن قيامة المسيح، بكل لغات البشر.

”المحامي“، ”الناصح“، ”المرشد“:

الاسم الشخصي للروح القدس: ”الباراكليت“ ”Parakletos“. هو أكثر من اسم وصفي، إنه الاسم الشخصي الذي اختاره الابن الكلمة الذي به تشرَّف الإنسان أن يُخاطب روح الله الشخصي في العهد الجديد، حسب كلام القديس هيلاريون أسقف بواتييه(1).

+ ويُتَرجَم اسم ”الباراكليت Parakletos“ بـأنه: ”المُعـزِّي“، ”المحامي“، ”المُنقذ“ أو ”المساعـد“، ”المُشير“ و”الناصـح“؛ والمعنى الحرفي: ”الذي يستدعيـه أي أحـد لمعونته“. وParakletos هو الشخص الذي يقف إلى جانب شخص ما في قضية، أو كصديق، أو كناصح ومشير، وهـو دائماً يُقدِّم المعونة، إنـه شريك في قضية إنسان آخر (يو 16: 7)، وهو شفيع (رو 8: 26).

+ والذي أعطى للروح القدس اسم ”الباراكليت“ ليس الرسل، بل الابن الكلمة نفسه. وهو الذي يبثُّ أو ينفخ الحياة في جماعة الإيمان بالمسيح. لقد أُرسِل بشخصه (بأقنومه) ليملأ الفراغ الذي تركه المسيح بانطلاقه إلى السماء: «إنْ لم أنطلق، لا يأتيكم المُعزِّي. ولكن إن ذهبتُ، أُرسله إليكم» (يو 16: 7).

+ ومنذ ما قبل التجسُّد وأثناء التجسُّد، كان الروح القدس عاملاً مع الآب ومع الابن في تدبير الخلاص. وبعد التجسُّد صار الروح القدس هو المؤيِّد الأساسي بأن ينطق من أجل المسيح وله، لأنه كان أصلاً في جسد المسيح، لكي يجعل عمله الفدائي ظاهراً وفعَّالاً في التاريخ.

+ وحضور الروح القدس في الكنيسة كان بمثابة الحضور الحقيقي لله، موعوداً به أن يحلَّ ويسكن في الكنيسة حتى نهاية الزمان، وهو الذي يجعل حضور الابن في العالم حضوراً حقيقياً، ويجعل محبة الآب معروفة للجميع.

يقول القديس كيرلس الأورشليمي:

[إنه يُدعى ”المُعزِّي“، لأنه ”يُعزِّي ويُشجِّع“، و”يشفع“، ويحثُّ العابدين أن ”يحتقروا الغِنَى والثروة“، وأن يهربوا من الغوايات، ويحتملوا الاستشهاد](2).

لماذا سَمَّى المسيح الروح القدس

«مُعزِّياً آخر» (يو 14: 16)؟

في هذا الدهر الحاضر، اعتبر المسيح الروح القدس بعد صعوده «مُعزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد»، مُتمِّماً خدمة الابن. ولكن الباراكليت الذي أرسله الابن (يو 14: 26)، مُعتَبَرٌ أنه مثل مجيء الابن، ولكن في شكل آخر: «لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم» (يو 14: 18). أي أنَّ المسيح لن يكون غائباً عنا حتى بعد صعوده إلى السموات، بل هو حاضر معنا بالروح القدس.

+ وحينما كان المسيح على الأرض، كان هو المُعزِّي، والمرشد، وحافظ التلاميذ. ولكن بعد صعوده وعدهم أن يُرسل لهم «مُعزِّياً آخر».

+ ولماذا ”آخر“ طالما أن المُعزِّي الأول يكفي؟ يُجيب عـن هـذا السؤال القديس غريغوريوس اللاهوتي:

[حتى تعرفوا مساواته للابن؛ لأن هذه الكلمة ”آخر“ تشير إلى شخص (أقنوم) آخر، ولكن ذا ربوبية متساوية مع ربوبية المسيح](3).

+ وبهـذه الطريقـة أصبح ”الباراكليت“ هـو اللقب الذي استخدمه الرسل البشيرون أولاً ليُشيروا إلى الابن، ثم يُشيرون به إلى الروح القدس.

+ ولابد أن نعرف أنَّ الابن الذي صعد إلى السماء، هو دائم التشفُّع عنا وهو في السماء وكمُدافع ومحامٍ عنَّا: «إن أخطأ أحدٌ فلنا شفيع عند الآب، يسوع المسيح البار» (1يو 2: 1).

+ أما الروح القدس النازل من السماء، فهو هنا لكي يحكم على عالم الخطية، ولكي يُعلِن برَّ الابـن الذي يتوسَّط عند الآب مـن أجـل الخطاة، ولكي يُنذر بالدينونة الآتية على وثنية العالم (شرح مُبسَّط للآيـات يو 16: 8-11). فالباراكليت هنا يؤدِّي دور الخادم الذي يجعل إرسالية المسيَّا العبد المتألِّم أكثر تأثيراً: «لا يتكلَّم بشيء من عنده... سيُمجِّدني، لأنه يأخذ كلامي ويقول لكم» (يو 16: 14 - الترجمة العربية الجديدة).

المجيء الشخصي (الأقنومي) للروح القدس: الرب يسوع باعتباره الابن الكلمة بشخصه (بأقنومه) تجسَّد. ولأنه كان لابساً جسدنا البشري المحدود، فكان يمكنه فقط أن يكون في مكان ما في وقت ما فقط؛ وأما بعد صعوده، فبحضوره في الروح القدس، يمكنه أن يكون حاضراً في الكنيسة في كل المواضع في وقت واحد وفي كل الأوقات.

حينما كان كلمة الله في الجسد، عاش مع البشر لزمنٍ مُحدَّد. ولكن بروحه القدوس يمكنه أن يبقى مع البشرية كلها في كل الأوقات.

الله الثالوث، بالروح القدس، يمكنه أن يكون سهل المنال لكل إنسان في نفس الوقت، قريباً للمؤمنين مهما كانوا بعيدين بعضهم عن البعض، وهذا أكثر مما لو كان قد ظلَّ المسيح بجسده على الأرض إلى مالانهاية.

لماذا في هذا الوقت بالذات كان مجيء الروح القدس؟ لا يجب أن نفهم عن الروح القدس أنه ”بديل“ أو ”خليفة“ أو ”نائب“ أو ”يحل محل“ المسيح كأنه غائب، أو أنَّ الروح القدس هو بديل أقل مقاماً من الابن، أو تعويضاً لفقدان المسيح على الأرض.

- لا، إنَّ مجيء الروح القدس هو مجيء الله الثالوث في زمان اكتمال الفداء، وانسكابه جاء مباشرة بعد اكتمال خدمة المسيح. فالمسيح بنفسه يكون حاضراً حتى في ومن خلال مواهب الروح القدس (يو 16: 12-33). إنَّ حضور الله في تجسُّد الابن هو تماماً مثل حضور الله في انسكاب الروح القدس. فكِلا الحَدَثين يُعلنان حضور الله الثالوث بشخصه في البشرية.

+ وحتى قبل قيامة المسيح، كانت عطية الروح القدس مُهيَّأة للانسكاب من الآب. ولكن قبل قيامة المسيح، لم يكن التلاميذ مُهيَّئين لهذه العطية الفائقة، مثلهم في هذا مثل كل البشرية. فعند وبعد نُطق المسيح على الصليب بكلمة ”قد أُكْمِلَ“، فإن تحقيق نبوَّات الأنبياء قد صار ممكناً. وفقط بعد قيامة المسيح، أصبح ممكناً إعلان الإنجيل باعتبار أنَّ كل تدبير الخلاص قد اكتمل بأحداثه الخلاصية.

+ قبل القيامة، كانت إرسالية الابن يُخيِّم عليها الجدل، وأحياناً الشجار من اليهود، واليأس من التلاميذ؛ أما بعد القيامة، فقد اتَّضحت إرسالية الابن وتثبَّتت.

يوم الخمسين: انسكاب الروح القدس

بعد مجيء الفصح عند اليهود وعيد الفطير، يأتي عيد البواكير (تقديم باكورة المحصول)، وهذا رمز ليتورجي للقيامة - راجع لا 23: 17-20؛ رو 8: 23؛ 1كو 15: 20-23. وبعد ذلك يتبع الخمسون يوماً (ومعناها باليونانية pentecoste) ما نقوله بالعربية ”البنتيقُسطي“، الاحتفال بأسبوع الأسابيع (أي 7 أسابيع، 49 يوماً) بعد تقديم البواكير (خر 23: 16)، التي تُمثِّل تقديم بواكير الحصاد، التي ترمز إلى الاجتماع للاحتفال بحُكْم الله. بعد 50 يوماً من البواكير كانت تُقدَّم خبزتان (أي خبز مختمر) الذي يرمز إلى تأسيس يوم الخمسين ”البنتيقُسطي“ (راجع لا 23: 15-21).

المكوث في أورشليم لأسبوع أسابيع (49 يوماً): لقد أوصى المسيح تلاميذه أن يمكثوا في أورشليم ولا يبرحوها 49 يوماً في انتظار حلول الروح القدس (أع 1: 4). هذه كانت لحظة سعيدة لبداية شمول تدبير الخلاص.

+ وكان عيد الخمسين (البنتيقُسطي) قد جمع أعداداً كبيرة من اليهود في أورشليم بعد صَلْب المسيح وقيامته بوقتٍ قصير (أع 2)، أتوا من أنحاء بعيدة من بلاد العالم المعروف آنذاك.

+ ويُحقِّق عيد البنتيقُسطي المسيحي العيد اللاوي في العهد القديم لأسبوع الأسابيع: «ومن غد السبت، يوم تجيئون بحُزمة من باكورة حصادكم تقدمة يُحرِّكها الكاهن أمام الرب، تحسبون لكم سبعة أسابيع كاملة. وفي غد السبت السابع (أي يوم الأحد) بعد خمسين يوماً تُقرِّبون تقدمة جديدة للرب» (لا 23: 16،15).

+ وتُشير هذه البنتيقُسطي أيضاً إلى القيامة العامة المزمع حدوثها كما يقول القديس باسيليوس الكبير:

[البنتيقُسطي هي تذكير بالقيامة المنتظرة في الدهر الآتي، لأن الأبدية مرموز إليها بسبعة أزمنة](4).

الرب القائم من بين الأموات أنبأ تلاميذه قائلاً: «أن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأُمم، مُبتدأً من أورشليم. وأنتم شهود لذلك وها أنا أُرسل إليكم موعد أبي. فأَقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تُلْبَسوا قوة من الأعالي» (لو 24: 47-49)

الروح القدس ما عاد ليكون زائراً عابراً، بل دائماً: لقد صارت الكنيسة - بالبنتيقُسطي - هيكلاً لله، هيكلاً جديداً للشفاعة، والنبوَّة، وللاحتفال بالأسرار، وللتسبيح: «وأما أنتم، أيها الأحبَّاء، فابنوا أنفسكم على إيمانكم الأقدس، مُصلِّين في الروح القدس» (يهوذا: 20). وهكذا فإنَّ الروح القدس الذي كان قبلاً – بطريقة متقطعة – يُستدعَى، ويُدهَن به وتُمسَح به الأواني المختارة في الهيكل، الآن حلَّ ليسكن مع جماعة المؤمنين، وبالرجاء مع كل البشرية (عب 8: 10؛ يو 14: 15-19).

+ في يوم البنتيقُسطي، الروح القدس ”نزل وحلَّ على هيكل رُسُله، الذين أعدَّهم لنفسه، كحميم ونَضْح للتقديس، ولم يَعُدْ زائراً عابراً؛ بل مُعزِّياً دائماً أبدياً، وكساكن مُقيم أبدياً“، كقول القديس أُغسطينوس.

+ وكما سبق الابن أزلي الوجود أنْ أتى وتجسَّد؛ هكذا الروح الأزلي الوجود قد سبق وحلَّ يـوم البنتيقُسطي. وكما وُلـد الوسيط بين الله القدوس وبين البشرية الخاطئة في مذود في بيت لحم؛ هكذا مُوزِّع عطايا الابن وَلَدَ الشعب الجديد لله. وكأنَّ الله الروح قد جعل سُكْناه داخل الكنيسة في اللحظة التي فيها صعد الله الابن ليتشفَّع أمام الله الآب. هذه السُّكنى كان موعوداً بها أن تظل قائمة إلى منتهى الأزمنة.

+ والواحد الذي جعل سُكناه في الكنيسة هو الروح القدس الذي «سيُرسله الآب باسمي (باسم المسيح)» (يو 14: 26).

+ ويُجمل القديس يوحنا حديث المسيح عن الروح القدس بقوله عن حلول الثالوث: «إنْ أحبني أحد، يحفظ كلامي، ويحبُّه أبي، وإليه نأتي وعنده نصنع مسكناً معه» (يو 14: 23 – ترجمة دقيقة). الآب والابن والروح القدس يسكن في المؤمن بحلول الروح القدس.

المسيح أعطى الروح القدس لتلاميذه

قبل يوم الخمسين:

لقد سبق الرب يسوع، وبعد قيامته، أن نفخ في وجه تلاميذه قائـلاً: «اقبلوا الروح القدس» (يـو 20: 22). لقد سبق التلاميذ واعترفوا بربوبية المسيح، وتابوا، وآمنوا به، وذلك في زيارات المسيح لهم وهم في العليَّة بعد قيامته. فبأي معنى يُقال إنَّ التلاميذ نالوا الروح القدس في يوم الخمسين؟ وماذا عن علامات الحضور في ذلك اليوم من ألسنة، ونار، وريح؟

+ وهنا يظهر تعاقُب إذكاء نار الروح القدس. فبعد قُرْب انتهاء رسالة المسيح على الأرض، صلَّى المسيح أن يستمر الروح القدس في سُكناه وحضوره مع خاصته (يو 14: 16-17). وقد أنبأهم المسيح ألاَّ يفارقوا أورشليم إلى أن يُلْبَسوا القوة من الأعالي (لو 24: 49).

وبعد وعود متكررة من المسيح عن مجيء الروح القدس (يو 14: 26،17؛ 15: 26؛ 16: 13،7)، نفخ المسيح الروح القدس في تلاميذه بعد قيامته (يو 20: 22). ولكن في يوم الخمسين، انسكب الروح القدس بكل ملئه وكماله على كل الجماعة التي كانت مجتمعة معاً يوم الخمسين (أعمال الرسل - أصحاح 2).

(يتبع)

**************************************************************************************************

دير القديس أنبا مقار
بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:
21.130.153
دير القديس أنبا مقار
بنك كريدي أجريكول مصر - فرع النيل هيلتون
**************************************************************************************************

(1) Hilary, Trin. VIII. 19-27; NPNF, 2nd Ser., Vol. IX, pp. 142-45.
(2) Cyril of Jerusalem, Catech. Lect. XVI. 19,20; NPNF, 2nd Ser., Vol. VII, p. 120.
(3) Gregory Nazianzen, Orat. XLI. 12; NPNF, 2nd Ser., Vol. VII, p. 393.
(4) Basil, On the Spirit; NPNF, 2nd Ser., Vol. VIII, p. 442.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis