شهادة من طبيب


عملاق الكلمة
في عصرنا الحديث

بقلم الأستاذ الدكتور رشاد برسوم(1)
كرَّمني رهبان دير القديس أنبا مقار بطلب كتابة بعض ذكرياتي عن أبينا المتنيِّح القمص متى المسكين - عملاق الكلمة في عصرنا الحديث.

عرفتُ الأب متى المسكين منذ ثلاثين عاماً، عندما زرته مع بعض الأصدقاء من أبنائه ومُريديه. ومِن وقتها استمر التواصُل بيننا حتى ليلة انتقاله إلى فرح سيِّده.

عرفته عالماً ومُعلِّماً ومُرشداً ومريضاً.

لا يختلف مُنْصف على علم أبينا متى المسكين، فأسلوبه في البحث والتدقيق والتوثيق معروف؛ وقدرته - بنعمة المسيح - على رؤية ما لا يراه كثيرون، وآراؤه الفريدة في شتَّى نواحي الفكر المسيحي، كلها تضعه في مصاف الفلاسفة منذ عصر بولس الرسول إلى يومنا هذا.

أما في مجال التعليم، فقد انتهج أبونا متى ثلاثة مسارات: الكتاب، والعظة، والقدوة.

+ فكتبه تملأ المكتبات، يجد فيها كل قارئ ما يقصده على امتداد الطَّيْف، مـن الشرح المُبسَّط والكلمات المُعزِّية، إلى أعمق الدراسات والتأمُّلات، إلى درجة أنَّ أية مكتبة مسيحية لا يمكن أن تكتمل بدون مؤلَّفات الأب متى المسكين.

+ وكان في عظاته - والكثير منها مُسجَّل - يعكس كمّاً هائلاً من المعرفة، وفيضاً من الصدق والتلقائية، تجعل كلماته تجد طريقها بلا عائق إلى القلب والعقل في مسارٍ مباشر.

+ أما القدوة، فكانت أسلوبه العملي في التعليم. فكل مَن تعامَل معه من أبنائه، أو زوَّاره، أو العمال الدائمين أو المؤقتين، أو حتى جيران الدير على مختلف انتماءاتهم الدينية ومستوياتهم الثقافية أو الاجتماعية؛ كان كل مِن هؤلاء يرى في تصرُّف أو كلمة أو لمسة حب من الأب متى المسكين درساً وموعظة.

كان أبونا متى مرشداً روحياً للكثيرين، أحدهم كاتب هذه السطور. ولن أنسى تلك الليلة التي لجأتُ إليه فيها حائراً ومضطرباً، أسأله النُّصح في مشكلة شخصية هامة. فأخذ يسأل ويُدقِّق ويتأمَّل، وبلا أدنى تردُّد فتح فاه وراح يتحدَّث بكلمات النعمة مسترشداً في كل كلمة بالإنجيل المقدس. وانصرفتُ وفي قلبي هدوء وراحة لا توصَف، وعملتُ بنصيحته، وأثبتت الأيام صحة رؤيته وحكمته.

ومثل معظم القدِّيسين، كان في جسد أبينا متى المسكين شوكة المرض، وشرَّفني بالمشاركة في علاجه لسنواتٍ طويلة، كان فيها مثالاً للصبر وتحمُّل الألم. وعندما عرف أنَّ ساعته قد اقتربت، اختصَّني بنوال بركة أيامه الأخيرة؛ إذ حضر، برفقة الراهب الرائع المتنيِّح الأب لوقا المقاري، إلى مستشفاي الخاص، وطلب أن يمكث عدة أيام تحت الفحص والرعاية الطبية، وكان وقتها مُصاباً بالتهابٍ رئوي - تمَّ علاجه خلال حوالي أسبوعين على ما أذكر، وأصبح طبِّياً مُعَدّاً للعودة إلى الدير - ولكنه طلب أن يبقى يومين أو ثلاثة للنقاهة، وبالطبع قبلتُ هذه البركة بسعادة غامرة سَرَت بين جميع الأطباء وهيئة التمريض والإداريين والعاملين بالمستشفى، الذين كانوا يتردَّدون عليه لنوال البركة.

وبعد مروري المعتاد في اليوم الثالث، استدعاني وحدي، ومنحني البركة، وقال: ”أنا مُتشكِّر“. فسألته: هل يعني هذا أنه قرر العودة إلى الدير؟ فقال: ”ربنا يدبَّر. بس أنا حبيت أقول لك إني متشكر، يمكن مالحقش بعد كده“!

تصوَّرتُ أنه قد يُقرِّر الخروج في وقت لا أكون فيه موجوداً بالمستشفى، إلاَّ أنه بعد حوالي ساعة تدهورت حالته بصفة مُفاجئة، ولم تفلح محاولات إنقاذ حياته خلال الأيام القليلة التالية، والتي أمضاها بالرعاية المُركَّزة.

لقد فاضت روحه بسلام كامل عند الفجر، واتصل بي الأب لوقا طالباً نقل جثمانه الطاهر إلى الدير، حتى يصل خلال صلاة باكر حسب وصيته. وتمَّ ذلك كما أراد تماماً.

غادر أبونا متى المستشفى جسدياً، ولكن روحه وتعاليمه ظلَّت في قلوب كلِّ مَن تعاملوا معه. أما بالنسبة لي، فلا يزال أبونا متى المسكين حيّاً، بنظرته الحنونة الثاقبة، وحكمته المُلهمة، وعلمه العميق، ومحبته الفائقة.

دكتور رشاد برسوم

(1) صاحب ورئيس مركز الكلى في وسط البلد - القاهرة.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis