ذِكر الصدِّيق للبركة


في الذكرى السنوية الثامنة لنياحة أبينا الروحي القمص متى المسكين

الثالوث الأقدس في حياة وكتابات الأب متى المسكين
كل متعمِّق في كتابات الأب متى المسكين يمكنه أن يلمح فيها من بدايتها حتى نهايتها مدى ارتباطه واتصاله وعلاقته القوية بالثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس؛ مما يعكس سرَّ شركته العميقة الداخلية مع الله، التي عبَّر عنها القديس بطرس الرسول بقوله: «كما أن قدرته الإلهية قد وَهَبَت لنا كلَّ ما هو للحياة والتقوى، بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة، اللذين بهما قد وَهَبَ لنا المواعيد العُظمى والثمينة، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة» (2بط 1: 4،3).

والواقع أنَّ الرب يسوع نفسه أكّد لتلاميذه هذه الحقيقة ودعانا للسعي فيها والدخول في اختبارها بكل بساطة وعمق، عندما قال: «إنْ أحبني أحدٌ يحفظ كلامي، ويُحبَّه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع من‍زلاً» (يو 14: 23)، وسبقها بقوله أيضاً: «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يُحبُّني، والذي يُحِبُّني يُحبُّه أبي، وأنا أُحبُّه، وأُظهِرُ له ذاتي» (يو 14: 21).

ويبدو أنَّ القديس يوحنا الإنجيلي والرسول كان مِن أكثر مَن تأثَّروا وأحسُّوا بهذه الشركة الإلهية، إذ بدأ رسالته الأولى بقوله: «الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة. فإنَّ الحياة أُظهِرَت، وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً» (1يو 1: 1-4).

الأب متى المسكين في مقدمة كتابه ”مع المسيح“:

في مقدمة كتاب ”مع المسيح“ الذي كتبه في أربعة أجزاء، في السنة الأخيرة من حياته، كَتَبَ يُخاطب قُرَّاءه قائلاً:

[دعاء من القلب والروح للقارئ، أن يأخذ نصيبه من الروح القدس حتى الملء، ليذوق معنى الحياة مع المسيح، فهي طيِّبة بالنعمة المسكوبة من الآب على رأس المؤمن، وهي حقٌّ مُكْتَسَبٌ بتوسُّط المسيح الذي لنا فيه شفاعة ووساطة بدمه الذي سكبه على صليب محبته من أجل الخاطئ حتى آخر قطرة، وذاق الموت لنذوق نحن الحياة الجديدة بقيامته، وننال نصيب البنين في إرث الابن الأزلي] - الأب متى المسكين.

مقتطفات من كتب ”مع المسيح“:

[ينبغي لنا في دراسة اللاهوت أن نعرف ونتيقَّن أن الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس، إنما عملهم واحد. ولكن مُوزَّع عليهم بحسب اختصاصهم، وليس بحسب طبيعتهم، لأن طبيعتهم واحدة وعملهم واحد، وإنما متنوع الاختصاصات. وكل ما يعمله الأقنوم الواحد إنما يعود بالمجد لباقي الأقانيم] (كتاب: ”مع المسيح“، جزء 2، 13 أكتوبر 2005م).

( «وصوت من السموات قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ» (مت 3: 17):

[هذا أول تعريف باللاهوت، فالصوت الذي جاء من السماء هو حتماً صوت الآب، لأنه يقول: «هذا هو ابني». فلأول مرة يُستعلَن الله من السماء أنه آب وابن. ومِن هنا جاءت حتمية الروح. فالآب حيٌّ والابن حيٌّ؛ والآب قدوسٌ هو، والابن بالتالي قدوس. ولَزِمَ أن يكون الروح قدُّوساً فعرفناه أنه الروح القدس.

وليس في اللاهوت انقسام أو عددية. فالآب والابن والروح القدس هو الله الواحد. فالآب حيٌّ بالروح القدس، والابن حيٌّ بالروح القدس، والروح القدس حيٌّ في الآب والابن. وقد حقَّق لنا المسيح أنَّ الابن كائنٌ في الآب وبالآب، وأنَّ الآب كائنٌ في الابن وبالابن. فالأُبوَّة والبنوَّة في الله كيانٌ واحد. وتحتَّم أن يكون الروح القدس قائماً في هذا الكيان. ولكن، كما قلنا، إنَّ اللاهوت مُن‍زَّه عن الانقسام والعددية والمحدودية. فالآب يملأ السموات والأرض، والابن يملأ السموات والأرض، والروح القدس يملأ السموات والأرض. فالآب والابن والروح القدس لاهوت واحد يملأ السموات والأرض] (كتاب: ”مع المسيح“، جزء 2، 19 يوليو 2005م).

( «وأنا أطلب من الآب، فيُعطيكم مُعزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد» (يو 14: 16):

[أعظم عطايا الآب والابن، هو المُعزِّي الروح القدس. ولماذا يكون الروح القدس هو أعظم العطايا؟ لأنه واحد مع الآب والابن. وكأنه بالضرورة الحتمية، أنه بعد أن أرسل الله ابنه إلى العالم الذي صار الوسيط الأعظم بين الله والإنسان (1تي 2: 5)، أن تقدَّم الابن بواسطة دالَّته العُظمى لدى الآب وقُرْبه الشديد بالإنسان، وطلب من الآب أن يُرسل هذا المعزِّي الأعظم من عند الآب، ليكون الإنسان بالنهاية ذا صلة حياتية وكيانية بالآب والابن والروح القدس، حيث لا غِنَى قط عن أيِّ واحد منهم لأنهم واحد. بعد ذلك مباشرةً استعلَن لنا يسوع المسيح أعظم أسرار الآب والابن والروح القدس بأنْ قال: «أنا في أبي، وأنتم فيَّ، وأنا فيكم» (يو 14: 20).

وهكذا استعلَن بصورة سرِّية للغاية وحدة الآب والابن ثم وحدتنا في الآب والابن، وطبعاً وبالضرورة، فإن عامل الوحدة السرِّي للغاية هو الروح القدس، فهو الذي يُوحِّدنا في المسيح والآب. هذه الوحدة التي نالها الإنسان، مَدْخلُها الابن الذي أخذ جسده بالروح القدس من العذراء مريم. ونحن نجد الابن يربط حفظ وصاياه والإيمان به، كشرطٍ للدخول في الابن، ودخول الابن فينا، وبالتالي الروح القدس الذي طلبه المسيح علناً من الآب لأجلنا كشخصٍ قائمٍ بذاته، يمكث معنا ويكون فينا (يو 14: 17). فهو يمكث معنا بأن يكون رفيقاً وقائد الطريق، والطريق هو هو الرب يسوع، ويكون فينا بأن يُحيينا مع الآب والابن. وأسماه المسيح ”مُعزِّياً آخر“ نظراً لأنه هو - أي المسيح - هو المعزِّي الأول للإنسان.

وهذا السرُّ الذي نكشفه الآن ونستعلنه: أي أنَّ الابن في الآب، ونحن في الابن، والابن فينا (يو 14: 20)؛ هو أعظم أسرار اللاهوت، نقْرُبه برهبة وهيبة وانفتاح إيمان، بقلب خاشع ونفس منحنية، لنقبلَ هذه الحقيقة التي هي حقيقة الحقائق في اللاهوت المسيحي.

ونقول ذلك للقارئ، ليقْبَلَ نصيبه وميراثه الأبدي في الآب والابن والروح القدس، وهو السرُّ القائم في المعمودية المقدسة، التي نتقبَّل فيها ميلادنا الروحي الإلهي في الآب والابن والروح القدس. فالمسيح لم يتركنا يتامَى لما صعد إلى السماء للمرة الأخيرة، فسلَّمنا لمُعزٍّ آخر يملؤنا ملئاً، يُعلِّمنا الحق الإلهي، ويقودنا في الطريق الذي أسَّسه المسيح بجسده على الصليب، ويفتتح فينا حياةً هي حياة المسيح، لنصير واحداً فيه وهو فينا، تأكيداً أبديّاً لخلاصنا وتوريثاً لنا في كل مخصصات الابن ومجده. والحقيقة الأخرى التي علينا أن نستعلنها للقارئ أنَّ الآب نفسه تبنَّانا، فصار هو أبانا الأقدس] (كتاب: ”مع المسيح“، جزء 2، 24 يوليو 2005م).

( «فلستم إذاً بعد غرباء ونُزُلاً، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله» (أف 2: 19):

[غرباء نحن وسنظل غرباء، إلى أن يُدخلنا الآب إلى بيته الأبدي، لنصبح ”أهل بيت الله“، فيكون ملء الفرح والسرور الذي لا يمكن التعبير عنه.

فمَن يسند الإنسان حال غربته؟ هنا تحتَّم على المسيح أن يتوسل إلى أن يُرسل مُعزِّياً آخر كفيلاً بأن يسند الإنسان حتى يستودعه في يد الآب. والروح القدس هو روح الآب، فعندما يرسل الآب روحَه القدوس، نكون نحن في حفظ الآب والابن والروح القدس. لذلك بادر المسيح من جهته أن يُمهِّد لحضور الروح القدس بأن أَلْبَس الإنسان قيامته وهي قائمة بمجد الآب، كما تنازَل الابن وأعطى الإنسان مجده الذي من الآب: «أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (يو 17: 22).

وهكذا دخل الإنسان في دائرة الثالوث الأقدس بجدارة، لا لأنه يستحقها، بل من أجل توسُّل الابن ورضا الآب، فالآب خطَّط منذ الأزل ”أن يكون الإنسان واحداً منَّا“ (تك 3: 22). ولكن الفضل كل الفضل للمسيح الذي صار إنساناً لكي يُهيِّئنا أن نكون فيه أولاً، لنكون بعد ذلك مُهيَّئين أن نكون في الآب. وقد صرَّح قبل الصليب باطمئنان شديد مُخاطباً الآب، أنه نجح أن يزفَّنا للآب كخليقة جديدة سماوية: «أنا فيهم وأنت فيَّ، ليكونوا مُكمَّلين إلى واحد» (يو 17: 23).

شيءٌ لا يمكن التحدُّث عنه، أن يصبح الإنسان بعد أن يخلع عتيقه القديم الملوَّث بالخطايا، أن يكون واحداً مع الآب والابن. وهكذا كان إرسال المعزِّي الآخر من عند الآب ليستلم دوره في صياغة روح الإنسان لتكون وفق الآب والابن، هو اللمسة الأخيرة التي وضعها المسيح في الإنسان ليدخل في دائرة الآب والابن والروح القدس كشريكٍ مُنعَمٍ عليه.

وحالما حلَّ الروح القدس، المعزِّي الآخر، يوم الخمسين من قيامة الرب المجيدة؛ بدأ يعمل ويصيغ في الإنسان الجديد بروح نشطة فعَّالة أدهشت التلاميذ وكل الناس، وبدأ الإنسان الجديد يتكلَّم بلغة جديدة ليؤكِّد قبول الروح الجديدة التي رفعته من مستوى خليقة قديمة إلى خليقة جديدة بشِبْه خالقها في المجد (كو 3: 10). وبدأت عمليات الشفاء الإعجازي لتُعبِّر عمَّا ربحه الإنسان من روح جديدة. وهكذا تحقَّق مطلب المسيح لإخوته على الأرض أن ينالوا عزاءً سماوياً، وليُنقلوا من يد الابن إلى يد الروح القدس والآب في السماء، لتتميم عمل الابن، وفرح الابن بعمل يديه، وأعطى وعده لتلاميذه أنـه سيكون معهم «كل الأيام، إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20)] (كتاب: ”مع المسيح“، 2 أكتوبر 2005م).

( «ليس بكَيْل يُعطي الله الروح» (يو 3: 34):

[إنَّ كَيْل الروح القدس لا تَسَعَه السموات والأرض، وقد خصَّ الإنسانَ الجديد المولود من الروح من فوق، الشيءُ الكثير. فقد استطاع الروح القدس أن يُلقِّن الإنسان الجديد كلَّ ما يخص المسيح والآب. وجهَّزه ليدخل الشركة مع الآب والابن. والقيامة مع المسيح للجلوس في يمين الآب، وأن يليق للحياة الأبديـة، ويَنْعَم بسرِّ الخلود. أيُّ كيل هذا؟ وبأيِّ معيارٍ تحوَّل الإنسان من خليقة ترابية مآلهـا اللعنة والموت، إلى خليقةٍ سماوية تحيا بالروح لتنعم بشركة سرِّية فائقة مع الله؟!

إنَّ الكَيْل الذي كال به الله عطيَّته للإنسان من أعظم أسرار الله والوجود، فلا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا نبيّاً، إلاَّ الابن يمكن أن يُعبِّر به عن الكيل الذي كال به الله الروح وسكبه علينا سكيباً. ولكي نوضِّح الأصل الجديد الذي قُطِعْنا منه، نسمع المسيح ابن الله يقول: «لأجلهم أُقدَّس أنا ذاتي»، و«أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (يو 17: 22،19). وكما حلَّ علينا المجد الإلهي الأبوي عندما رُفِعَ يسوع المسيح وقام من بين الأموات؛ فرُفِعْنا معه بمجد الآب، وصرنا في المسيح من «أهل بيت الله» (أف 2: 19) عشيرة جديدة سماوية للإنسان، تَنْعَم بملكوت الله الأبدي، تحيا مع الابن في ظلِّ الآب] (كتاب: ”مع المسيح“، 6 أكتوبر 2005م).

( هذه مقتطفات بسيطة من بحث كبير لأحد آباء الدير في معظم كتب الأب متى المسكين، تُبيِّن مدى تعلُّقه بسرِّ الشركة الداخلية مع الله الآب والابن والروح القدس: الإله الواحد، كما نقول في مُقدِّمة قانون الإيمان: نكرز ونُبشِّر بالثالوث القدوس ”لاهوت واحد، نسجد له ونمجِّده، يا رب ارحم، يا رب ارحم، يا رب بارك آمين“.

وهذا هو نفس ما طلبه القديس أنبا أنطونيوس لتلاميذه وحثهم على أن يطلبوه من الله:

[ارفعوا أفكاركم إلى السماء في الليل والنهار، واطلبوا من كل قلوبكم هذا الروح الناري، وهو يُعطَى لكم. وانظروا لئلا تأتي على قلوبكم أفكار شكٍّ قائلة: مَن يستطيع أن يقبل ذلك؟ لا تَدَعوا هذه الأفكار تتسلَّط عليكم، بل اطلبوا باستقامة وأنتم تقبلونه. وأنا أيضاً أبوكم أطلب من أجلكم لكي تقبلوه... ومتى قبلتموه فهو يكشف لكم أسرار السماء، لأنه يُعلِن لكم أموراً كثيرة لا أستطيع أن أكتبها على ورق. وحينئذ لا تخافون من أيِّ أمر مخيف، بل يسودكم فرح سماوي، وهكذا تكونون وأنتم ما زلتم في الجسد كمَن انتقل إلى الملكوت]!

(الرسالة الثامنة للقديس أنطونيوس الكبير في النسخة العربية)

وأما القديس أنبا مقار فيقول: ”غاية مجيء الرب أن يمنحنا روحه القدوس“:

[كما أنَّ حياة الجسد في العالم هي النفس، كذلك حياة النفس في العالم الأبدي السماوي هي روح الله!... لذلك يجب على مَن يطلب الإيمان والاقتراب إلى الرب، أن يلتمس نوال الروح الإلهي منذ الآن لأنه هو حياة النفس! ولهذه الغاية أكمل الرب مجيئه ليمنح النفس روحه القدوس منذ الآن، حياة لها...] (العظة 30: 6،5). (يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis