من تاريخ كنيستنا
- 69 -


الكنيسة القبطية في أواخر القرن الحادي عشر
وأوائل القرن الثاني عشر
الأقباط في القرن الحادي عشر

الأقباط في القرن الحادي عشر(1):
كان الأقباط(2) في عصر الدولة الفاطمية يتمتعون بسياسة التسامح الديني التي سار عليها الخلفاء الفاطميون في العصر الفاطمي الأول؛ ولكن باستثناء فترة في عهد الحاكم بأمر الله، عانى فيها الأقباط والمصريون عموماً من التصرفات الجنونية، لكنه رجع في نهاية عهده عن هذه التصرفات الغريبة (ارجع إلى مجلة مرقس، عدد أكتوبر 2008، ص 42).

عموماً في هذا العصر - وبالذات في القرن الحادي عشر - نَعِمَ الأقباط بقدر جيد من حرية ممارسة شعائرهم المسيحية. فالخليفة المعزُّ لدين الله الفاطمي لم يتدخل في الشئون الداخلية الخاصة بالكنيسة، علاوة على أنه أقام علاقات وطيدة مع رجالها.

وفي عهد البابا أبرآم بن زرعة السرياني، نشأت بين الخليفة المعزِّ والأب البطريرك صداقات طيبة، وكان يستدعيه إلى مجلسه. كما كان البابا أبرآم محل تقدير واحترام كبار رجال الدولة الفاطمية، مما كان له الأثر الطيب في العلاقة بين الدولة والكنيسة؛ لكن ذلك من جهة أخرى أثار حقد رجال الدولة من اليهود الذين كانت لهم صلة وثيقة بقصر الخلافة. ومعجزة نقل جبل المقطم كانت نتيجة للوشاية من موسى اليهودي صديق الوزير يعقوب بن كلس لإحراج البابا أبرآم أمام الخليفة. فضلاً عن أن الخليفة قلَّد المناصب العُليا في الدولة لكبار رجال الأقباط (وكذلك اليهود) دون أن يُكره أحداً منهم على اعتناق الإسلام كشرط لتقلُّده المنصب.

وفي عهد المستنصر بالله، ساءت العلاقات بينه وبين البطريرك خريستوذولوس (البطريرك السادس والستين)، حينما اتُّهم الأب البطريرك بعدم الوفاء بالتزامات ملك النوبة تجاه الخليفة، فأُلقي القبض على البطريرك ورُحِّل من القاهرة، وأُلزم بدفع غرامة مالية كبيرة. ولكن متولي منطقة مصر السفلى توسَّط لدى الوزير ”اليازوري“ للإفراج عن البطريرك، وأخذ منه تصريحاً بإطلاق سراحه في الحال. وفي ظل هذه العلاقات طلب البابا أبرآم من الخليفة المعزِّ بتجديد عمارة بعض الكنائس، وأَذِن له المعزُّ ببناء كنيستين (القديس مرقوريوس بالفسطاط، والكنيسة المعلَّقة بقصر الشمع).

كما قام البطريرك المذكور ببناء وترميم كثير من الكنائس بالإسكندرية وسائر أنحاء مصر. وقصة اعتراض بعض مشايخ المسلمين وعامَّتهم المتعصبين على قيام المسيحيين ببناء الكنائس الجديدة بحجة أن هذا مخالف للإسلام، ثم توفير الحراسة وحماية العمال والبنَّائين بأمر الخليفة المعزِّ، هي من أهم الأحداث في سيرة البابا أبرآم، حينما أمر جنوده بإلقاء الحجارة على الشيخ الذي ارتمى في الأساس المحفور في الأرض لمنع البناء، لكن البابا أبرآم توسَّل لدى الخليفة بإنقاذه من تنفيذ هذا الحكم.

ولكن مع التسامح الذي أبداه كلٌّ من الخليفتين المُعزُّ والعزيز بالتصريح بترميم الكنائس، وهذا ما يتفق مع ما يُسمَّى ”الشروط العُمَرية“ فيما يتعلَّق بالكنائس(3)، إلاَّ أنهما صرَّحا أيضاً بإقامة وبناء الكنائس الجديدة بالقاهرة والأقاليم، وهذا ما لا يتفق مع ”الشروط العُمَرية“ التي حرَّمت بناء كنائس جديدة للمسيحيين.

لكن الخليفة الحاكم بأمر الله كان صارماً في تنفيذ ما جاء بالشروط العُمَرية فيما يتعلَّق ببناء الكنائس؛ بل زاد على ذلك، فأمر بهدم الكثير من الكنائس في فترة سياسته المتشدِّدة إزاء الأقباط. فكان يهدم الكنائس ويبني بدلاً منها جوامع (مثل جامع راشدة). كما هدم كنيستين، واحدة قبطية والأخرى للنساطرة، وبنى بدلاً منهما جامعين للمسلمين، وشمل الهدم أيضاً كنيستين للملكانيين بحارة الروم. وكان أخطر إجراء اتخذه هو المرسوم بهدم كنيسة القيامة بالقدس ومصادرة جميع أملاكها وأوقافها وأموالها، والاستيلاء على جميع محتوياتها من تحف وذخائر، وكان هذا الحادث هو أحد أسباب ودوافع الحروب الصليبية بعد ذلك.

الأقباط أَثْروا الحركة الصناعية والتجارية في مصر:

 

مع تواتر الاضطهاد والتسامح، لم يكُفَّ الأقباط - وهم أهل مصر - من أن يواصلوا نشاطهم الصناعي والتجاري وإثراء الحركة الاقتصادية في مصر. وهذه لمحات من أنشطتهم المتنوعة، كما ذكرها المؤرِّخون المسلمون وغيرهم عن ذلك:

+ ازدهرت صناعة النسيج، بسبب جودتها وتفوُّقها على مثيلها في البلاد الأخرى. وقد ساعد على ذلك توفُّر خامات النسيج في مصر، فالكتان تتوفر زراعته في ريف مصر، والصوف المصري يتوفر في مناطق الفيوم وأخميم وأسيوط نتيجة تربية الأغنام في تلك المناطق. وقد شهد المؤرخ ”ابن حوقل“ لجودة وتفوُّق هذه المنسوجات قائلاً: ”ليس في جميع الأرض ما يُدانيها في القيمة والحُسن والنعمة والترف والرقة والدقة“. وقد حملت هذه المنسوجات الكثير من أسماء المدن المصرية التي صُنعت بها مثل: تنِّيس، شطوبة، دمياط، دبيق، الإسكندرية، البهنسا، وغيرها. وقد اشتهرت من بين هذه المدن ”تنِّيس“ (جهة المحلة الكبرى) التي كانت تضم حوالي 50 ألفاً من السكان وآلاف المناسج، و”دمياط“، و”أسيوط“. كما كانت أخميم تُصدِّر منسوجاتها إلى أقصى البلاد.       

                           

نسيح مصري من العصر الفاطمي

+ بلغت الدقة في الحفر على الخشب والصناعات الخشبية مرحلة ممتازة على يد الصُّنَّاع الأقباط في عصر الفاطميين. ونظراً لعدم توفُّر الأخشاب المتينة في مصر، فقد استوردت الأخشاب الشديدة الصلابة من أوروبا والشام (خشب الأَرْز والصنوبر)، وآسيا الصغرى، والسودان (خشب الأبنوس). وفي المتحف القبطي قبة مذبح أصلها من كنيسة المُعلَّقة مصنوعة من خشب الأبنوس. ومن أبدع الأمثلة الباقية للتحف الخشبية (الحفر على الخشب) حجاب الهيكل في كنيسة ”القديسة بربارة“ بمصر القديمة (معروض الآن بالمتحف القبطي).

حفر على الخشب يمثل ميلادالمسيح - كنيسة ”أبو سرجة“ - القاهرة

   

 

 

 

 

+ صناعة المعادن والعاج: برع المصريون في صناعة المعادن وسبكها وزخرفتها، هذه الصناعة التي عرف دقائقها وأسرارها أقباط مصر منذ عهد الفراعنة. كما كثر استخدام النحاس في صناعة الأواني والأدوات المنزلية. كما استخدم هؤلاء الصُّنّاع البرونز في صناعة المباخر (الشورية) وصنابير الأواني. ويذكر المؤرخ ناصري خسرو أن الصُّناع في مدينة تنِّيس كانوا يصيغون آلات الحديد كالمقراض والسكين. وقد وُجد في كنيسة أبي سيفين كرسي من الحديد يرجع إلى القرن الحادي عشر. كما استُخدم العاج في صناعة أشياء كثيرة مُطعَّمة بالعاج مثل أبواب الهياكل في دير القديس أنبا مقار.

 

 

حفر على الخشب يمثل العشاء الأخير - كنيسة ”أبو سرجة“ -القاهرة

+ صناعة الورق والتجليد: اشتهرت مصر منذ عهد الفراعنة بصناعة ورق البردي، وظلت تحتكر هذه الصناعة طوال عصر الولاة المسلمين. وكان معظم الصُّناع المشتغلين بصناعة ورق البردي من الأقباط. ومع مجيء الفاطميين إلى مصر، اهتم الولاة بالحركة العلمية، فجُمعت نوادر الكتب والمخطوطات لتُضمَّ إلى الخزانة الفاطمية للكتب لتصبح منافساً عملاقاً لمكتبات بغداد وقرطبة.

وقد ضمَّت المكتبات الخاصة بالأقباط، وبخاصة الأطباء منهم، الكثير من الكتب العلمية والمخطوطات النادرة، أو الكتب العلمية التي قاموا بتأليفها بتكليف من الخلفاء، أو تقرُّباً إليهم. كذلك امتلأت الكنائس والأديرة بنفائس الكتب والمصنفات الفنية والكتب المترجمة من القبطية واليونانية. وقد عُثر على بقايا كتب وقطع من البردي والرقوق محفوظة الآن في متاحف أوروبا وأمريكا والمتحف القبطي ودار البطريركية في مصر. ثم استبدل الأقباط ورق البردي بالرقوق (جلد الغزال). ومن أحدث الكتب المخطوطة على الرق: كتاب ”تكريز الكنائس الجدد“ بمكتبة دير السريان، ويرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر (سنة 1181م). أما عملية التجليد فكانت تشمل الجلدة الخارجية والبطانة والحرير. كما استعمل الصُّناع جلود العجول واستخدموا الحرير في التجليد. وقد عُثر على بعض الجلود التي ترجع إلى العصر الفاطمي في القرن العاشر وما بعده، وفيها يبدو تأثير الصناعة والفن القبطي ظاهراً.

+ صناعة الزجاج والبللور الصخري والخزف: بلغت هذه الصناعة أرقى درجات الفن على أيدي الأقباط في العصر الفاطمي. وقد اشتهرت بعض المدن بصناعة الزجاج ومن أهمها: الفسطاط (القاهرة)، الفيوم، الأشمونين، الشيخ عبادة (بالقرب من البهنسا، المنيا الآن)، والإسكندرية. وكانت أرقى المصنوعات الزجاجية هي الزجاج المذهب المُزيَّن بزخارف لها بريق معدني. أما عن صناعة البللور الصخري، فقد رأى الرحَّالة ”ناصري خسرو“ أثناء جولته بـ ”سوق القناديل“ بالفسطاط، معلِّمين مهرة ينحتون بللوراً غاية في الجمال. وقد تركت الرسوم والزخارف القبطية أثرها على الخزف ذي البريق المعدني الذي كان فخر صناعة الفخار في مصر الفاطمية.

 

 

 

 

جزء من طبق خزف صيني عليه رسم المسيح

ومن أشهر صانعي الخزف شخص اسمه سعد من سلالة الأقباط. وهناك قطعة من الخزف ذي البريق المعدني عليها رسم المسيح وحول رأسه هالة من النور. أما عن صناعة الفخار الذي كان يُصنع من الطين، فكانت صناعته واسعة الانتشار في بلاد الصعيد الأعلى، حيث كان يوجد أجود أنواع الطمي. ومنه كانت تُصنع الأزيار والقلل وأوعية الخل والنبيذ والسمن وجرار العسل والكثير مما يستعمله العامة في مصر.

+ وهناك صناعات أخرى راجت في مصر، مثل: صناعة السكر والعسل حيث توجد زراعة القصب. ولكن في عصر الحاكم بأمر الله تدهورت هذه الصناعة بسبب أمره بإراقة كميات ضخمة من العسل وكسر الجرار التي تحتويه، فقلَّ وجوده وارتفع ثمنه. وبانتهاء عصر الحاكم بأمر الله زاد الإقبال عليه مرة أخرى، ونفس الأمر ينطبق على صناعة الخمر من العنب.

+ النشاط التجاري للأقباط: كان التجَّار الأقباط في مصر على درجة كبيرة من المهارة في الأعمال التجارية. وقد زخرت القرى بالأسواق العامرة بما يسدُّ حاجة سكَّانها. واشتغل كبار التجار الأقباط بتجارة الغلال. ويذكر ”ناصري خسرو“ أن الخليفة المستنصر بالله أرسل إلى أحد التجار الأقباط أثناء إحدى المجاعات يطلب منه إمداد المخازن الحكومية بالغلال، بالنقد أو بالأَجَل كقرض، فردَّ عليه هذا التاجر: ”إن لديَّ من الغلة ما يمكنني إطعام أهل مصر بالخبز ست سنوات“. وهكذا انفرجت المجاعة بالمخزون لدى هذا التاجر القبطي.

وكان لكبار تجار مصر من الأقباط أعداداً من السفن التي تسير في النيل حاملة الحاصلات الزراعية والسلع والبضائع إلى البلاد شمالها وجنوبها. ويذكر ”ابن مَيْسر“ أن بدر الدين الجمالي عند قدومه إلى مصر عام 1073م، نزل دمياط وتنِّيس، واقترض من تجار تنِّيس، وكان معظمهم من الأقباط، أموالاً كان في حاجة إليها.

وضع الرهبان والأديرة في العصر الفاطمي الثاني:

كانت أديرة الرهبان منتشرة في أنحاء مصر والشام. نَعِمَ فيها رهبان تلك الأديرة بسياسة التسامح الديني لفترةٍ، باستثناء فترة الخليفة الحاكم بأمر الله. فعندما أقدم جوهر الصقلِّي على بناء مدينة القاهرة لتكون عاصمة للفاطميين، قام بتعمير دير الخندق شمال القاهرة، بدلاً من دير هدمه كان موضعه بالقرب من الجامع الأقمر، وكان يُعرَف بدير العظام. كما نقل رفات الموتى المسيحيين إلى دير الخندق (أرض الأنبا رويس).

+ ولما قدم الخليفة المعزّ لدين الله إلى مصر واستقرَّ بها، صرَّح للبطريرك أبرآم السرياني آنذاك بترميم الأديرة القديمة وبناء ما طلبه من الأديرة الجديدة في سائر أقاليم الدولة.

+ وعندما هبَّت العاصفة ضد الأقباط في خلافة الحاكم بأمر الله، وصل ذُراها إلى الأديرة والرهبان، فهدم الكثير من الأديرة، ولم يبقَ منها إلاَّ القليل.

+ ولكن الخلفاء اللاحقين غيَّروا هذه السياسة، في خلافة الظاهر والمستنصر بالله. على أنه أثناء الحروب بين قوات المستنصر بالله وبين القائد التركي نصر الدولة الذي شقَّ عليه عصا الطاعة، تعرَّضت الأديرة في الوجه البحري للسلب والنهب، وشُوِّهت زخارف ورسوم تلك الأديرة ومبانيها، وتعرَّض رهبانها للأذى والقتل والتشريد، مما أدَّى إلى هروب مَن نجا منهم إلى الأرياف فراراً من البطش والموت.

ومع انتشار المجاعة وازدياد الفتن واضطراب الأمن وعجز الخليفة المستنصر، اضطر إلى استدعاء القائد بدر الدين الجمالي (الأرمني الأصل) إلى مصر. وبمجيء هذا القائد، تحسنت الأوضاع كثيراً بالنسبة للأقباط.


(1) مختصر عن كتاب: ”تاريخ مصر من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة لساويرس ابن المقفَّع“، إعداد وتحقيق عبد العزيز جمال الدين، الجزء الثالث، المجلد الثاني، من صفحة 1014-1109.

 

(2) كلمة ”قبطي“ استخدمها الغُزاة العرب. وهي مُشتقة من الاسم المصري القديم: ”ها كا بتاح“ أي ”بيت روح الإله بتاح“، ومنها تسمَّت في اللغة اليونانية ”آيجيبتوس“، ومنها النطق العربي في الجزيرة العربية ”جِبْط“، فأطلقوها على أهل مصر، ثم تعارفوا على تسمية المصريين الذين حافظوا على إيمانهم المسيحي بهذا الإسم.

(3) نسبة إلى وثيقة الخليفة ”عمر بن الخطاب“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis