المسيح
-35-


إعداد: الراهب باسيليوس المقاري

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (3)

أولاً: المسيح كمعلِّم ونبي (2)

في هذه الشركة الفريدة والنموذجية بين الرب يسوع وبين الله الآب، كان الرب يسوع قبل قيامته من الموت يعيش مجيء ملكوت الله، وبالتالي كان متأكِّداً من مجيئه الثاني ليكون مرتبطاً بنا أشد الارتباط ببشارته للناس وهو على الأرض. وبهذا، فما هو مؤكَّد أنه من خلال موته وقيامته كليهما كان ملكوت الله وبشارته للناس هو الأساس المتين في تعليم المسيح.

+ ويقول القديس كيرلس الكبير بأنَّ المسيح استعلَن لنا في أقنومـه (شخصه) معنى رمـوز الشريعة القديمة، مُحوِّلاً هذه الرموز إلى الحقِّ(1).

+ فأنبياء وأتقياء العهد القديم لم يكونوا في أنفسهم هم ”الحق“، الذي هو المسيح، بل كانوا مجرَّد رموز للمسيح، لأنهم كانوا يُقدِّمون المسيح بالرموز. لقد كانوا يَرَوْنه في المستقبل البعيد برؤية غير واضحة معالمها، كمعلومات نالوها من الله، أو كرؤيا للكلمة الإلهي، غير واضحة المعالم، وغير مرئية لهم تفاصيلها بوضوح، بحيث كان من المستحيل وَصْفها بتفاصيلها.

+ لذلك، فلم يكن غير المسيح هو الذي يمكنه أن يُنير هذه الرموز والرؤى لتُرَى بوضوح في شخصه، كما قـال المسيح: «لـو كنتم تُصدِّقون موسى، لكنتم تُصدِّقونني، لأنـه هـو كـتب عني» (يو 5: 46).

+ يقول القديس كيرلس الكبير:

[المسيح كان مُعتَبَراً رسولاً وكاهناً أعظم (عب 3: 1)، وقد حرَّرنا من الشريعة غير الواضحة، بل وقد نَقَلَنا إلى اللغة الواضحة كما في تعليم الإنجيل](2).

+ المسيح أتى باعتباره ”الرسول“ أو كما أسماه الوحي: ”النبي“، لأنه وقد صار إنساناً فهو أيضاً الله ظهر في الجسد، لأنه ”وَضَعَ نفسه“ بأَخْذه شكل البشر لتوصيل نفسه لهم. وبهذا صار يمكنه أن يكون مُتَّصلاً بالبشر - وهو الله - فيستطيع أن يدخل في حوار مباشر معهم.

+ وكما قَشَّر يعقوب (في العهد القديم) قضبان اللوز الخضراء (تك 30: 37)، هكذا فعل المسيح إذ كشف المعاني المُختبئة في شريعة العهد القديم، إذ ”كشف الظلال التي في الناموس وأزال الغطاء من على كتابات الأنبياء، ليُظهِر "التفسير" من داخلها لتُنير ساطعة وزاخرة بالجمال الروحي“، كما يقول القديس كيرلس الكبير(3).

+ والمسيح يكون كمَن قشَّر الشريعة نازعاً عنها ظلال الناموس التي كانت تُغطِّيها، عابراً من السطح الذي في العهد القديم إلى العمق الذي في العهد الجديد.

+ فإنْ كان موسى لم يستطع أن يأخذ كل الشعب معه إلى جبل معرفة الله وجهاً لوجه، إلاَّ أنَّ المسيح استطاع أن يفعل هذا. فيقول القديس كيرلس الكبير بأنَّ كل الشعب لم يستطيعوا صعود جبل سيناء ”لأن ذلك كان مستحيلاً عليهم أن يقتربوا من الله وجهاً لوجه، أي لم يستطيعوا أن يقتربوا من الحق“. فالرموز كانت إشارة إلى محاولة للتداخُل بين الله والشعب الذين لم يستطيعوا رؤية الحق، بل الرموز والظلال فقط.

+ ولكن في العهد الجديد، حينما دخل الله في حوار مباشر مع البشر بالتجسُّد، مُزيلاً الرموز التي بين الله والبشر؛ فإذا بهم يجدون أنفسهم وقد صاروا وجهاً لوجه أمام الله. ”... الشريعة كانت تُسلِّط الظلال على جمال الحق“، ”والحق هو المسيح الذي من خلاله نحن ربحنا الدخول إلى حضرة الآب. فصرنا بالقُرْب من الآب، صاعدين بأنفسنا على الجبل، أي إلى معرفة الحق“(4). «لأن غاية الناموس (الشريعة) هي: المسيح» (رو 10: 4).

+ فالشريعة كانت تُشير إلى سرِّ المسيح، لكن المسيح لم يكن مكشوف الوجه فيها:

[الجبل تفسيره أنه هو سر المسيح، ولكنه كان أعلى من الفهم. هكذا موسى أتى بالشعب إلى الجبل، ولكنه لم يأخذه معه إلى حضرة الله. وكما قلتُ سابقاً إننا نلنا الكمال والسموَّ في الحكمة والمعرفة من خلال المسيح، وليس من خلال موسى. موسى كان هو ”الخادم“ أو ”المُربِّي“ أو الذي ”يُعِدُّ ويُجهِّز“؛ بينما الله والمسـيح بـاعتباره فـوق الكل، استُعلِن باعتباره مُعطي المعرفة الكاملة](5).

+ هذه المعرفة مُرتبطة بتغييرنا نحن من أجل الوصول إلى المجد، لأنـه ”لم يَعُدْ يوجد أحدٌ محروماً مـن السماع أو المعرفـة عـن مجد المُخلِّص“(6). لأن فيه (أي في المسيح) قد دخل الله إلى الشركة والعلاقة المباشرة معنا. الله هو ”النار التي تحرق خطايانا“(7).

كلام المسيح بعد صعوده، واختبار التأمُّل فيه:

إنَّ كلمة الله المتجسِّد حينما دخل في حوارٍ مباشر معنا، الآن لم يَعُد - بعد صعوده إلى السموات - منظـوراً. جسد المسيح وكلامـه البشريَّيْن أصبحا غير منظورَيْن الآن بالأعين البشرية، وغير مسموعَيْن بالآذان البشرية؛ بل صارت تعاليمه وأعماله هما الممثِّلان للاهوته في وسطنا.

ولكن هذين الكيانَيْن (الرؤية والسماع) ليسا منفصلَيْن عـن الله، وقـد أصبح على الإنسان المؤمن أن يكون في أُلفة وشركـة روحية في المسيح لكي يتعمَّق في كـلامه المسموع في الإنجيل وحياته المقروءة في كلمة الله، وعليه بالتأمُّل فيهما وبالاقتراب الوجداني منهما، أن يحسَّ بحياة المسيح ويتأمَّل في كـلامه وتحرُّكاتـه وتعبيراته وأعماله التي يُصوِّرها الإنجيل: «هوذا السيِّد الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له... كراعٍ يـرعى قطيعه. بذراعـه يجمـع الحملان، وفي حضنه يحملها» (إش 40: 11،10).

+ فالإنسان الروحي يستطيع أن يتأمَّل في كلمات الرب وفي أعماله، ليس فقط في محتواها الحرفي ومعانيها، بـل وأيضاً في مـوضوعها ومعناها بالنسبة لحياته وسلوكه. إنها خبرة التأمُّل - من خلال عمل الروح القدس - في شخص المسيح كشخصٍ إلهي.

+ فالروح القدس هو الذي ينقل إلينا المعاني المُخبَّأة في كلمات المسيح وحياته وأعماله واستعلاناته، كما يُسمِّيها آباء الكنيسة في سِفْر إشعياء: «وأُعطيك ذخائر الظلمة، وكنوز المخابئ» (إش 45: 3).

+ الروح القدس يوحِّدنا مع شخص المسيح السرِّي mystical، أي يُدخِلنا إلى أعماق الشخص الإلهي غير الظاهر للحواس ولا المُدرَك بالعقل المجرَّد من عمل الروح القدس، وهذا يُسمَّى أيضاً بالاتصال المباشر بالله عن طريق التأمُّل. وهذا هو السبب والمعنى لِمَا قاله المسيح: «الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة» (يو 6: 63)، وأيضاً ما قاله القديس بطرس: «يا ربُّ، إلى مَن نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك» (يو 6: 68). فالروح القدس هـو الـذي يُغلِّف ويُلازِم كـل كلمة وعمل مـن كلمات وأعمـال المسيح التي نقرأهـا في الإنجيل.

+ إنَّ كلام المسيح يُوحِّدنا معه من خلال روحه القدوس. الوسيط الحقيقي هو المسيح، الذي به نصير متَّحدين معه، إنْ كانت هذه الصلة حقيقية. ذلك من حيث إنه نزل إلينا وصار إنساناً لكي يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية. وحينئذ نصير متَّحدين مع الله من خلال شركة ونعمة الروح القدس.

+ المسيح هو ”الحق“ كشخص. وفي المسيح امتلأت الطبيعة البشرية التي اتَّخذها ولبسها بالحقِّ. وكل إنسان يؤمن بالمسيح سوف يمتلئ بهذه الحياة وبهذا الحق.

+ ومن حيث إنَّ المسيح هو الشخص الأسمى والذي منه تشعُّ كل قوة وحياة، لذلك فالمسيح هو الحق الفعَّال. هذا الحق كحياة - يصل من خلال المسيح - للبشر الآخرين، المدعوين أن ينموا فيه، ليصيروا في النهاية ”مثله“: «ولكن نعلم أنه (أي المسيح) إذا أُظهِرَ نكون مثله» (1يو 3: 2).

+ بل إنَّ منه تحلُّ وتفيض كل قوة وكل حياة. المسيح هو الحقُّ الفعَّال بمعنى أنَّ الله هو الذي يُعطي القوة للبشرية التي خلقها لكي تمتلئ منه بسبب المسيح الذي هو ”الله ظهر في الجسد“. وأيضاً بمعنى أنَّ هذه البشرية تُجاهد لأن تنمو في الحقِّ من خلال معونة الله الذي يستجيب لاحتياجات الطبيعة البشرية. وهذا يرجع إلى أنَّ أصل البشرية كامنٌ في الله.

+ هذه هي الحقيقة الحيَّة بأنَّ الحياة الأبدية صارت في العهد الجديد تصل إلينا من خلال المسيح، نحن الذين صرنا مدعوِّين لأن نحيا في المسيح ونُجاهد لنكون مثله (1يو 3: 2).

+ لقد ميَّز الله الجنس البشري بأنْ خلقه على حسب صورتـه (التي هي الكلمة الأزلي)، لكنه طبعاً جعـل الإنسان محـدوداً خارجـاً عـن اللامحدودية التي هي صفة الله فقط. والإنسان وهو يتقدَّم أيضاً في طريق الحق نحو التمثُّل بالمسيح الذي هو نموذجه الأصلي الذي خُلِقَ عليه، والذي يملك القوة ليقوده نحو الكمال؛ يملأه الله بحضوره بالروح القدس. وقد اهتمَّ القديس كيرلس الإسكندري جداً بهذه العملية التي تستمر في حياتنا حتى نصل إلى ما يريده المسيح:

[إنَّ القوة التي تُلازِم كل كلمة قالها المسيح، والتي يكون المسيح حاضراً فيها، هي الروح القدس. كلمة الله، هي النور، والروح القدس يشعُّ منه](8).

+ إنَّ الحق – الذي هو المسيح – هو القادر أن يُخلِّص البشر. فمن خلال تعليم المسيح يتَّصل شخص المسيح بأشخاص البشر من أجل تكميل خلاصهم، بشرط إيمانهم والعمل بتعليم المسيح.

+ وبهذا يكون كلام المسيح ضرورياً من أجل تحقيق معرفة شخص المسيح، باعتباره الله الذي صار جسداً، لأن شخص المسيح لا يمكن أن يعرفه الإنسان إلاَّ من خلال كلامه وأعماله بنعمة الروح القدس.

+ وكما رأينا من قبل في اقتباس القديس كيرلس الإسكندري، فإنَّ روح ابن الله المتجسِّد إنما يشعُّ ويُشرِق من خلال كلمات المسيح، والمسيح بكلماته يبسط وينشر ”إشراق - أي بهاء - الروح القدس“، حسب تعبير القديس كيرلس الإسكندري(9).

+ ويصف القديس كيرلس الإسكندري الروح القدس أنه كائنٌ في ذهن أو عقل المسيح، ”فباعتباره في عقل المسيح، فهو يُوصِّل للتلاميذ كل كلام المسيح“(10)، كما قال المسيح: «يأخذ كلامي ويقوله لكم» (يو 16: 14 - الترجمة العربية الجديدة).

+ ومن خلال النِّعَم التي تحلُّ علينا من روح المسيح، فإننا نصير أكثر فأكثر على صورة المسيح: «على صورة ابنه» (رو 8: 9 - الترجمة العربية الجديدة).

+ وحسب قول القديس كيرلس الإسكندري:

[بنوالنا صورة الكلمة فينا، أي الروح القدس واهب الحياة، الذي هو يسكن فينا، ننال مرة أخرى الصورة التي تجعلنا على صورة كلمة الله الحي، فنقوم من جديد إلى حالة عدم الفساد، ونتجدَّد مرة أخرى للحياة الأبدية](11).

الروح القدس والأسرار:

+ الروح القدس يُعطَى لنا بملء أكثر، وذلك من خلال جسد المسيح الذي قام من الموت. وحينئذ، ومن خلال الأسرار التي ينفخ فيها شخص المسيح عمل الروح الإلهي، تصير بملء أكثر من كونها مجرَّد كلمات.

+ إنَّ الكلمات ضرورية لشرح العمل الذي أتى المسيح من أجله. والمسيح يكون حاضراً في الحال حينما تُذكَر كلماته وأعماله، وذلك بالإيمان به، لأنها تنقل المؤمنين إلى نفس اللحظات التي ذُكِرَت فيها هذه الكلمات في الماضي وهو على الأرض والتي نتذكَّرها الآن بينما الأسرار الإلهية على المذبح. إنها تُعيد حضور المسيح في نفس الحالة والشكل واللحظة التي حدثت من قبل في علِّية صهيون.

+ إنَّ الكلمات التي فاه بها المسيح يوم خميس العهد، إنما تُعيد حضور وإشعاع شخصه على المؤمنين المجتمعين من نفس مصدر هذه الكلمات، أي المسيح وهو في وسط تلاميذه القدِّيسين في ذاك اليوم البعيد زمنياً عنَّا الآن، كما أنها تحمل شخصه المُبارك بوضوح في اجتماعه مع الرسل القدِّيسين تلاميذه في ذاك اليوم، بما تحمله من علاقات المحبة التي لا تتوقَّف ولا تنتهي طالما خرجت من فمه المُبارك هذه الوصية: «اصنعوا هذا لذِكْري» (مت 22: 19؛ وباقي الأناجيل).

في ذاك اليوم، والآن أيضاً في كل اجتماع إفخارستي، يُوصِّل المسيح وبـلا تـوقُّف حبَّه الأسمى، منتظراً من المؤمنين تجاوُب محبتهم له الذي لا يتوقَّف؛ وأيضاً بالمقابل الذي بلا توقُّف، من أشخاص المؤمنين المجتمعين حول الذبيحة اللادموية المقدَّسة، بينما من فم المسيح الطاهر تخرج كلمات الفداء.

+ المسيح يـوقِظ فينـا الإحساس بهـذه المسئولية، ليس فقط في مواجهة كلماته، بل وأيضاً تجاه شخصه المُبارك، باعتباره ابن الله المتجسِّد. وأيضاً باعتباره الله، يوصينا بما علينا أن نفعله من أجل أن نُحقِّق في أنفسنا كوننا البشر المخلوقين حسب صورة المسيح، الذي هو صورة الله، وذلـك من أجل أن نُظهِـرَ النموذج الحقيقي للإنسان البشري.

+ إنَّ كلمة الله يتكلَّم إلينا من خلال كل أعماله، ويدعونا أن نتجاوب معه، ويُصاحِب هذا حينما يتكلَّم إلينا بطريقة حميمية شخصية، من خلال كلامه لتلاميذه ليلة العشاء السرائري؛ لكي نتجاوب معه من خلال ضمائرنا. ففي القدَّاس الإلهي، يتكلَّم إلينا كلمة الله المتجسِّد من خلال كلامه الصريـح في الإنجيل، مؤكِّـداً على انتظـار استجابتنا له. وكلامه يتوجَّه إلى ضمائرنا بشكل مُركَّز منيراً إيَّاها في حال مواجهتنا للمواقف والأحداث الجديدة التي تعرض لنا في يومنا الحاضر أو في أيامنا المستقبلة.

+ إنَّ كلمة الله يأتي إلينا بصفة متواصلة مستمرة من خلال أعماله وبواسطة ضمائرنا؛ ولكنه بالأكثر يأتي إلينا بأوضح طريقة من خلال تعليمه في الإنجيل، الذي يُخاطبنا بـه باستمرار باعتباره كلمة الله المتجسِّد.

(يتبع)

(1) Cyril of Alexandria, Glaphyra. (PG 69:89).
(2) Ibid., PG 69:88.
(3) Ibid., PG 69:88.
(4) Ibid., PG 69:508.
(5) Ibid.
(6) Ibid., PG 69:508 AB.
(7) Ibid.
(8) يسـتخدم القديس كيرلـس الكلمـة اليونـانية: ????????، وتعني ”يشعُّ“ أو ”يُشرِق“، للتعبير عن عمل الروح القدس في كلام المسيح: Glaphyra, PG 69:497.
(9) Thesaurus, (PG 75:589C).
(10) Ibid.
(11) Ibid., PG 75:580.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis