المسيح
-15-


إعداد: الراهب باسيليوس المقاري

سر التجسُّد الإلهي (4)
بعض التوضيحات عن التجسُّد والخلاص

تحدَّثنا في المقال السابق (عدد مارس 2014، ص 16) عن بعض الأسئلة والتساؤلات حول تجسُّد المسيح. ونُكمل في هذا المقال بعض هذه الأسئلة.

افتراض نظري: إذا استخدم آدم

حرية إرادته بدون السقوط،

هل كان سيحدث التجسُّد؟

+ أي، هل كان ابن الله سيتجسَّد ولو لم يُخطئ آدم والبشرية؟

لقد تداوَل هذا السؤال بين بعض المفكِّرين واللاهوتيين الغربيين في الغرب، مثل الجدل بين مُعتنقي أفكار اللاهوتي الفيلسوف توما الأكويني (القرن الـ 13)، وبين بعض الفلاسفة اللاهوتيين في الكنيسة الكاثوليكية؛ وكلاهما يعتمد على منطق أرسطو (الفيلسوف اليوناني في القرن الرابع قبل الميلاد). وظهر هذا السؤال مرة أخرى في القرن السابع عشر الميلادي بين اللوثريين (أتباع مارتن لوثر) والكالفينيين (أتباع كالفن) وكلاهما من البروتستانت، وبعض اللاهوتيين الآخرين. وقد ردَّد هذا السؤال بعض اللاهوتيين الشرقيين الروس واليونانيين فيما بعد في القرن العشرين.

+ هذا السؤال نظري وخيالي بحت، يعتمد على حرف ”لو“، وهو حرف امتناع، أي أن السؤال ليس واقعياً إطلاقاً، كما أنه يدخل ويتداخل في عمق تدبير الله في حالةٍ لم تحدث إطلاقاً، وهي ”عدم سقوط آدم“. وبالتالي لا يمكن أن يكون له جواب يقيني مؤكَّد، كما أنه لم يَرِد في أيِّ بند من بنود الإيمان. والعقل البشري ليس كفؤاً بما فيه الكفاية لأن يخترق عقل الله حتى يمكن أن يدَّعي أحد: ماذا كان سيفعل الله فيما لو كان تاريخ البشرية مختلفاً في الأساس عمَّا هو عليه الآن؟

وقد رسم هؤلاء الفلاسفة واللاهوتيون الغربيون خطوات محدَّدة وتدبيرات عمَّا كان سيفعل الله في هذه الحالة. ولا نُريد أن نذكر بالتفصيل هذه الخطوات، لأنها بدون جدوى، فالماضي انتهى ولن يعود الزمن إلى الوراء.

+ ولكن المسيحية في الشرق لم يكن مُعلِّموها الأوائل (وهم كانوا فلاسفة ولاهوتيين بآنٍ واحد) يُفلسفون المسيحية، بل كانوا يعيشونها ويحيونها وينقلون اختباراتهم لمُعاصريهم وللأجيال من بعدهم، ما صار تراثاً عريضاً طويلاً لكل مؤمن على مدى الأجيال.

+ وسقوط الإنسان كان هو الدافع لله لتدبير التجسُّد الإلهي. أما المُحرِّك الجوهري لدى الله فقد كان هو محبته ورحمته للجنس البشري. وقانون الإيمان يُفسِّر هذا التدبير الإلهي بقوله: إنه كان ”من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسَّد“ (قانون إيمان نيقية).

وأما هدف تدبير التجسُّد وصيرورة ابن الله إنساناً، فقد كان هو أن يخلق الإنسان جديداً في شخص المسيح، فلا يعود يموت بل يحيا إلى الأبد. لذلك نقول بمنتهى البساطة: إن لم يكن آدم قد أخطأ، وبالتالي لم يدخل إليه الموت، ما كان المسيح قد تجسَّد ليموت ويقوم من بين الأموات مُقيماً البشرية التي تجسَّدها إلى قيامة حياة أبدية. أما ماذا كان سيفعل الله؟ فلا نعرف!

بشرية المسيح وسماتها:

الرب يسوع المسيح صار إنساناً ليس جزئياً ولا مؤقتاً. فالطبيعة البشرية، بكل ما فيها، تجسَّدها ابن الله الكلمة. ”فنحن كلنا كُنَّا فيه“، حسب تعبير القديس أثناسيوس الرسولي وباقي آباء الكنيسة. فكل ما اكتسبه المسيح في جسده ربحناه نحن البشر مجاناً؛ وأهم ما فيه: القيامة من بين الأموات، والحياة الأبدية لنكون دائماً في حضرة الله الآب، وكذلك خلاصنا من الخطية ومن الضعف البشري.

هل كان المسيح إنساناً كاملاً؟

في وثيقة قديمة لدستور إيمان منسوب للقديس إبيفانيوس أسقف قبرص (عام 374م) يُقرِّر أنَّ اللوغوس (كلمة الله) صار إنساناً كاملاً: جسداً ونفساً وروحاً (أي نفساً عاقلة)، وحَمَل كل ما يحمله أي إنسان؛ ولكن ذلك كان بدون الخطية، لأن الخطية دخيلة على الطبيعة البشرية ولم تكن في خلقتها الأولى، لأن الخطية هي عدم البرِّ، والطبيعة البشرية هي واقع حي مخلوق على صورة الله.

+ والتأكيد على أنَّ الرب يسوع كان إنساناً حقّاً، هذا كان جزءاً من إطار الاعتراف الإيماني المسيحي منذ أقدم كتابات الإنجيل، وهي الرسالة الأولى من القديس يوحنا الرسول، التي يُوصي فيها بمقياس الإيمان الذي تسلَّم للمؤمنين بالمسيح منذ أن كان تقليداً شفوياً: «كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد يكون من الله» (1يو 4: 2- الترجمة العربية الجديدة). وكان هذا النص ضد طائفة ”الدوكيتية“ (من كلمة dokew أي ”يُشَبَّه له“ أو ”يتخيَّل“) الذين يُعلِّمون بأن جسد المسيح كان جسداً خيالياً أي تشبَّه للناس أنه جسد وهو خيال.

+ وواضح أنَّ بشرية المسيح هي ما يُعبَّر عنه في الإنجيل بأنه ”جسد“ (sarx باليونانية)، وهي الحالة البشرية لأيِّ إنسان، كما قيل: «والكلمة صار جسداً» (يو 1: 14)، أي ”صار إنساناً“.

+ ويتضمن هذا الوصف ”جسداً“ أي ”إنساناً“، أي أنَّ كلمة الله لم يسكن في جسدٍ بشري لإنسانٍ آخر فيصير هناك ”إنسانان“ مختلفان باسم واحد، بل هو اسم شخص واحد ”يسوع المسيح“، أي شخص مُفرد، هو الله الكلمة الذي صار جسداً أي إنساناً، الذي تجسَّد من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم.

+ و”يسوع“ كان يُدعى من الآخرين، وهو كان يدعو نفسه: بأنه ”إنسان“ بشري (باليونانية anthropos - يو 8: 40). وقد دعاه بيلاطس الوالي الروماني الذي كان يفحص ويتأكَّد من شخصيته الحقيقية ما سمح بموته، فقال عنه: «هوذا الإنسان» (يو 19: 5)، ”إنسان“ بكل معنى كلمة ”إنسان“: ٍ[واحد من اثنين: لاهوت قدوس بغير فساد مساوٍ للآب، وناسوت طاهر بغير مُباضعة مساوٍ لنا كالتدبير] (التسبحة السنوية - ثيئوطوكية الأحد).

هل كانت بشرية المسيح ”عادية“

أم ”فوق العادة“؟

+ بشرية عادية: يجب أن نذكر أولاً بأنَّ بشرية يسوع كانت عادية تماماً. الإنجيل صوَّر يسوع كإنسان عادي بتعبيرات بشرية واضحة لا تُخطئها عين: فهو يُلبِّي دعوة لحضور احتفال بالزواج، ويزور أصدقاءه، يأكل ويشرب، يتعب فينام، وسائر العناصر العادية التي للطبيعة البشرية، كان الإنجيل يُصوِّرها على أنها كانت في المسيح: الجسد، النفس، الإرادة والمشيئة، الروح (مت 16: 26،12؛ 26: 38؛ لو 23: 46). أسفار الإنجيل تتكلَّم عن المسيح باعتباره ”شخصاً“ حقيقياً يحمل كل ما يتطلبه الوجود البشري، ليس شَبَحَاً أو خيالاً، بل جسدٌ حقيقي، ليس روحاً ولا ملاكاً، بل جسدٌ بشري حقيقي ونفسٌ بشرية حقيقية؛ مختبراً كل ما نختبره نحن ككائنات بشرية في المستوى العادي للكائن البشري، فيما عدا الخطية (لأنها دخيلة على البشرية وليست من أصل خلقة الإنسان).

ولكن، بشرية المسيح

كانت بشرية رائعة متفوِّقة:

إنها كانت، في نفس الوقت، حياة بشرية رائعة تماماً، ذلك لأنها لم تسقط في العصيان. فكل القصص التي سردها الإنجيليون، شهود حياته، كانت تصف يسوع ”هادئاً وديعاً متواضع القلب“ باعتباره كائناً بشرياً كله بلا خطية، والإنجيل لم يُقدِّم عملياً عرضاً تاريخياً صامتاً لشكل الإنسان الأول، أبوينا الأوَّلَيْن، قبل السقوط في عصيان الوصية الأولى، أي قبل تلوُّثهما بالخطية وعصيان الوصية. إلاَّ أنَّ هذه الروعة الفريدة في نوعها لم تَلْغِ، بل قوَّت وكثَّفت صورة بشرية المسيح باعتبارها هي صورة واقعية لِمَا ستؤول إليه الطبيعة البشرية كلها في الأبدية!

+ بل إنَّ أروع ما في هذه الروعة هي أنه «تعلَّم الطاعة مِمَّا تألَّم به» (عب 5: 8)، هذه الخبرة التي أخفق آدم فيها، فسقط!

الكمال الذي لم يسقط:

هناك تضادة في التجسُّد، فكلمة الله الأزلي القدوس اتَّخذ طبيعة بشرية ليس فقط هزيلة مجروحة، بل وأيضاً طبيعة بشرية تُعاني من أكبر عدو لها أَلا وهو الموت بسبب خطايا البشر، مع أنه هو «لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر» (1بط 2: 22). لقد اشترك كلمة الله في حالة الطبيعة البشرية الخائرة الغامضة التي ورثت نتائج الخطية، أي الموت، مع أنه لم يعرف خطية قط.

لقد قَبِلَ الرب كل ما هو مُشتَرَك في طبيعة البشر (الضعف، الجوع، الألم والتألُّم بسبب نتائج خطايا الآخرين، ما انتهى به إلى الموت) ”الذي صار الميراث المشترك لكل إنسان بشري عادي“، الموت الذي كان نتيجة السقوط، ما خلا الخطية وحدها(1).

معنى أن المسيح ”شابهنا في كل شيء“:

إنَّ معنى مشابهته لنا في كل شيء ليس بالضرورة أن يُشابه كل فرد في تاريخ حياته وفي سفرياته وفي أنشطته... إلخ: فمعظم الناس يتزوَّجون لكن المسيح لم يتزوَّج، وهذا لا يعني أنه لم يُشابهنا. لكنه شابهنا في صفات البشرية العامة التي يشترك فيها كل البشر، بخلاف الخصوصيات التي ينفرد بها الناس في مختلف ظروفهم وبيئاتهم وأمزجتهم.

+ فالمسيح وُلد من امرأة مثل كل الناس، وتمَّ تسجيل اسمه في السِّجِلاَّت المدنية، وتحديد نَسَبه للآباء المعروفين لدى تاريخ شعبه. فالقديس لوقا سرد سلسلة أنسابه من داود (لو 3: 23-38)، بينما القديس متى الرسول سرد نَسَب المسيح من إبراهيم أبي الآباء (مت 1: 1-17). وكِلا السلسلتين للأنساب كانتا طريقة البشيرَيْن متى ولوقا في القول بأنهما يُبشِّران بتجسُّد ابن الله الذي صار إنساناً بحقٍّ!

+ هناك نقطتان لابد من إيفائهما:

يسوع كان يحمل جسداً بشرياً؛ كما كان يُجسِّد مشاعر بشرية على أعلى مستوى وهذه هي ”النَّفْس“.

يقول القديس غريغوريوس النيصي:

[من المؤكَّد أنَّ جسد الرب كان يتحدَّد بأجزائه وأعضائه المختلفة، ولكن النفس كانت حُرَّة طليقة تحتضن الخليقة كلها عن طريق حركة الفكر. فهي أي النفس تقدر أن تصعد إلى السموات، وتضع قدمها في أعماق الأرض، وتجوب كل أبعاد العالم](2).

والمسيح لم يكن ينقصه أيّاً من هذه الأبعاد.

حقيقية جسد كلمة الله

هناك نقطة هامة نراها في ضوء مجد كلمة الله وهي: أنه اختبر الألم الجسدي. لقد أحسَّ بالإرهاق، وكمَثَلٍ لهذا حينما أخفقت قواه الجسدية فصار غير قادر على أن يحمل صليبه، فوقع تحته، ثم أنه جُرِحَ وتألَّم حينما كانوا يدقُّون المسامير في يديه ورجليه ليتثبَّت في خشبة الصليب.

+ إنَّ أعظم برهان قاطع على حقيقية بشرية المسيح أنه مات: وليس هناك أيُّ شكٍّ، سواء لعينَيِّ الإيمان أو للتحقُّق التاريخي الشخصي، في أنه قد مات. إن الحقائق الدامغة في أنه تألَّم ومات، كانت هي التي جعلت شخصيته، باعتباره ”المسيَّا“ أو ”المسيح“ الذي كان ينتظره اليهود، جعلت شخصيته كمسيَّا تتأكَّد جداً لتوضِّح ذلك للذين كانوا ينخدعون بانتظار مضاد، مثل أن يكون المسيَّا قائداً حربياً يُخلِّص اليهود من الحُكْم الروماني (لو 24: 21).

فالشكُّ الذي كان لابد أن يُستوضَح هو أنَّ الابن الأزلي تألَّم: «مع كونه ابناً تعلَّم الطاعة مِمَّا تألَّم به» (عب 5: 8). لقد كان مُناسباً أنَّ الله «يُكمِّل رئيس خلاصهم بالآلام» (عب 2: 10)، ولماذا؟ لأنه على أساس طريق الآلام «يقدر أن يُعين المُجرَّبين» (عب 2: 18).

إنَّ طبيعة المسيح تؤدِّي في النهاية إلى إعلان برِّ الله. والتعليم بتألُّم الرب المتجسِّد هو قاصرٌ على المسيحية ولا نجده في اليهودية. هناك مَيْل في الهندوسية والبوذية إلى فكرة الألم؛ أما موت إله متجسِّد فهي بالعكس فكرة مستحيلة، بل مُثيرة للاشمئزاز لدى هاتين الطائفتين.

قيامة الجسد، لم تكن شَبَحَاً:

حتى في حالة جسد المسيح القائم من الموت، فقد أوضح المسيح نفسه لتلاميذه حينما رآهم خائفين ومندهشين أنه ليس روحاً: «وفيما هم يتكلَّمون بهذا (عن موته) وقف يسوع في وسطهم، وقال لهم: سلامٌ لكم! فجزعوا وخافوا، وظنُّوا أنهم نظروا روحاً. فقال لهم: ما بالكم مُضطربين، ولماذا تخطر أفكارٌ في قلوبكم؟ انظروا يديَّ ورجليَّ: إني أنا هو. جسُّوني وانظروا، فإنَّ الروح ليس له لحم وعظام كما تَرَوْنَ لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مُصدِّقين من الفرح، ومُتعجِّبون، قال لهم: أعندكم ههنا طعام؟ فناولوه جُزءاً من سمك مشوي، وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدَّامهم» (لو 24: 36-43).

وحينما رأى التلاميذُ المسيحَ ماشياً على البحيرة مُتَّجهاً نحوهم: «اضطربوا قائلين: إنه خيالٌ. ومن الخوف صرخوا! فللوقت كلَّمهم يسوع قائلاً: تشجَّعوا! أنا هو. لا تخافوا» (مت 14: 27،26). وكـانت كلمـة ”أنـا هـو“ تُمثِّل رنَّـة صوت مُميَّزة لديهم، على أنه شخص مُجسَّم.

الكلمة المُحيي

كانت له مشاعر بشرية:

أي أنَّ ذلك يعني أنَّ يسوع، مثلنا جميعاً، اختبر كل أصناف الانفعالات البشرية، كل ما يختبره الأشخاص البشريون الأحياء. ومِن أمثلة هذه الخبرات الانفعالية ما تسجَّل في الأناجيل: إنجيل مرقس يُسجِّل ”حنان“ المسيح (1: 41)، أنه ”يغضب حزيناً“ (3: 5)، ”أنين“ المسيح (7: 34)، ”شفقة“ المسيح (8: 2)، ”تعجُّب“ المسيح (6: 6)، تعبير عن ”خيبة أمل“ (8: 17؛ 9: 19). والرب يسوع يظهر في إنجيل لوقا كمُعبِّر عن ”تهليل بالروح“ (10: 21)، ”قيمة المحبة“ (7: 36-50: المرأة ساكبة الطِّيب).

+ لقد اتَّخذ المسيح لنفسه كل آلام وعواطف وانفعالات الإنسان طالما كانت بريئة طاهرة؛ ذلك لأنه اتَّخذ لنفسه كل الإنسان وكل ما يتعلَّق بالإنسان (فيما عدا الخطية)، بما فيها: الجوع والعطش والتعب والألم والدموع، الانقباض من الخطأ، الخوف الطبيعي، الجَزَع من الموت، الألم المُبَرِّح المؤدِّي للدموع والعرق.

ونُكمل في المقال القادم، إن شاء الرب، بعض هذه الانفعالات وشرحها.

(يتبع)

(1) Ignatius, Trallians 9, ANF, Vol. I, p. 70; Irenaeus, Ag. Her., V,XIV, ANF, Vol. I, pp. 541-42.
(2) Gregory of Nyssa, An Address on Religious Instruction, 9.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis