-45-


«عظيم هو سر التقوى»
(1تي 3: 16)

يقول معلِّمنا بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: «وبالإجماع عظيمٌ هو سرُّ التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرَّر في الروح، تراءى لملائكة، كُرِزَ به بين الأُمم، أُومِن به في العالم، رُفِعَ في المجد» (1تي 3: 16). هذه الآية، في بساطتها، تحوي أعماقاً لا حدود لها، لأنها تتضمن أسراراً لا حصر لها، ولأنها تشمل كل مراحل حياة المسيح، مِن تجسُّده إلى صعوده، كما أنها تُعرِّفنا بسرِّ التقوى.
فبدايةً، فإنَّ هذا هو ما أجمعت عليه الكنيسة، أنه «عظيم هو سر التقوى». والتقوى هي مخافة الله، وقد رأت الكنيسة كلها، واعترف بولس الرسول وأعلن ذلك بالإجماع، بأنَّ التقوى سرٌّ عظيم. فما هو هذا السرُّ العظيم؟

لقد كشف لنا الرسول أنَّ مدخل هذا السر العظيم هو: «الله ظهر في الجسد». فظهور الله في الجسد هو سرُّ التقوى، فهو الذي عرَّفنا كيف نتَّقي الله وكيف نعبده بالروح والحق. وهو الذي عرَّفنا ما هو «السر المكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال، لكنه الآن قد أُظهر لقديسيه» (كو 1: 26). وهو الذي قال عنه بولس الرسول في رسالته إلى أفسس: «لي أنا أصغر جميع القديسين، أُعطِيَتْ هذه النعمة، أن أُبشِّر بين الأُمم بغِنَى المسيح الذي لا يُستَقصَى، وأُنير الجميع في ما هو شركة السرِّ المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح» (أف 3: 9،8). فالله بتجسُّده أعاد خلقتنا من جديد: «إذاً إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة» (2كو 5: 17).

ويُعلِّق القديس يوحنا ذهبي الفم على ذلك قائلاً:

[دعا الرب التدبير الإلهي من أجلنا سرّاً، وجيِّدٌ أن يُسمَّى هكذا، طالما أنه لم يُظهَر للجميع، بل إنه لم يُكشَف أيضاً للملائكة، فكيف يمكن أن يكون الأمر هكذا، وهو قد عُرِفَ للكنيسة (أف 3: 10)؟ لذلك يقول (الرسول): «وبدون جدل (أي بالإجماع) عظيمٌ هو هذا السر». فبالتأكيد هو عظيمٌ، لأن الله صار إنساناً، والإنسان صار إلهاً. ورأينا إنساناً بلا خطية! إنساناً استقبلناه، وكُرِزَ به في العالم! ومعنا رأته الملائكة. هذا هو بالحقيقة سرٌّ (عظيم)! دعنا لا نُفشِي هذا السرَّ؛ بل دعنا لا نعرضه بخساً في كل مكان، ولكن ليتنا نعيش كما يحقُّ بهذا السرِّ. فأولئك الذين قد استؤمنوا على سرٍّ لابد أنهم رجال عِظام. فإننا نحسبها علامةً على الامتياز والحظوة إذا استأمننا مَلِكٌ على سرٍّ، بينما الله قد أودع سرَّه لنا، ومع ذلك فنحن لسنا شاكرين للمُحسن إلينا، كما لو كُنَّا لم نقبل أعظم العطايا. إنَّ عدم إحساسنا بمثل هذا التفضُّل والإحسان ينبغي أن يُصيبنا بالهلع](1).

فلنبدأ، إذن، بتعمُّقنا في معنى السرِّ: فالسرُّ من حيث تعريفه هو الحق المُعلَن من الله باعتباره يفوق أي قوة طبيعية من المنطق أن يفهمه أو يُدركه:

1. فهو حقٌّ، الذي بواسطته نستبعد كل شيء من أن يكون سرّاً إن كان مُنافياً للعقل أو متناقضاً مع المنطق.

2. وبما أنه مُعلَن من الله، فهو يعني بالنسبة لوجوده أنه كائن كما قد أُعلن عنه. أما بالنسبة لطبيعته ذاتها، أو لصفاتٍ أخرى يمكن معرفتها عنه، فإن استعلانها أو كشفها لا يُفترض البوح به أو كشفه إلاَّ لحدٍّ مُعيَّن.

3. فهو يتجاوز كل القدرات الطبيعية للمنطق لاكتشاف أغواره.

4. وهو شيء لا يقدر المنطق الطبيعي، حتى بعد استعلانه، أن يُدركه إدراكاً تاماً، وأقول: أن يُدركه، أي أن يفهمه فهماً كاملاً. كما عبَّر عن ذلك القديس بولس الرسول بقوله: «فإننا ننظر الآن في مرآة، في لُغز، لكن حينئذ وجهاً لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأعرف كما عُرِفْتُ» (1كو 13: 12).

5. وبما أنَّ العقيدة الإيمانية في أصل تأسيسها، كان القصد منها أن تُعطي انطباعاً بالرهبة والتوقير والمخافة في عقول البشر، لذلك كان كل ما يتعلَّق بها هو بعيد عن الأنظار، وليس في إمكاننا الوصول إليه. حتى أنَّ الله حينما حلَّ بمجده على جبل حوريب، طلب من موسى أن يُقيم حدوداً حول الجبل لا يتعدَّاها أحد ولا يقترب منها إنسان أو بهيمة: «وحدث في اليوم الثالث لمَّا كان الصباح أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل وصوت بوقٍ شديد جداً. فارتعد كل الشعب الذي في المحلة. وأخرج موسى الشعب من المحلَّة لملاقاة الله. فوقفوا أسفل الجبل. وكان جبل سيناء كله يُدخِّن من أجل أن الربَّ نزل عليه بالنار... ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد. وقالوا لموسى: تكلَّم أنت معنا فنسمع، ولا يتكلَّم معنا الله لئلا نموت» (خر 19: 16-18؛ 20: 19،18). كما أنَّ موسى عند نزوله من الجبل صار جلد وجهه يلمع بسبب كلامه مع الله. فلما نظر هارون وجميع بني إسرائيل ذلك خافوا أن يقتربوا إليه، حتى أنَّ موسى اضطر أن يجعل على وجهه برقعاً، عند كلامه معهم (انظر خر 34: 29-33). وهكذا قدس الأقداس، لم يكن مسموحاً لأحد أن يدخله أو حتى يُحدِّق فيه؛ بل إنَّ رئيس الكهنة نفسه لم يكن مُتاحاً له أن يدخل سوى مرة واحدة في السنة.

6. فالسرُّ أمرٌ مخفيٌّ على البشر، ليس فقط في الحاضر؛ بل حتى لو كان سرّاً واستُعلِن الآن، فإنه سرٌّ، ويُدعى باللغة الإنجليزية: mystery؛ وهو من الكلمة اليونانية: must»rion. والمعنى الكتابي لهذه الكلمة هو أنه أمرٌ يفوق حدود الفهم الطبيعي، ويمكن إدراكه بالاستعلان الإلهي في الوقت المُعيَّن من الله وبالطريقة التي يُحدِّدها الله ولأولئك الذين استناروا بالروح القدس. لذلك يقول الكتاب: «سر الله لخائفيه، وعهده لتعليمهم» (مز 25: 14)؛ «لأن السيد الرب لا يصنع أمراً إلاَّ وهو يُعلِن سرَّه لعبيده الأنبياء» (عا 3: 7)، «قد أُعطي لكم أن تعرفوا سرَّ ملكوت الله، وأما الذين هم من خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء، لكي يُبصروا مُبصرين ولا ينظروا، ويسمعوا سامعين ولا يفهموا، لئلا يرجعوا فتُغفَر لهم خطاياهم» (مر 4: 12،11).

استعلان السرِّ الإلهي:

تكلَّم الله في بدء الأزمنة، فخلق بكلمته السموات والأرض وكل ما فيها، وكان «روح الله يرفُّ على وجه المياه». وعند خلقته للإنسان قال: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تك 1: 26) مستخدماً صيغة الجمع، فخلق الإنسان على صورته ومثاله. وتكلَّم الله مع آدم في الفردوس بعد أن خلق له مُعيناً نظيره، وبعد أن أعطاه وصيةً واحدةً لكي يحفظها، فتكون له رباط الحب الذي يربط الإنسان بخالقه إذا أطاعه بملء حريته. ولكن آدم لم يحفظ الوصية بغواية الحيَّة، فدخل الموت إلى العالم بحسد إبليس، مما استلزم تجسُّد الله الكلمة لكي يعتق الإنسان من حُكْم الموت ويُعيد له صورته الأولى التي خلقه بها. وفي هذا يقول القديس إيرينيئوس:

[فإنه لهذه الغاية قد صار الكلمة إنساناً، وصار ابن الله ابناً للإنسان لكي يتَّحد الإنسان بالكلمة، فينال التبنِّي ويصير ابناً لله. فإننا لم نكن نستطيع بوسيلة أخرى أن نحصل على عدم الفساد والخلود، إلاَّ باتحادنا بالذي هو عدم الفساد والخلود. وكيف كان يمكن أن نتَّحد بالذي هو عدم الفساد والخلود، لو لم يكن هو نفسه أولاً قد صار على حالنا، حتى يُبتلع الفاسد من عدم الفساد، ويُبتلع المائت من عدم الموت، فننال التبنِّي؟!](2)

ويشرح ذلك أيضاً بأكثر إسهاب القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه عن ”تجسُّد الكلمة“، قائلاً:

[وإذ رأى ”الكلمة“ أنَّ فساد البشرية لا يمكن أن يبطل إلاَّ بالموت كشرط لازم، وأنه مستحيل أن يتحمَّل الكلمة الموت لأنه غير مائت، ولأنه ابن الآب؛ لهذا أخذ لنفسه جسداً قابلاً للموت، حتى باتحاده بالكلمة، الذي هو فوق الكل، يكون جديراً لأن يموت نيابة عن الكل، وحتى يبقى في عدم فساد بسبب الكلمة الذي أتى ليحلَّ فيه وحتى يتحرَّر الجميع من الفساد، فيما بعد، بنعمة القيامة من بين الأموات. وإذ قدَّم للموت ذلك الجسد، الذي أخذه لنفسه، كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حُكْم الموت فوراً عن جميع مَن ناب عنهم، إذ قدَّم عِوَضاً عنهم جسداً مماثلاً لأجسادهم](3).

+ لذلك قال بولس الرسول: «وبالإجماع عظيمٌ هو سرُّ التقوى: الله ظهر في الجسد». فإنه عظيمٌ حقّاً هو سرُّ التقوى، لأنه سرُّ مَن لا بداية له ولا نهاية، فهو سرُّ الله الذي «أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شِبْه الناس. وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8،7). فهو ليس سرّاً لكونه ما زال محتجباً ومخفياً، بل هو سرٌّ عظيم وسامٍ جداً، لأنه نبع من حضن الآب، ومن عُمق أعماق حكمته وتدبيره لأجل خلاص الإنسان.

+ وهو سرٌّ عظيم من حيث هدفه وغايته: لكونه جَمَعَ بين الله والإنسان، الإنسان الذي سقط، والله الذي أعاده ثانيةً إلى رتبته، ناقلاً إيَّاه من عمق البؤس والشقاء إلى أسمى درجات العزَّة والمجد.

+ وهو عظيمٌ حقّاً، لأن فيه كملت وتحقَّقت مواعيد الله للآباء ولكل جنس البشر حسب قول بولس الرسول: «وأقول: إنَّ يسوع المسيح قد صار خادم الختان، من أجل صِدْق الله، حتى يُثبِّت مواعيد الآباء. وأمَّا الأمم فمجَّدوا الله من أجل الرحمة، كما هو مكتوب: من أجل ذلك سأحمدك في الأُمم وأُرتِّل لاسمك» (رو 15: 9،8).

+ وهو سرٌّ عظيمٌ أيضاً لأنه ما زال فعَّالاً، وسيبقى هكذا إلى أبد الدهور: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر، آمين» (مت 28: 20). فنحن نكتشف كل يوم ما يحويه من أسرار ونِعَم: «ومِن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16). لأنه يُغيِّر كلَّ الذين عرفوه وآمنوا به: «ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مـرآةٍ، نتغيَّر إلى تـلك الصورة عينها، مـن مجدٍ إلى مجدٍ، كما من الرب الروح» (2كو 3: 18). لذلك يُطالبنا بولس الرسول أن نُسلِّم أنفسنا لعمل هذا السرِّ فينا وقوة فاعليته في حياتنا بقوله: «فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تُقدِّموا أجسادكم ذبيحةً حيَّةً مُقدَّسةً مَرْضيَّةً عند الله، عبادتكم العقلية. ولا تُشاكلوا هذا الدهر، بل تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المَرْضية الكاملة» (رو 12: 2،1).

+ وكلُّ مَن آمن بهذا السرِّ وقَبِلَه في حياته أُعطِيَ أن يتكلَّم «بحكمةٍ ليست من هذا الدهر، ولا من عظماء هذا الدهر، الذين يُبْطَلون. بل نتكلَّم بحكمة الله في سرٍّ: الحكمة المكتومة، التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا» (1كو 2: 7،6).

+ وهو أيضاً سرٌّ عظيم لأننا به عرفنا سرَّ الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس. الآب يشهد لابنه قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ» (مت 3: 17)؛ والروح القدس يحلُّ مثل حمامة على الابـن: «وإذا السموات قد انفتحت، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامةٍ وآتياً عليه» (مت 3: 16). وكما استُعلن الثالوث الأقدس في معمودية المسيح، هكذا وضع لنا المسيح أن نعتمد باسم الآب والابن والروح القدس، لكي نولَد من الماء والروح، ونصير خليقة جديدة، ونُدعَى أولاد الله: «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. الذين وُلِدوا ليس من دمٍ، ولا مـن مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله» (يو 1: 13،12).

لذلك يقول أيضاً يوحنا الرسول: «فإنَّ الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحدٌ. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح، والماء، والدم. والثلاثة هم في الواحد» (1يو 5: 8،7).

+ وهو أيضاً سرٌّ عظيم، إذا قورن بكل الأسرار الأخرى. فالخَلْق سرٌّ عظيم لأنَّ به خلق الله كل المخلوقات من العدم، وصنع الإنسانَ - سيد المخلوقات - من تراب الأرض وجعله على صورته ومثاله. ولكن ماذا يكون هذا كله إذا قورن بسرِّ الله الذي صار إنساناً؟ «عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد». فالمسيح هو صورة الله وبهاء مجده ورسم جوهره، لذلك صار إنساناً لأنه لا أحد سواه يقدر أن يُعيد لنا صورته. وهو ابن الله، ولا أحد إلاَّ ابن الله الوحيد يمكنه أن يجعلنا أبناء الله.

فـ «الكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقّاً» (يو 1: 14)، فقد أخذ كل ما يخص الطبيعة البشرية، من نفس وجسد واتحد بهما، وشابهنا في كل شيء، لكي يُعطينا الذي له وهو روحه القدوس، كما نقول في التسبحة: ”هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له... هو أخذ جسدنا وأعطانا روحه القدوس، وجعلنا واحداً معه من قِبَل صلاحه“ (ثيئوتوكية الجمعة).

فالابن الوحيد صار مثلنا، إنساناً كاملاً بنفسٍ وجسدٍ لكي يعتق جسدنا من الفساد والموت، ويُخلِّص النفس من الخطية والكبرياء والمكر. وفي هذا يقول كيرلس الكبير:

[أُريد أن أعرف ما هي الغاية من مجيئه إلينا، وكيف تأنَّس ولماذا؟ أليس من الواضح تماماً ولا يخفى على أحد أنَّ الابن الوحيد صار مثلنا، أي إنساناً كاملاً، لكي يعتق جسدنا الأرضي من الفساد الذي اندس فيه؟ وكما أن الجسد لما صار جسداً للكلمة الذي يُحيي الكل، تغلَّب على سلطان الموت والفساد؛ هكذا تماماً أعتقد أن النفس لما صارت نفساً للذي لا يعرف أن يخطأ، صارت في وضع ثابت ومستقر في جميع الخبرات، وصارت أقوى بـلا قياس من الخطية التي كانت تتسلَّط عليها فيما مضى. فالمسيح أول إنسان «لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر» (1بط 2: 22)، وقد جُعل مثل أصلٍ وباكورة للذين يتغيَّرون عن شكلهم إلى جدَّة الحياة بالروح، وصار منذ الآن يُوصِّل إلى سائر جنس البشرية - بالمشاركة وبالنعمة - عدم فساد جسده وثبات واستقرار لاهوته](4).

كما أنه في تجسُّده «في ما هو قد تألَّم مُجرَّباً يقدر أن يُعين المجرَّبين» (عب 2: 18). وفي هذا يقول القديس غريغوريوس النزينزي:

[فلنصِرْ مثل المسيح لأن المسيح أيضاً صار مثلنا. لنَصِرْ آلهة من أجله، لأنه هو أيضاً من أجلنا صار إنساناً. لقد أخذ منَّا الأردأ لكي يُعطينا الأفضل. لقد افتقر لكي يُغنينا نحن بفقره (2كو 8: 9). لقد أخذ شكل العبد لكي نستعيد نحن الحرية. لقد نزل لكي نرتفع نحن. لقد صار مُجرَّباً لكي ننتصر نحن (في التجارب). أُهين لكي يُمجِّدنا. مات لكي يُخلِّصنا. صعد لكي يجذبنا إليه نحن المنطرحين في سقطة الخطية. ليت كل واحد يُقدِّم له كل شيء، ويصير مُثمراً في كل شيء، للذي بذل نفسه فديةً عنا من أجل مصالحتنا!](5)

كما أنه بقيامته وصعوده إلى السموات وجلوسه عن يمين الآب، قد أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويَّات بهذا الجسد الذي أخذه منا. وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:

[لقد ظهر الآن كإنسان أمام الآب لأجلنا، نحن الذين كنَّا مطروحين من أمام وجهه بسبب المعصية الأولى، ليوقفنا من جديد أمام وجه الآب؛ وجلس كابن ليجعلنا نحن أيضاً نُدعَى بسببه أبناءً وأولاداً لله. لذلك فالقديس بولس الذي يؤكِّد أنَّ المسيح هو المتكلِّم فيه، يُعلِّمنا أنَّ ما حدث للرب خاصةً، صار مِلْكاً مشتركاً للطبيعة البشرية، فيقول إنَّ الله «أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويَّات» (أف 2: 6)](6).

(يتبع)

(1) NPNF, 1st Series, Vol. 13.
(2) A. H., III,19; ANF, 1st Ser., p. 448,449.
(3) ”تجسُّد الكلمة“: 9: 1.
(4) PG 75,1213.
(5) SC 247,78.
(6) On John 14: 2-3.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis