الزيارة التاريخية
لقداسة البابا تواضروس الثاني
لدير القديس أنبا مقار بوادي النطرون
يومي الاثنين والثلاثاء 10-11 مارس 2014م

قام قداسة البابا تواضروس الثاني، يومي الاثنين والثلاثاء 10-11 مارس 2014، بزيارة دير القديس أنبا مقار بوادي النطرون. وقد اصطحب قداسة البابا معه لفيفٌ من الآباء الأجلاَّء رؤساء الأديرة وبعض أعضاء المجمع المقدس منهم: الأنبا صرابامون رئيس دير الأنبا بيشوي، الأنبا متَّاؤس رئيس دير السيدة العذراء - السريان، الأنبا إيسيذوروس رئيس دير السيدة العذراء - البراموس، الأنبا يسطس رئيس دير القديس الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر، الأنبا كيرلس رئيس دير مار مينا بمريوط، الأنبا مينا رئيس دير مار جرجس بالخطاطبة، الأنبا إبيفانيوس رئيس دير القديس أنبا مقار، الأنبا إشعياء أسقف طهطا وجهينه، الأنبا بيسنتي أسقف حلوان والمعصرة، الأنبا مارتيروس أسقف عام شرق السكة الحديد، الأنبا دوماديوس أسقف مدينة 6 أكتوبر وأوسيم، الأنبا صموئيـل أسقف طموه، الأنبا مقار أسقف الشرقية والعاشر مـن رمضان، الأنبا زوسيما أسقف أطفيح والصف، الأنبا يوحنا أسقف شمال الجيزة. كما حضر صباح الثلاثاء نيافة الأنبا دانيال أسقف ورئيس دير القديس أنبا بولا.
وفور وصول قداسته إلى الدير في تمام الساعة الخامسة والنصف بعد ظهر يوم الاثنين 10 مارس استقبله بالصلوات والألحان آباء الدير وعلى رأسهم نيافة الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس الدير، مُتوجِّهين إلى داخل كنيسة القديس أنبا مقار الأثرية حيث قام قداسته بأداء صلاة الشكر. ثم ألقى كلمة شكر وبركة على الرهبان.

وقد قام قداسته بعد ذلك بزيارة كنائس الدير الأثرية وقبة الميرون المقدس التاريخية التي طالما ذَكَرَ التاريخ الكنسي قيام الآباء بطاركة الكنيسة القبطية بطبخ الميرون المقدس فيها. وقد تفقَّد قداسته مطبعة الدير، حيث تُطبع كتابات المتنيح الأب الطوباوي القمص متى المسكين، وكذلك أبحاث وكتابات آباء الدير، ومجلة مرقس الشهرية. وقد تحادث مع عمال المطبعة، وكان يتوقَّف أمام كل آلة من آلات الطباعة والتطبيق والقص وخياطة الملازم والتدبيس ويسأل العامل الذي يقوم بتشغيلها. وقد فرح به العمال والتقطوا مع قداسته صوراً تذكارية. وقد قدَّم لقداسته الراهب المسئول عن المطبعة باسيليوس المقاري هدية تذكارية بمناسبة الزيارة التاريخية للدير وللمطبعة عبارة عـن صورتين للمسيح والعذراء والقديس أنبا مقار الكبير مـن النوع المسمَّى 3 Dimension صناعة الصين، وكذلك مجموعة مجلَّدات مجلة مرقس عن السنوات الخمس الأخيرة.

ثم عقد قداسته اجتماعاً مع الآباء رهبان الدير في قاعة الاجتماعات، وألقى عليهم كلمة روحية عن مبادئ الرهبنة الخمسة، ثم استمع إلى أسئلتهم. ثم قدَّم نيافة الأنبا إبيفانيوس هدية الدير لقداسته بمناسبة زيارته المباركة وهي: مجموعة تفاسير آباء الكنيسة على أسفار الكتاب المقدس بعهدَيه بما فيها الأسفار القانونية الثانية (29 مجلداً) باللغة الإنجليزية، نُشرت في إحدى الجامعات بالخارج؛ كما قدَّم نيافته لقداسة البابا بعض الهدايا التذكارية الأخرى. وبعد ذلك توجَّه قداسة البابا والآباء الأساقفة المرافقين له إلى مائدة الأغابي في القاعة المخصَّصة لذلك، حيث تناولوا أكلة الأغابي مع رهبان الدير.

وفي فجر اليوم التالي الثلاثاء 11 مارس 2014، اشترك مع آباء الدير في خدمة صلاة نصف الليل التي تبدأ الساعة الرابعة بعد منتصف الليل، وبعدها تسبحة يوم الثلاثاء حيث اشترك مع الرهبان في أداء الهوسات وإبصالية وثيئوتوكية الثلاثاء وبعض الألحان الأخرى بطريقة ألحان الصوم. وكم كانت فرحة الآباء الرهبان بمُشاركة قداسة البابا معهم هذه التسبحات والصلوات لأول مرة في التاريخ الحديث كما كان يفعل باباوات الكنيسة القبطية في القرون الأولى من عصورها القديمة.

ثم قام قداسته بزيارة باقي قطاعات العمل بأرض الدير خارج منطقة قلالي الرهبان من مزارع وحظائر تربية المواشي وغيرها، حيث يعمل الرهبان عملهم اليومي (العمل اليومي للراهب جزء من أعمال الرهبنة والنسك حسب ترتيب آباء الرهبنة الأوائل في القرن الرابع) في الإشراف على العمال العاملين في هذه القطاعات، حيث كان يُرافقه نيافة الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس الدير وكثير من آباء الدير.

وفي الساعة الحادية عشرة قبل الظهر أقام قداسة البابا خدمة القداس الإلهي، حيث قام بالاشتراك معه الآباء الأساقفة برسامة ستة رهبان لرتبة القسوسية المقدسة، هم الرهبان: الراهب برسوم، الراهب بفنوتيوس، الراهب أورانيوس، الراهب موسى، الراهب أباسخيرون، الراهب دوماديوس.

ومما هو جدير بالذكر أن قداسة البابا نبَّه قبل إجراء طقس الرسامة إلى خطأ شائع هو القول بكلمة ”ترقية الراهب“ إلى رتبة الكهنوت، مشيراً إلى أنها ليست ”ترقية“ بل هي ”خدمة“ لمجمع الدير (وأشار إلى ما قاله في عظة القداس بأنَّ الكهنوت هو خدمة أساسها التواضع ونقاوة القلب ما تُسميه الصلوات الكنسية: ”بهاءً للإكليروس“)، ومما يُذكر أنه بحسب تعبير صلوات الرسامة أنَّ رسامة الراهب قسّاً هي ”انتقال من رتبة الشموسية إلى رتبة القسوسية“. ولا توجد في طقوس صلوات الرسامات في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كلمة ”ترقية“ في صلوات أيٍّ من درجات رتبة الكهنوت المقدس. وكانت هذه اللفتة التعليمية الكنسية من قداسة البابا توجيهاً تعليمياً مناسباً لهذه المناسبة المباركة.

وبعد انتهاء صلوات القداس الإلهي توجَّه قداسة البابا مع الآباء الرهبان إلى مائدة الأغابي لتناول أكلة الأغابي المعتاد إقامتها بعد كل قداس لمجمع الدير. وهذه هي المرة الثانية لتناول قداسة البابا مع الآباء الرهبان لقمة الأغابي في هذه الزيارة المباركة.

ثم عَقَدَ قداسة البابا اجتماعاً مع عمال الدير حيث ألقى عليهم كلمة روحية مُبسَّطة وتحاور معهم، ثم قدَّم لهم هدايا مناسبة.

وبعد ذلك انصرف قداسة البابا تواضروس الثاني مع باقي الأساقفة المرافقين من الدير مودَّعين بمثل ما قوبلوا به من حفاوة وترحيب من آباء ورهبان الدير. وقد رجَوا قداسته أن يُكرِّر هذه الزيارة كل فترة دورية حسبما تسمح به ظروف قداسته.

+ + +

كلمة قداسة البابا تواضروس الثاني
لرهبان دير القديس أنبا مقار بوادي النطرون
يوم الاثنين 10/3/2014م

خماسية حياة الراهب
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

نقرأ بنعمة المسيح جزءاً من إنجيل معلِّمنا لوقا البشير، الأصحاح الثاني، أعداد 25-32: «وكان رجلٌ في أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل كان بارّاً تقيّاً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه. وكان قد أُوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. فأتى بالروح إلى الهيكل. وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه، ليصنعا له حسب عادة الناموس، أخذه على ذراعيه وبارَك الله وقال: الآن تُطلِق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك، الذي أعددته قُدَّام وجه جميع الشعوب نورَ إعلانٍ للأُمم، ومجداً لشعبك إسرائيل»، والمجد لله دائماً.

أنا سعيد، يا آبائي، بالحقيقة أن آخذ بركة الدير وبركة الرهبان في دير القديس العظيم أبو مقار الكبير، ونيافة الأنبا إبيفانيوس رئيس الدير، ومعنا الآباء الأحبَّاء. وأنا أعلم تماماً - بعد أن صلينا معاً صلاة الشكر - أنَّ الحياة الرهبانية هي العمق الروحي للشيوخ الذين في الدير، ومحبتكم لربنا، واختباركم الروحي. وإن كان في الوقت الماضي كان فيه شوية عكارة، لكن نفرح كثيراً أن كل أديرتنا القبطية تعيش حياة النهضة، والفرح الروحي والرهباني يتمثَّل في جهادنا الروحي في حياتنا كلها.

الصورة الخماسية في الكتاب المقدس:

من الملاحظات القوية في الكتاب المقدس الاهتمام بالرقم 5. رقم 5 في معناه مثل قبضة اليد ومعناه القوة. وكما نعرف أنَّ الذين كتبوا الأسفار في العهد الجديد كانوا يهوداً، وكان الرقم 5 عندهم له قيمة كبيرة، ترجع بالأساس إلى أسفار موسى الخمسة، حتى القديس متى الرسول حينما قدَّم بشارته قدَّمها في هذه الصورة الخماسية، وربنا يسوع المسيح كان يُخاطب اليهود كثيراً بهذا الشكل. فعندما ذَكَرَ نبوَّة إشعياء النبي: «هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبـي الذي سُرَّت به نفسي» (مت 12: 18)، وضع هذه الصفات الخمس: لا يُخاصم، لا يصيح، لا يسمع أحد في الشوارع صوته، قصبة مرضوضة لا يَقصِف، وفتيلة مُدخِّنة لا يُطفئ؛ وعلى اسمه يكون رجاء الأُمم. هذا مَثَل من الأمثلة البسيطة. وحتى أننا في الكنيسة حينما نُخاطب ربنا يسوع المسيح في أوشية الإنجيل، نُخاطبه ونؤكِّد على علاقتنا بالمسيح، هكذا: ”لأنك أنت هو حياتنا كلِّنا، وخلاصنا كلِّنا، ورجاؤنا كلِّنا، وشفاؤنا كلِّنا، وقيامتنا كلِّنا“.

فالصورة الخماسية هي تُمثِّل - إنْ جاز التعبير - خريطة لحياتنا. أتريد أن تعرف علاقتك بالمسيح، فمِن خلال هذه الخمس طلبات، فهي تُصوِّر لك ما هو المسيح بالنسبة لك! أتريد أن تعرف كيف تكون حبيب المسيح، فوضع لك هذه الخمس صفات! وقيسوا على هذا الكثير. فمثلاً في نهاية رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس، يقول لهم: «أخيراً يا إخوتي افرحوا، اِكْمَلُوا، تعزَّوْا. اهتموا اهتماماً واحداً. عيشوا بالسلام، وإله المحبة والسلام سيكون معكم» (2كو 13: 12،11). فالصورة الخماسية مغروسة في أسفار الكتاب المقدس كلها، ومغروسة أيضاً في حياتنا الكنسية. وطبعاً في حياتنا اليومية نستخدم أصابع اليد الخمسة، وهي مختلفة بعضها عن البعض، لكنها تُكمِّل بعضها البعض.

الصورة الخماسية في التسبحة:

نحن - معشر الرهبان - آباؤنا وضعوا لنا أيضاً قانوناً خماسياً نُكرِّره في حياتنا اليومية وفي تسبحتنا اليومية، ونكرره مرات ومرات. وعندما ننتقل من هوس إلى هوس، يقول الأب الكبير الذي يقود التسبحة: ”آمين الليلويا، كيرياليسون. كيرياليسون، كيرياليسون“. وهذه العبارة نُكرِّرها في كل مرة ننتقل من هوس إلى هوس، مثلما نُكرِّر هذا القول في إنجيل لوقا – الأصحاح الثاني: «الآن تُطلِق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام». وأيضاً نقوله في التسبحة اليومية، وفي دورة أوشية الإنجيل ونحن ندور حول المذبح، ونقوله أيضاً في صلاة الغروب، وهذا تكرار له هدف.

ولكن نحن كرهبان يوجد قانون أساسي يوضع أمامنا، ونقوله كل يوم في التسبحة، ونُكرِّره مرات ومرات لئلا تفلت منَّا حياتنا: ”آمين الليلويا، كيرياليسون. كيرياليسون، كيرياليسون“. ونبتدئ من القمة ونصل إلى القاعدة: ”آمين الليلويا، كيرياليسون. كيرياليسون، كيرياليسون“.

تعالوا نتوقَّف قليلاً أمام هذه الخمسة ونعرف معناها في حياتنا اليومية.

”كيرياليسون“ الأولى هي نداء التوبة:

”توِّبني يارب“، فقاعدة حياتنا هي قاعدة التوبة، هي التي ننطلق منها، وهذه هي عملنا كل يوم. والتوبة ليس فقط توبة كل يوم، بل هي توبة كل دقيقة في حياة الإنسان. لأن هذا الأمر هو أمر المصير، فما هي المنفعة في أن أعيش الحياة كلها ويكون سلوكي الخارجي جيد، ولكن أحياناً تغيب عنه النقاوة، وبالتالي لا تكون سماء، على رأي القديس بولس القائل: «حتى بعدما كرزتُ للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً» (1كو 9: 27). تصوَّر! وتصوَّر معي العذارى الذين كانوا خمس وخمس، وهؤلاء العذارى معهن مصابيح وأولئك معهن مصابيح أيضاً. وهؤلاء الخمس العذارى معهن زيتاً في مصابيحهن وانتظرن العريس وسهرن؛ وأولئك العذارى قُلن: حينما يأتي نُحضِر الزيت، لماذا أنتن متسرعات؟ وأضاعوا أوقاتهن سُدًى، وكانت النتيجة أنهن أتينَ متأخِّرات، وقرعن الباب قائلات: «ربنا ربنا افتح لنا». ربنا لا يسمح أنَّ أحداً فيكم يسمع هذا الصوت: «اذهبوا، لا أعرفكم». ولذلك، يا إخوتي، في كل يوم نحن نقول: ”آمين الليلويا، كيرياليسون. كيرياليسون، كيرياليسون“، وهو نداء يتكرَّر مرات ومرات من أجل توبتك، من أجل نقاوة قلبك. وتُكرِّره مرات ومرات لئلا تنسى، لئلا تمر عليك أيام وأنت لا تأخذ بالك، لئلا يكون قد تسرَّب إلى قلبك أي شيء يجعل القلب غير نقي، غير صافٍ: فكرة، علاقة، خاطر، حرب، أي شيء في الداخل، وبالتالي، فالأمر محتاج منَّا انتباهاً شديداً جداً.

لقد خرجنا من العالم وتركناه من أجل توبتنا أساساً. ويمكنك أن تتوب وأنت في العالم، وهذا ممكن طبعاً؛ ولكننا بحثنا عن عمق التوبة، أتينا إلى البرية، وجئنا لكي نعيش، لكي ننقِّي القلب تماماً، وتصير رحلة حياتنا بحسب ما يقودنا الله، بحسب ما يُعطينا الله من عمر ومن سنين. هي فرصة لكيما يُنقِّي الإنسان قلبه.

انظر إلى السامرية، وهي امرأة كانت في الخطية، وتقابلت مع المسيح، وتدرَّجت في معرفتها لشخص المسيح قليلاً قليلاً، إلى أن وصلت إلى القمة: «ألعل هذا هو المسيح؟». «توِّبني يا رب»، ”ساعدني لأن أُقدِّم لك توبة“، ”ساعدني يا رب لكي يكون قلبي نقيّاً“. عيناي ترى، وأُذناي تسمع، وقلبي يحس، وأعيش وسط إخوتي، وممكن الدير يُكلِّفني بمسئولية، وممكن يحاربني عدو الخير: مرة في أفكاري، ومرة في جسدي، ومرة في نفسي، وفي عقلي.

هل أنت متنبِّه؟ هل أنت تتذكَّر الوعد الذي قاله القديس بولس في رسالته إلى أهل أفسس (5: 15): «انظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء، مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة». نحن كرهبان أتينا هنا لكي نفتدي الوقت، أي نجعل أوقات أعمارنا بقيمة وقت الفداء، جئنا إلى البرية لكي نعيش هذه الحياة، لكيما نفتدي الوقت، أي نجعل أوقات عمرنا سليمة، ولها قيمة. لا تَدَعْ، يا أخي الحبيب، حروباً صغيرة تشغلك أو تتعبك أو تخدعك أو تصرف نظرك عن طريقك الذي خرجتَ من أجله أساساً. وكما أُكرِّر في كل مرة أتقابل فيها مع الآباء الرهبان، أقول: نحن، أيها الآباء، خرجنا بمسرتنا، لم يُجبرنا أحد أن نعيش في البرية. تركنا حياتنا وأعمالنا وأشغالنا وفلوسنا... إلخ، لكي نعيش في البرية. فهل بعد هذا كله، تسمح لنفسك أن تأتي عليك حرب تشغلك وتتعبك؟

أول ”كيرياليسون“ هي دعوة للتوبة ونقاوة القلب، لأنه مكتوب: «طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يُعاينون الله» (مت 5: 8).

”كيرياليسون“ الثانية: القلب الرحيم:

ننتقل إلى العتبة الثانية ”كيرياليسون“ أيضاً. ”كيرياليسون“ الثانية: هي دعوة لامتلاك القلب الرحيم التي لها علاقة بالتوبة. كما نعرف كلنا أنَّ الخطية تجعل القلب قاسياً، يكون قاسياً على إخوته، نحن تركنا الدائرة الضيِّقة للأسرة، حيث كان في إمكان كل واحد فينا أن يُكوِّن أسرة طيبة من خمسة أو ستة أفراد، أسرة جميلة وتُمجِّد الله؛ لكننا اخترنا أن نعيش في دائرة الأسرة الكبيرة للبشرية كلها، كل البشرية.

فكيف أعيش في دائرة البشرية الكبيرة هذه؟ أن أكون مقتنياً القلب الرحيم المليء بالرحمة. أحياناً يكون قلب الإنسان قاسياً، يكون حُكْمه على إخوته أو على الذين حوله قاسياً. كلنا يتذكَّر قصة القديس أنبا مقار حين أتاه الآباء يشتكون له ويقولون: إن هناك راهباً معنا أخطأ، لأنه ينام في الكنيسة، فماذا نعمل معه؟ هل نوبِّخه؟ أم نُعنِّفه أمام الجميع؟ أم نطرده؟ أو نُعطيه قانون تأديب؟ فردَّ عليهم ردّاً لطيفاً جداً: ”أحضروا له وسادة ليسند عليها رأسه“! بالرغم من أننا نعيش في حياتنا، ومن المفترض أن البريَّة وعلاقتنا مع المسيح تُعطينا هذا القلب الرحيم، إلاَّ أننا أحياناً يكون قلبنا قاسياً. هذه القسوة، يا إخوتي، التي تجعل الإنسان لا يطيع، يفقد عمود الرهبنة في حياته، وهو الطاعة. أنا أعتبر أنَّ الله سوف يقيس حياتنا على قياس الطاعة التي عشناها. كم عشتَ الطاعة؟ وكيف طبَّقتها؟ الطاعة القلبية، وليس الطاعة الشكلية! فيوجد إنسان يطيع خارجياً أي يظهر من الخارج أنه يعيش الطاعة حقّاً، ولكنه لا يعرف ”قطع الهوى“، يعيش بفكره. أصعب شيء في حياتنا الرهبانية هو الراهب الذي يسير بهواه الشخصي، فهذه أكبر خطية تحرمه من السماء، تحرمه أن يقتني نفسه، وتُعكِّر على إخوته الذين حوله، وتمنع عنه السلام الذي يمكن أن يوجد في قلبه.

”كيرياليسون“ الثانية، هي دعوة لامتلاك القلب الرحيم الذي يطيع. لقد خرجنا لكي نعيش في البريَّة، ولكي نطيع الأب الروحي في الدير، ولكي أكون تحت مظلَّة الأُبوَّة الروحية، ولكي أُجاهد كل يوم من أجل قطع ذاتي، قطع أهوائي الداخلية. وسوف أتجاوز ذلك وأقول: قطع وجودي؛ لأنني مشغول بالسماء فقط، ولا شيء آخر يشغلني.

إذن، ”كيرياليسون“ الثانية، تُذكِّرنا بما يجب أن تكون عليه بعدما تُبتَ. فالعتبة الأولى هي التوبة؛ و”كيرياليسون“ الثانية هي قلبك المعجون بالرحمة، وتكون مستعدّاً أن تسمع: «هوذا الاستماع أفضل من (تقديم) الذبيحة» (1صم 15: 22). تقديم الذبيحة هو الوقوف لكي أُصلِّي. ولكن هناك ما هو أفضل: طاعتي، والطاعة تُشكِّل إكليل حياتك، الطاعة تُشكِّل جواز سَفَرَك ووجودك في السماء ونصيبك السماوي. أنتم آباء وتعرفون أمثلة كثيرة وقصصاً كثيرة عن الطاعة في الحياة الرهبانية، وما جاء في بستان الرهبان، وفي كتب الآباء: كيف عظَّموا الطاعة، والطاعة لا تظهر إلاَّ في القلب الرحيم.

انتبه هنا: هذا شمع أبيض، وهذا طين أسود. إذا أشرقت الشمس على الشمع الأبيض، فستُليِّنه، ويصبح طيِّعاً في يدك، هذا هو القلب النقي، هذا هو القلب التائب؛ ولكن إذا أشرقت الشمس على الطين، فستُنشِّفه، تُحجِّره، تجعله قلباً قاسياً. فرق كبير! الشمس تُمثِّل محبة الله، وإذا تمعَّن كل واحد منَّا في النِّعَم التي في حياته، ستجد أنها نِعَمٌ كثيرة جداً: يكفي أننا - باسم الصليب - عائشون في دير جميل مثل هذا الدير، يكفي أننا محسوبون على دير مقدَّس مُبارَك عاش فيه آباء لهم كل الكرامة، ونحن أحفادهم وأبناء أبنائهم، ونُكمِّل مسيرتهم، كما عاشوها هم نعيشها نحن أيضاً.

إذن: ”آمين الليلويا، كيرياليسون. كيرياليسون، كيرياليسون“. أول ”كيرياليسون“: التوبة؛ ”كيرياليسون“ الثانية: الرحمة، رحمة القلب الرحيم الذي يعيش ملء الطاعة.

”كيرياليسون“ الثالثة: الإحساس بالآخرين:

أما ”كيرياليسون“ الثالثة: هي ”علِّمني، يـا رب، أن أصنع رحمة. علِّمني، يـا رب، أن أشعر بالآخرين“. يوجد إنسان يشعر بالآخر، يحس بأخيه الذي بجواره، ويقول عن أخيه البعيد عنه: ”علِّمني، يا رب أن أصنع رحمة. وأنا راهب في الدير أُريد أن أُمارس الرحمة. كيف يمكنني أن أصنعها؟“. إذا تذكَّرتَ كيف أنَّ ربنا يسوع المسيح كلَّمنا عن أساسيات العبادة في إنجيل القديس متى - الأصحاح السادس. فهو يذكر الصدقة، ثم الصلاة، ثم بعد ذلك الصوم. وهو قد ذَكَرَ الصدقة في البداية كتعبير عن كيفية الإحساس بالآخر. الصدقة إحساس بالآخر؛ والصلاة إحساس بالله؛ والصوم إحساس بضعفي.

”علِّمني، يا رب، أن أصنع صدقة. علِّمني أن أصنع رحمة، مع كل إنسان: سواء كانت كلمة، أو نظرة، أو ابتسامة، أو نصيحة، أو خدمة، أو تضحية، أو بذل، أو عمل، حتى إذا كانت هذه الرحمة هي فلْسَي الأرملة“. أن تصنع رحمة مع إخوتك الذين تعيش وسطهم. وهذا، يا إخوتي، خروج من ذواتنا. لأنني عندما أصنع الرحمة، أخرج من ذاتي، أخرج من قوقعة قلبي من أجل الآخر. يقول لنا الكتاب: «تُحِبُّ الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك؛ وقريبك مثل نفسك» (لو 10: 27). ما معنى أنك تحب نفسك؟ أن تكون راضياً عن نفسك، راضياً رضاءً صحيّاً وليس رضاءً مَرَضياً؛ ليس رضاء الكبرياء، بل رضاءً صحياً. على قدر ما تُعطيني، يا رب، من صحة، فأنا سأعمل، ولكن: «تحب قريبك كنفسك». هل تتنبَّه للمحبة التي لا تسقط أبداً؟ أنا أتخيَّل أنَّ الأب الراهب الذي يعيش في البرية هو في كل سنة ينمو خطوة في قامة المحبة التي يُمارسها، التي يُمارسها فعلاً كل يوم. وأين يُمارسها إلاَّ مع إخوته!

هناك فضيلة جميلة هي اتساع القلب بالحب للكل. قلبك يتسع ويشمل كل إخوتك. لا أقصد إخوتك في الدير فقط، بل إخوتك الرهبان كلهم الذين في كل الأديرة، وإخوتك الذين يعيشون حياة نقية للمسيح، وإخوتك الذين يُجاهدون في حياتهم اليومية. تحبهم في كل وقت، قلبك متسع لعمل الرحمة. احذروا، يا إخوتي، من حروب الذات التي تُضيِّع منَّا التواضع أو الاتضاع الذي يحرس رهبانيتنا. أنت راهب، بمعنى أنك ترهب وجه الله؛ ولكن الذي يحرس رهبانيتك وإكليلك هو اتضاعك. واتضاعك يظهر في صورة جليَّة عندما تحب إخوتك، وتبذل ذاتك من أجلهم، وعندما تصنع رحمة مع كل أحد.

”كيرياليسون“ الثالثة، ليست مجرد لحن قصير، بل لها تعليم آخر هو الإحساس بالآخرين.

العتبة الرابعة: ”الليلويا“ أي الفرح، فرح التهليل:

رقم 4 نصل إلى ”الليلويا“. ومعناها كما نعرفه جميعاً هو: الفرح، فرح التهليل. إذا أنت طبَّقتَ هذه الخطوات الثلاث - التي ذكرناها سابقاً - فإنك ستصل إلى ما نُسمِّيه ”إنسان الألليلويا“، أو الذي يُسمِّيه القديس بولس عندما يُخاطب تلميذه تيموثاوس: «أمَّا أنت يا إنسان الله» (1تي 6: 11). أي أننا نكون قد دخلنا في هذه الجنسية الجميلة، الجنسية الإلهية - إنْ جاز التعبير - تصير ”إنسان الله“ الفَرِح، هذا هو ”إنسان الليلويا“. كنيستنا هي كنيسة الـ ”الليلويا“، كنيسة الفرح. فتصير إنساناً مُفرحاً، تعيش الوصية على قدم المساواة، التي تقول: ”صلوا كل حين“ (لو 18: 1)، وأيضاً الوصية التي تقول: «افرحوا في الرب كلّ حين» (في 4: 4). تصير حياتك تشعُّ بالفرح، يصير وجهك فَرِحاً. فأنت تجاهد كل يوم، وتفتح إنجيلك كل يوم، وتقابل مسيحك كل يوم: في صلواتك، وفي تسبيحك. كل هذا ينعكس عليك، تكون إنساناً فَرِحاً، ويقولون عنك: ”هذا الإنسان تظهر النعمة على وجهه“؛ صاحب برية، وجبل، ورمال... إلخ؛ وفي نفس الوقت، يبدو على وجهه الفرح. تصير فَرِحاً، ومُفرِحاً، وتفرِّح الآخرين.

القديس أنطونيوس عندما قابله مجموعة من الرهبان، كان الجميع يسألونه إلاَّ واحداً. فلما سأله القديس أنطونيوس، لماذا لم يسأله؟ أجابه: ”يكفيني النظر إلى وجهك“! وجهك يُفرِّحني، وجهك يُشبعني، وجهك يُعزِّيني، وجهك يملأ كياني، الليلويا. و”الليلويا“ هذه معناها أنك تُمارس كل مفردات حياتك الرهبانية بفرح: تُصلِّي بفرح، تأكل مع إخوتك بفرح في المائدة، تُسبِّح بفرح، عندما تقابل أحداً تقابله وأنت فرحان، حينما تجلس مع إخوتك تجلس وأنت فرحان، كلامك وحروف كلامك ينطق بالفرح. ”الليلويا“ كما نعرف جميعاً كلمة تكرَّرت كثيراً في العهد القديم، خاصةً في سفر المزامير. لكن في العهد الجديد كانت في الأصحاحات الأخيرة من سفر الرؤيا، الأصحاح 19، وتكرَّرت 4 مرات تُمثِّل جهات المسكونة الأربع، أي يقصد بها الله أنه سيجمع من جهات الأرض الأربع الذين عليهم سِمَة ”الليلويا“. هل مجاناً تأتي لنا هذه السِّمَة؟ بل تأتي قبلها توبة، طاعة، رحمة، اتضاع، وخطوات أخرى. فكيف أصل إلى هذه الـ ”الليلويا“؟ الفرح، البهجة العميقة التي ليست من الظاهر، وأنت تؤدِّي عملاً داخل الدير، أو تُكلَّف بعملٍ وأنت في فرح، أو وأنت تتعامل مع إخوتك في قمة الفرح، وتنقل إليهم هذا الفرح.

هناك سؤال لطيف: هل المسيح في العهد الجديد كله كان فَرِحاً أم مُقطَّباً أم ماذا؟ كان المسيح فَرِحاً! وما هو الدليل الكتابي على هذا؟ قال أحد المُفسِّرين: إنَّ الكتاب المقدس اعتبر أنَّ الفرح الذي كان على وجه المسيح كان هو الأمر الطبيعي؛ أما الاستثناء فقد ذكره الإنجيل في وقت إقامة لعازر حينما قال الإنجيل: «بكى يسوع» (يو 11: 35). هذا كان استثناءً، كان تعبيراً لم يحدث من قبل. فالخط العام كان خطّاً مُفرحاً، وعلى وجهه كانت تبدو سمات الفرحة، وتظهر الـ ”الليلويا“. ولكن في موقف معيَّن سجَّله إنجيل يوحنا، الأصحاح 11: «بكى يسوع».

هل أنت مُفرِح للآخرين؟ يقولون إن الناس نوعان، ولا أعرف إنْ كانوا نوعين أو أكثر: أُناس يقولون عنهم trouble maker، بمعنى أنهم ”مثيرون للمشاكل“؛ وآخرون يقولون عنهم peace maker، أي أنهم ”صانعو سلام“. ونحن الذين نعيش حياتنا الجميلة هذه نكون peace maker، نصنع سلام بفرح. احذر أن يُحاربك عدو الخير تحت أي مُسمَّى، ويسرق منك هذا الفرح، أو يسرق منك هذا السلام. هناك ارتباط شديد بين الاثنين، كما يقول بولس الرسول: «أما ثمر الروح فهو: محبة فرح سلام» (غل 5: 22)، أو كما تقول تسبحة الملائكة: «... وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرَّة» (لو 2: 14). فهناك ارتباط قوي بين السلام والفرح.

هل أنت فرحان ومُفرِح للآخرين؟ هل أنت صانع سلام؟ هذه الثنائيات مهمة: التوبة والنقاوة، الرحمة والطاعة. هناك ارتباط وثيق بين الاثنين، لا أستطيع فصلهما. نحن نُمجِّد المسيح، وهو على الصليب، وهو في ساعة الألم، ونشكره قائلين في قِطَع صلاة الساعة السادسة: ”نصرخ إليك ونشكرك لأنك ملأتَ الكل فرحاً أيها المخلِّص لما أتيتَ لتُعين العالم. يا ربُّ المجد لك“. وفي صلاة الساعة التاسعة، تقول أُمنا العذراء: ”أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب عند نظري إلى صلبوتك الذي أنت صابر عليه من أجل الكل، يا ابني وإلهي“.

الفرح، لابد أن نعرف أن الفرح ناقصٌ جداً، لأن هناك في العالم اضطرابات ومجاعات، وحتى إذا كنتم تستقبلون زوَّاراً في بعض المواسم، فأيُّ واحد يأتي إلى هنا، فقد أتى لكي يأخذ جرعة فرح. شعبنا القبطي يحب أديرتنا بصفة عامة، ليبحث عن جرعة فرح. هو يجلس أمام التليفزيون، وأمام الأخبار المُزعجة، وأمام الحالة التي فيها قلق، ولكنه يريد أن يصل إلى ميناء السلام، ميناء الخلاص، ميناء الفرح.

الصورة الأخيرة: الأمانة الشخصية:

نصل إلى الصورة الأخيرة أو العتبة الأخيرة. نقول: ”آمين الليلويا، كيرياليسون. كيرياليسون، كيرياليسون“. توبة ونقاوة، رحمة وطاعة، صُنع الرحمة وفيض الرحمة والاتضاع، الليلويا التي فيها سلام؛ ثم نصل إلى القمة: الأمانة الشخصية في حياتك، الأمانة هي التي تُغلِّف الحياة كلها: «كُن أميناً إلى الموت فسأُعطيك إكليل الحياة» (رؤ 2: 10). انتبه لكلمة: ”كُنْ“. سواء كنتَ راهباً، كبيراً أم صغيراً، جديداً أم قديماً؛ ”كُنْ“ في شخصك! ”كُنْ“ موجَّهة لنا كلنا: رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً. وفيها أيضاً فعل الخصوصية لشخصك أنت، لا شأن لك بمَن هم حولك، كُن أنت أميناً. لا شأن لك بما يعمله هذا أو ذاك. يا إخوتي، لك نفس واحدة، إنْ خسرتها، خسرتَ كل شيء. ”كُنْ“ فيها الخصوصية وفيها الشخصية الخاصة، وفيها أيضاً الاستمرارية. فهي ليست وأنت في بداية الرهبنة، أو قبل دخولك الدير، أو بعد أن رُسِمتَ كاهناً مثلاً؛ إنها تشمل الحياة كلها من أَلِفها إلى يائها.

? أُريد أن ألفت نظركم هنا إلى بعض آيات الكتاب المقدس، وبالذات في العهد الجديد؛ نصفها الأول على الأرض، ونصفها الثاني في السماء:

+ «كُن أميناً (على الأرض)»، «فسأُعطيك إكليل الحياة (في السماء)» (رؤ 2: 1).

+ «لا تخف أيها القطيع الصغير (على الأرض)»، «لأنَّ أباكم قد سُرَّ أن يُعطيكم الملكوت (في السماء)» (لو 12: 32).

+ «طوبى للمساكين بالروح (على الأرض)»، «لأن لهم ملكوت السموات (في السماء)» (مت 5: 3).

هناك آيات كثيرة جميلة نصفها على الأرض، والنصف الثاني في السماء، أي نُكمِّل ونأخذ حلاوة الجزاء في السماء. أمانتك، ضبط أفكارك، ضبط مشاعرك، ضبط جسدك، ضبط نظراتك، ضبط قراءاتك، ضبط استخداماتك لأي تكنولوجيا حديثة. ضبط، وإلاَّ تكون ”السِّكِّينَة سرقاك“. أمانتك في علاقاتك الداخلية هنا في الدير، ومع إخوتك الرهبان.

الرهبنة هنا في الدير هي عائلة روحية. لقد تركنا عائلاتنا وأُسَرَنا لكي نعيش في هذه العائلة. هنا تُسمَّى عائلة ”أبو مقار“، مثلما يقولون: ”أنت من عائلة فلان“. نحن عائلة لها أصول ولها تاريخ ولها حضارة، لها وجود ولها انتماء ولها مُساهمة في تاريخ الكنيسة؛ إنها عائلة. أين أنت من هذه العلاقات؟ علاقتك هنا، ولكن أحياناً الأمانة تمتدُّ إلى آبائنا وأجدادنا. هل أنت أمين لِمَا عملوه، وأنت تعيش فيه؟ هل أنت أمين لِمَا تسلَّمته، وأمين في تسليمه، في حراسته؟ يعجبني جداً ونحن نُصلِّي في صلاة باكر، نقرأ في المزمور الأول: «فيكون كالشجرة المغروسة»، لها جذر، لها أصل، مغروسة على مجاري المياه (وسائط النعمة)، نعيش على ما تعلَّمناه من آبائنا، أمناء لكنيستنا، نعيش في منتهى الحرص على إيماننا المستقيم جداً، ونعيش ونحن نجاهد من يومٍ إلى يوم جهاداً روحياً لكي يكون لنا نصيب سماوي. وبمجرد وجود شيء يحرمني من هذا النصيب، أبعد عنه تماماً، وأجتهد في حياتي اليومية من أجل أن يكون لي نصيب: «كُن أميناً إلى الموت»، إلى آخر لحظة، «فسأُعطيك إكليل الحياة».

? كلكم تعرفون قصة الراهب الذي كان يشتغل في الدير خيَّاطاً، يُخيِّط جلاليب الرهبان. ففي وقت نياحته التفَّ حوله الآباء وهم يُودِّعونه، فقال لهم: ”أُريد مفتاح الملكوت“. فأحضروا له الصليب، فقال لهم: ”ليس هذا هو“! فأحضروا له الإنجيل من القلاية، فقال لهم: ”ليس هذا هو“! فأحضروا له الأيقونة التي صنعها في قلايته، ويُصلِّي أمامها، فرفض وقال: ”ليست هذه“! فسألوه: ”ما هو مفتاح الملكوت إذن“؟ فقال لهم: ”الإبرة“ التي كان يُخيِّط بها. فلأنه كان أميناً في عمله، والإبرة كانت رمزاً لعمله، فقد فتحت له باب السماء!

«كُن أميناً». إن جاء في يدك قرشٌ، كُن أميناً عليه. تصوَّر أن قرشاً يحرمك من السماء! تصوَّر علاقة تحرمك من السماء! فما الذي استفدته؟ انتبه!

«كُن أميناً إلى الموت فسأُعطيك إكليل الحياة». هذه هي أمانتك العملية، وأمانتك الداخلية. عندما نُصلِّي ونقول: ”أَعْطِ بهاءً للإكليروس. نُسكاً للرهبان والراهبات“. كلمة ”بهاء“ معناها شيئان: ”بهاء“ أي نقاوة داخلية، ولمعان خارجي. إنه حياتك اللامعة. اللامعة بالقدوة، واللامعة بالمحبة، واللامعة بالاتضاع، واللامعة بمحبتك للآخرين... إلى آخره.

كما قلت لكم أولاً، فإنَّ رقم 5 يعني قبضة اليد، يعني القوة، ويرسم أمامنا ما تعلَّمناه في كنيستنا وفي تسابيحنا، ومِن بينها هذا القانون الصغير، هذا اللحن الصغير الذي يُقال عند الانتقال من هوس إلى هوس، فيرسم أمامنا خطوات حياتنا: من أمانة، وفرح، ومحبة للآخرين، وعمل الرحمة معهم، وامتلاك القلب المُطيع الليِّن، وامتلاك نقاوة القلب، وحياة التوبة في حياتنا اليومية.

المسيح يحافظ عليكم، ويجعل لكم عُمقاً في حياتكم، في قراءاتكم، في جهادكم اليومي، في صلواتكم، في تسابيحكم، في دراساتكم التي تُعلنونها وتُقدِّمونها وهي تخدم أُناساً كثيرين. في حياتك اليومية استغل كل مناسبة تحلُّ، مثل: مناسبة يوم رهبنتك، أو يوم دخولك الدير، أو التذكارات التي تتكرر؛ وضَعْ كل هذا أمامك، فترتقي شيئاً فشيئاً وتنمو. ممكن نسمع عن ضعفات في الماضي أو في الحاضر أو في التاريخ أو عند الناس؛ ولكن أنت مسئولٌ عن نفسك فقط. أنت تبحث عن نفسك فقط، أنت ستُسأل عن نفسك فقط وليس عن أيِّ شخصٍ آخر. انتبه! انتبه!

نرجو، يا آبائي، أنَّ دير الأنبا مقار، هذا الدير العظيم، وكما قلتُ هو أحد أعمدة حياتنا ورهبنتنا في أديرتنا كلها؛ أن يكون دائماً في حياة روحية مرتفعة، وأن نسمع عنكم كلكم كل خير، وعن نيافة أنبا إبيفانيوس في وسطكم، وعن حياتنا لكي نقضيها جميعاً في سلام، ونُرضي إلهنا الصالح.

ونطلب من إلهنا الصالح أن يُعطينا من فضله النهاية الصالحة، ويُكمِّل أيامنا بسلام، ويُكمِّل جهادنا ورهبنتنا بحسب ما يُرضيه. واعْطِنا، يا رب، نعمة في حياتنا، حتى وإن كنا مُقصِّرين أمامك، أو في بعض كسل، أو ذات؛ فهي فرصة، يا رب، أن نتخلَّى في هذا الصوم المقدَّس عن كل هذا وننطلق من جديد. ربنا يحافظ عليكم ويُبارك في جهادكم وفي حياتكم. لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد، آمين.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis
24 - مجلة مرقس أبريل 2014 مجلة مرقس أبريل 2014 - 25