للأب متى المسكين


الطريق إلى ملكوت الله
- 6 -

«ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟» (1)
إنجيل يوم الثلاثاء من الأسبوع الثاني من الصوم المقدس
(مر 10: 17-27)
+++

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القدَّاس:

إنجيل هذا الصباح: «اذهب بِعْ كل ما لك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كن‍ز في السماء، وتعالَ اتبعني حاملاً الصليب» (مر 10: 21)، هو الإنجيل الذي سمعه القديس أنطونيوس أب جميع الرهبان، فدخل الصوت إلى قلبه واخترق أعماقه وضميره.

كان القديس أنطونيوس الشاب، ابن حوالي 18 سنة، ربيب قرية صغيرة ”قمن العروس“. كان يتيماً، ولكنه ينتمي إلى عائلة غنية، وقد ورث 300 فدان من أفخر الأراضي آنذاك، ولم يكن هذا الميراث عسيراً أمامه، كما قال التلاميذ للرب يسوع: «مَن يستطيع أن يخلُص؟» عندما تكلَّم عن: «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله؟».

استطاع القديس أنطونيوس أن يسمع كلام هذا الإنجيل، وتَعيه أُذُنه الروحية، وكانت أول أُذُن بشرية تستجلي قوة هذه الآية التي ذُكِرَت في هذا الإنجيل. لقد سمع الآية، فدخلت إلى أعماق قلبه وضميره، وكان قراره في هذه اللحظة أن يخرج من هذا العالم. كان كل رأس مال أنطونيوس يكمن في الطاعة، فقد أطاع الوصية من كل قلبه، وقام بتنفيذها بدون تردُّد، فبلغ إلى ما بلغ إليه من قداسة.

ابتدأ القديس أنطونيوس بكل غيرة، بكل تدقيق، بكل أمانة؛ فباع كل أمواله ليتبع الرب. ثم بعد ذلك سلَّم أخته الوحيدة إلى بيت للعذارى، وخرج مثل أبينا إبراهيم وهو لا يعلم إلى أين يمضي! ولكنه كان مُعتمداً على قوة الآية التي سمعها، والتي انكشفت له، وصارت منهجاً حقيقياً يوصِّل إلى ميراث الحياة الأبدية.

تأثير وانتشار الآية: «بِعْ كل ما لك... وتعالَ اتبعني»:

كانت هذه الآية: «اذهب بِعْ كل ما لك... وتعالَ اتبعني» مخفية وغير منكشفة قبل أن يسمعها أنطونيوس. فكثيرون قرأوا وسمعوا هذه الآية، ولم يجدوها طريقاً واضحاً لكي يرثوا من خلال تنفيذها ملكوت الله والحياة الأبدية. ولكن طاعة أنطونيوس للوصية من كل القلب، كشفت عمق هذه الآية وهذه الوصية. وليس القديس أنطونيوس فقط هو الذي ورث الحياة الأبدية بتنفيذه لهذه الآية، ولكنه كان كسابقٍ لكل الذين اقتفوا آثار خطواته، إذ قد سمع الكثيرون هذه الآية في حياة القديس أنطونيوس، وانجذبوا إلى طريق الرهبنة الذي أسَّسه القديس أنطونيوس. وهكذا تركوا كل شيء وذهبوا وراء المسيح حاملين أتعاب الطريق.

ولكن بعد مائتي سنة من إطاعة القديس أنطونيوس لهذه الآية، صارت براري القطر المصري شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، مملوءة بالقدِّيسين الذين يسعون نحو ملكوت السموات. وليس فقط مصر هي التي امتلأت من النُّسَّاك، بل اتسعت آفاق تنفيذ هذه الآية حتى بلغت الأقطار القريبة والبعيدة عن مصر، إذ انتشرت سيرة القديس أنطونيوس وتأسيسه للرهبنة إلى جميع أقطار العالم، وكان السبب هو شاب بسيط أطاع الآية من كل القلب.

ولم يتوقَّف اتساع وتأثير هذه الآية التي سمعها القديس أنطونيوس عند هذا الحدِّ، بل شملت كل الأماكن، وكل العصور، حتى زماننا الحاضر. فلا يخلو قطر من الأقطار من راهب يعبد الرب من كل قلبه ويسجد له.

اتساع وانفتاح هذه الآية على آياتٍ أخرى:

ولكن لم تنحصر هذه الآية: «بِع كل ما لك... وتعالَ اتبعني» عند حرفيتها فقط، بل اتسعت وانفتحت على آياتٍ أخرى في حياة القديس أنطونيوس. فقد اتَّخذ من الفقر منهجاً بعد الغِنَى؛ بل اتَّخذ من العفة والطاعة، إلى جانب الفقر، أسلوباً ومنهجاً للحياة الرهبانية التي أسَّسها، وسار على هَدْيها الكثيرون.

وأقوى ما شملته هذه الآية من آياتٍ أخرى، هو ”المحبة الباذلة“. فقد نشأت في أقطار كثيرة، ومنها قارة أوروبا، المستشفيات التي يُديرها الرهبان على أعلى مستوى، وقُدِّمت فيها أمثلة عظيمة من بطولات التضحية بالصحة والدم والحياة نفسها، وبَذْل الجهد، ومواصلة السهر، وذلك كله من أجل التفاني في خدمة وعلاج الآخرين.

ولم يقتصر تأثير هذه الآية عند هذا الحدِّ فقط، بل انتشرت مؤسَّسات التربية والتعليم على أيدي الرهبان في أوروبا - بصفة خاصة - بدايةً من تأسيس المدارس في السنوات التأهيلية الأولى لأي إنسان حتى تأسيس الجامعات بكل درجاتها العلمية. وكان الرهبان يُديرون هذه المؤسَّسات العلمية ويُعلِّمون فيها.

ومن أمثلة ذلك: نعلم أن العلم الحديث قد بدأ على أيدي الرهبان في أوروبا. فالطالب في زماننا الحاضر يدرس مصطلحات علم النبات أو علم الحيوان أو الطب بما فيه من أعضاء الجسم البشري والأمراض والعلاجات، كلها تُدرَّس باللغة اللاتينية. وقد وضع الرهبان أُسس هذه العلوم، إذ كان الرهبان في ذاك العصر - في أوروبا - يتكلَّمون باللغة اللاتينية.

وقد بلغ اتساع هذه الآية إلى نطاق التبشير؛ إذ انطلق التبشير، وخرجت البعثات التبشيرية، بما فيها من تعليم وإنشاء المدارس، وبما فيها من توعية صحية وإنشاء المستشفيات، إلى أقطار المسكونة. وكان يقوم بها الرهبان الذين يتبعون خطوات القديس أنطونيوس، ويُنفِّذون نفس الآية التي أطاعها.

كان تأثير الرهبنة عظيماً على الذين هم في العالم، فانتشرت المبادئ الروحية الرهبانية والمعرفة الإنجيلية والفضائل الرسولية في أوساط مَن يحيون في العالم؛ فقدَّموا أنفسهم وبذلوا أوقاتهم وحياتهم من أجل تنفيذ وصايا الإنجيل ونَشْر البشارة المُفرحة.

وهكذا استطاع شاب ريفي بسيط ويتيم من ”قمن العروس“، بتنفيذه وصية الرب من كل قلبه وبكل أمانة، أن يُغيِّر وجه الأرض. وما تزال حتى الآن فاعلية تنفيذ هذه الوصية تسير بقوة الدفع التي ابتدأها أولاً القديس أنطونيوس ثم تبعه جموع من القدِّيسين، الذين اتَّبعوا آثار خطواته، واستلموا نفس الروح، ثم سلَّموها إلى الأجيال المتعاقبة، وهم لا يزالون يرعونها من السماء.

تأثير الطاعة وتنفيذ الوصية:

نحن نقول إن أهم ما في نذور الرهبنة ”الطاعة“، وهذا الكلام ليس من فراغ. فطاعة أنطونيوس للوصية جعلت هذه الآية تتجلَّى وتنكشف وتتضح قوتها الهائلة. فلولا طاعة أنطونيوس الحرفية البسيطة لهذه الوصية ما بلغت هذه الوصية ما بلغت إليه حتى طَبَقَت شهرتها آفاق العالم.

فطاعة القديس أنطونيوس الذي أخذ على عاتقه تنفيذ الوصية من كل قلبه، وأظهر قوة هذه الآية وفاعليتها للعالم كله؛ صارت منهجاً. وهكذا إذا أطعنا كل الوصايا من كل القلب، فلا تتخيَّلوا كم يكون الحصاد الذي يجنيه الإنسان من جراء طاعته للوصايا الإنجيلية. تذكَّروا كيف أنَّ آية واحدة أطاعها القديس أنطونيوس، كان لها هذا التأثير العظيم في كل العالم.

فإذا قام أحدٌ بتنفيذ وصية مثل ”المحبة“ بكل صدق وأمانة، وبدأ يعيش بها على المستوى الشخصي، كيف يكون تأثير هذه المحبة في الآخرين؟! وإذا اتَّخذتها جماعة ما نبراساً لها، وصارت ”جماعة المحبة“، وقامت بتسليم قوة هذه الآية ”المحبة“ بالفعل وبالتنفيذ إلى الآخرين، فانتشرت من جراء ذلك المحبة، وتأسَّست ”جماعات المحبة“ وتغلغلت في العالم، فماذا تكون البشرية حينئذ؟!

وإذا أخذ إنسانٌ وصية «وتكونـون قدِّيسين، لأني أنا قدوس» (لا 11: 45؛ 1بط 1: 16)، فهذه الوصية تحتاج إلى الطاعة ومنتهى التدقيق والأمانة لكي يأخذ الإنسان قوتها ويكون لها التأثير الفعَّال في الآخرين.

وكذلك وصية الصلاة، كما قال الرب يسوع: «ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُمَلَّ» (لو 18: 1)، وهي آية أساسية عند المسيح، إذا نفَّذها وأطاعها الإنسان كما أطاع أنطونيوس وصية «بِع كل ما لك»، وعاش بها واستجلى قوة الإنجيل فيها، وكذلك قوة الروح المذَّخرة فيها، ثم بدأت تعمل عملها على المستوى الشخصي وعلى مستوى الجماعة، ثم الجماعات؛ فتصوَّروا ماذا يحدث على هذه الأرض التي نعيش فيها؟ أقول لكم: سوف يحلُّ الروح القدس على الجميع ويملأ العالم كله، لأن الصلاة هي واسطة امتلاء من الروح القدس، والإنجيل يحمل قوة هائلة مذَّخرة في وصاياه.

لقد نفَّذ القديس أنطونيوس آية واحدة، والآن تَرَوْن ماذا حصد العالم من جراء تنفيذ أنطونيوس لهذه الوصية!

والآن أنا أعرض عليكم الطاعة لكل وصية، وكما أخذ القديس أنطونيوس الكثير من تنفيذه للوصية، أقول لكم: إنه كما أخذ أنطونيوس ستأخذ أنت أيضاً، وإنْ أراد الله أن يجعلك أنطونيوس، فليس هذا بعسيرٍ عند الله. فأنتم مدعوُّون لإطاعة وتنفيذ وصايا المسيح طاعة أنطونيوس أبيكم، لكي تقتنوا ما اقتناه القديس أنطونيوس بطاعته الصادقة للوصية.

اختبار صغير:

عندما بعتُ كلَّ شيء وخرجت من العالم، كان ذلك في الساعة الحادية عشرة مساء أحد الأيام من شهور سنة 1948، ركبت القطار الذي سيصل إلى القاهرة في الفجر. لم أستطع أن أجلس، فكنتُ واقفاً أُصلِّي وتجيش نفسي بمشاعر متأجِّجة لم أستطع أن أُعبِّر عنها، وكان ينتابني فرح لا يُنطق به ومجيد، وسلام يبلغ إلى أعماق نفسي لم أرَ له مثيلاً، كما شعرتُ بأن رهبةً ومخافةً تُحيطان بي وتأسراني بإحساس مَن هو ذاهبٌ ليتقابل مع الله. هذا الإحساس الطاغي ظلَّ يعمل فيَّ منذ بداية رهبنتي بمنتهى القوة، ولكنه كان يتجدَّد كل يوم، وأنا لا أعلم ما هذه القوة التي تشملني وتُحيط بي. وظللتُ لفترة طويلة لا أعرفها، ولكنها متغلغلة في أعماقي؛ أشعر بهذه القوة. فحينما أضعف أجدها ظاهرة وحاضرة فيَّ وتدفعني إلى الأمام. وعندما تقابلني مصاعب وضيقات لا يمكن أن يتصوَّرها إنسان، أجد آيات الكتاب المقدس تسندني وتأخذ بيدي وتقوِّيني؛ أخيراً أدركتُ أن كل هذا كان ردَّ فعلٍ لطاعة الوصية.

عندما أطعتُ الوصية من كل القلب ومن كل الفكر ومن كل النفس ومن كل القدرة، وبكل دقة؛ كان تنفيذ الوصية له رد فعل مباشر في حياتي، حتى قبل أن أطرق باب الرهبنة.

قبل الرهبنة، وأنا في العالم، لم أكن أعرف شيئاً عن الرهبنة، وعن منهجها وطريقها؛ ولكن اكتسبتُ قوة هائلة نتيجة طاعة الوصية من كل القلب، وما تزال هذه القوة تسندني وتؤازرني طوال سني الرهبنة التي عشتها. فهي مُعتمدي، وهي عصاتي التي أستند عليها، وهي تعزيتي. هي يمين العَليِّ، في الحقيقة، التي تمسك بيد كل السائرين على طريق الإنجيل إلى ملكوت الله.

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

(1) هذه العظة هي عن إنجيل قداس يوم الثلاثاء من الأسبوع الثاني من الصوم الأربعيني المقدس عام 1990. وقد تمَّ نشر خمس عظات سابقة من هذه السلسلة التي تُسمَّى ”الطريق إلى ملكوت الله“، أعداد: مارس 2012؛ مارس 2013؛ أبريل 2013، فبراير 2014، مارس 2014. وهذه العظة المنشورة في هذا العدد هي رقم (6) من هذه السلسلة.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis