في
أسبوع
الآلام


عن ألحان
جمعة الصلبوت

+ عن نشأة التسبيح في الكنيسة:
تعوَّد المصري القديم وهو يُصلِّي في استغراقه أن يُلحن كلماته كأغانٍ روحية، بل إنه استخدم في تسابيحه الدفوف والطبول والصنوج والآلات الوتريـة كـالقيثارة والهَارْب والعُود وآلات النَّفْخ.

ولما اتصل العبرانيون بالمصريين عرفوا عنهم هذه الأدوات الموسيقية واستخدموها في التسبيح وهم في مصر (خر 15: 2،1)، وفيما بعد في خيمة الاجتماع ثم في الهيكل.

وقد برز اسم المُرتِّل داود (2صم 23: 1) ورفاقه كُتَّاب "المزامير"، والتي ظلَّت قاعدة التسبيح في الكنيسة المسيحية منذ أيامها الأولى (أف 5: 19؛ كو 3: 16)(1) وحتى اليوم(2) وغدٍ. ويُسجِّل الكتاب أنَّ الرب ليلة آلامه سبَّح مع تلاميذه (مت 26: 3؛ مر 14: 26)(3).

والقدَّاس الإلهي في كنيستنا بكل ما يحويه من صلوات الكاهن والشعب، وحتى الإنجيل، يُتلى مُلحَّناً، بموسيقى تستمد جذورها أساساً من ألحان المصريين القُدامى(4). وتُخصَّص للمناسبات المختلفة النصوص التي تُناسبها: كالأعياد السيِّدية والأصوام خاصة الصوم الكبير وأسبوع الآلام. وهذه النصوص ليست مجرد كلمات جيدة منظومة للصلاة، وإنما هي تحوي في أكثر الأحيان جوهر العقيدة كالثالوث القدوس والتجسُّد والخلاص والصليب والقيامة والكرازة والشفاعة. فبينما نحن نُسبِّح نحن نتعلَّم، وبيننا الأطفال والبسطاء وغير المتعلِّمين يلتقطون أُسس الإيمان وهم يترنَّمون.

+ عن ألحان جمعة الصلبوت:

اجتمع لأسبوع الآلام الترتيب المُتقَن من ناحية القراءات الكتابية المُواكبة لأحداث أيام الصليب ساعةً بساعة، وما يُقابلها من نبوَّات العهد القديم وأحداثه، والألحان الفريدة المُرافقة لنصوص الصلوات والتي لا يتكرَّر أكثرها في غير هذا الأسبوع الذي هو تاج أيام السنة.

وإذا كان قصد هذا المقال الحديث عن ألحان جمعة الصلبوت، فإنَّ هناك ألحاناً تُقال في كل أيام أسبوع الآلام وضمنها بالطبع هذا اليوم:

+ فكل ساعة من ساعات اليوم النهارية الخمس أو الليلية الخمس تبدأ بابتهال الشعب كله يُشاركون ملائكة السماء تسبيحهم (رؤ 5: 13،12؛ 7: 12) يُمجِّدون معهم الله الذي قَبِلَ الصليب، لا عن اضطرار، بل بإصرار على تحقيق وعده بالخلاص. فرغم أنه «أخلى نفسه آخذاً صورة عبد» (في 2: 7)، واتَّجه إلى غاية مجيئه طائعاً «كشاة تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازِّيها فلم يفتح فاه» (إش 53: 7)، واحتمل أن يُلطم ويُتفل عليه ويتعرَّى ويُضرب بالسياط ويُهان من الكبير والصغير؛ ولكنه يظل «ملك الملوك ورب الأرباب» (1تي 6: 15؛ رؤ 17: 14؛ 19: 16) الذي بموته داس الموت وقام منتصراً في اليوم الثالث.

ومع الملائكة يهتف الشعب قائلاً اثنتي عشرة مرة (بالقبطية) "Qwk te ;jom" (وبالعربية). وفي كل مرة تُقال الفقرات الثلاث التالية اعترافاً بأنَّ للرب القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد: "لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين، يا عمانوئيل إلهنا وملكنا"؛ "لك القوة... ياربي يسوع المسيح" (وبدءاً من الساعة الحادية عشرة من يوم الثلاثاء يُضاف "مخلِّصي الصالح"، ومن ليلة الجمعة يُضاف أيضاً "قوتي وتسبحتي هو الرب وصار لي خلاصاً مُقدَّساً" – مز 118: 14)؛ "لك القوة... إلى الأبد آمين".

+ يسبق قراءة إنجيل الساعة مزمور مختار يتعلَّق به. واللحن التقليدي للمزمور في أسبوع الآلام هو "اللحن الأدريبي"(5). ويُقسَّم المزمور إلى أربع فقرات، ويتفق لحن الفقرات الأولى والثانية والرابعة ويختلف عنهم لحن الفقرة الثالثة الذي يُطلق عليه "المحيَّر" بسبب هذا الاختلاف. ولكن هناك لحن آخر للمزمور هو "اللحن الملوكي" أو "اللحن الشامي الكبير" ونغماته ممتدَّة ومتنوعة ويختلط فيها الشجن بالابتهاج، وهو أمرٌ طبيعي. فرغم أنَّ الصليب قد اقترن بالفعل بالآلام والأحزان؛ ولكن، لأنه صار علامة الخلاص والنجاة من الموت ونوال الحياة الأبدية، فهو أيضاً صانع الفرح والبهجة. وباللحن الشامي يُقال مزمور الساعة الحادية عشرة من يوم الثلاثاء (ويتكرَّر في الساعة الثانية عشرة من يوم الجمعة)؛ ومزمور الساعة الثالثة من ليلة خميس العهد (الذي يتكرَّر أيضاً سَحَر هذا اليوم)(6).

+ بعد قراءة الطرح - أي تفسير الإنجيل - يقول الشعب مُقرّاً بعمل الرب الخلاصي: "المسيح مُخلِّصنا، جاء وتألَّم لكي بآلامه يُخلِّصنا، فلنُمجِّده ونرفع اسمه لأنه صنع معنا رحمةً كعظيم رحمته".

+ وفي ختام كـل ساعـة يهتف الشعب سائـلاً الملك المسيح (بالقبطية): "~Pouro `nte ;\irhnh" ويُقابلها بالعربية: "يا ملك السلام، أَعْطِنا سلامك، قرِّر لنا سلامك، واغفر لنا خطايانا؛ فرِّق أعداء الكنيسة وحصِّنها، فلا تتزعزع إلى الأبد؛ عمانوئيل إلهنا في وسطنا الآن، بمجد أبيه والروح القدس؛ ليُباركنا كلنا، ويُطهِّر قلوبنا، ويشفي أمراض نفوسنا وأجسادنا؛ نسجد لك أيها المسيح مع أبيك الصالح والروح القدس لأنك صُلبتَ وخلَّصتنا".

+ ولكن لجمعة الصلبوت - باعتبار أنها اليوم الذي احتضن ذروة العمل الخلاصي - ألحانه التي لا تتكرَّر في غيره إلاَّ استثناء:

+ ففي بدء صلوات الساعة السادسة يُقال لحن "Tai ]ourh `nnoub" أي "هذه المجمرة الذهب النقي الحاملة العنبر، التي في يدي هارون الكاهن، يرفع بخوراً على المذبح"، وهو يتفق في معظمه مـع نفس اللحن الذي يُقال في القدَّاس، إلاَّ أن له مُقدِّمـة هادئـة شجية جداً. ويقابله في الساعة التاسعة لحن ":]ourh `nnoub" أي "المجمرة الذهب هي العذراء، وعنبرها هو مخلِّصنا، ولدته وخلَّصنا وغفر لنا خطايانا". وفي المرتين أثناء اللحن، يُبخِّر الكهنة أمام أيقونة الصلبوت، تجسيداً للَّحن الذي يُختم بتمجيد المخلِّص: "نسجد لك أيها المسيح...".

+ ويليه لحن "Vai `etafenf `e`p]wi" أي "هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا؛ فاشْتمَّه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة"(7). ويُختم أيضاً بالسجود للمخلِّص.

+ وقبل قراءة نص البولس (غل 6: 14-18) تُلحَّن مقدمته بلحن يغلب عليه الحزن ":`epictolh" أي "رسالة مُعلِّمنا بولس". ثم تُقال قِطَع أجبية الساعـة السادسة [وفي الساعة التاسعة - ساعة موت الرب - يسبق قراءة البولس (في 2: 5-11) لحن مقدِّمته "Eqbe ;`anactacic" كصلاة من أجل كل الراقدين في المسيح: "من أجل قيامة الأموات الذين رقدوا في إيمان المسيح، يا رب نيِّح نفوسهم أجمعين. بولس عبد ربنا يسوع المسيح" ويليه قِطَع أجبية الساعة التاسعة].

+ وتتميَّز الساعـة السادسـة - ساعـة الصليب - ببعض أعظم الألحان، وأولها، بعدما سبق من صلوات وألحان، وهو اللحن (اليوناني) "~O monogenhc"(8)، وهو لحن يجمع بين البطء مع الشجن في بداية كل فقرة والسرعة مع البهجة في تتمتها. وهو يُخاطب الابن المصلوب بكل الإجلال، فيقول:

- "أيها الابنُ الوحيد وكلمة الله الذي لا يموت؛ وأنت الأزليُّ قَبِلتَ من أجل خلاصنا أن تتجسَّد من القديسة والدة الإله "الدائمة البتولية مريم" (تُقال مرتين)؛ فبغير استحالةٍ تأنَّستَ وصُلِبتَ أيها المسيح الإله؛ وبالموت دُستَ الموت، أنت أحد الثالوث القدوس، المُمجَّد مع الآب والروح القدس، خلِّصنا".

- "قدوس الله الذي من أجلنا صرتَ إنساناً بغير استحالةٍ وأنت الإله؛ قدوس القوي الذي أظهرتَ بالضعف ما هو أعظم من القوة؛ قدوس الذي لا يموت يا مَن صُلِبتَ من أجلنا، وصبرتَ على موت الصليب، وقَبِلْتَه في جسدك. وأنت أزليٌّ غيرُ مائت، أيها الثالوث القدوس، ارحمنا".

+ وبعد قراءة المزمور والأناجيل، تُقال "أمانة اللص"، حيث تستعيد الكنيسة مشهد توبة اللص في ساعته الأخيرة وقبول المخلِّص المصلوب لتوبته والدخـول بـه إلى الفردوس. وفيها يُـردِّد المُصلُّون خاشعين تائبين كلمات اللص بثلاث لغات: القبطيـة ، واليونانيـة ، والعربية "اذكُرني يا رب (يا ربي) - يا سيِّد (يا سيِّدي أو يا ملكي) - يا قدوس - متى جئتَ في ملكوتك".

+ وتبدأ صلاة الساعة الثانية عشرة (ساعة الدفن) بقراءة فصل من مراثي إرميا (3: 1-22)، والذي يبدأ بـ "أنا هو الرجل الذي رأى المذلَّة..."، والذي يعرض بروح النبوَّة ما جاز فيه الرب من آلام ومعاناة يوم صليبه حتى فاضت روحه. والفصل يُقرأ بالعربية بلحن الحزن(9) بصورة مؤثِّرة واحتفال جمعة الصلبوت يقترب من نهايته.

+ ومزمور هذه الساعة (مز 45: 8،6؛ عب 1: 8) "Pek`qronoc" "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب الاستقامة هو قضيب مُلكك... كل ثيابك مُر وعُود وسليخة(10) ("المُر والميعة والسليخة من ثيابك")" يُرتَّل باللحن الشامي(11). وهو من جانب يُخاطب الرب - وهو في القبر - أنَّ موته هو بالجسد، ولكنه يبقى الله الحي الذي يجلس على عرشه إلى الأبد؛ ومن جانب يُشير إلى الحُنوط التي تملأ أكفانه. فالمزمور مناسب تماماً للساعة الأخيرة من جمعة الصلبوت.

+ وبعد أن يُختَم احتفال اليوم بالميطانيات في اتجاهات الكنيسة الأربعة، حيث يسأل العابدون الرحمة من إلههم المُحِب الذي بذل ذاته عنهم؛ يأتي اللحن الختامي "Golgoqa" الذي يبدو كالسلام الملكي وتغلب عليه نغمات الفرح بتمام الخلاص، كما أنه يستعيد أحداث الصليب وموت الرب ودفنه في قبر جديد منحوت في الصخر، قدَّمه يوسف الرامي لسيِّده المحبوب، وشاركه نيقوديموس في دَفْن الرب (مت 27: 57-60؛ لو 23: 50-53؛ يو 19: 38-42) مُسبِّحين ومُمجِّدين، ويُخاطب به المؤمنون شخص الرب:

- "الجلجلة بالعبرانية، الاقرانيون craniun باليونانية، الموضع الذي صلبوك فيه يا رب. بسطوا يديك وصلبوا معك لصَّيْن عن يمينك وعن يسارك وأنت كائن (مُعلَّق) في وسطهما أيها المخلِّص الصالح. المجد للآب والابن والروح القدس.

فصرخ اللص اليمين قائلاً: اذكرني يا ربي، اذكرني يا مخلِّصي، اذكرني يا ملكي، متى جئتَ في ملكوتك. الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين.

جاء الصِّدِّيقان يوسف ونيقوديموس وأخذا جسد المسيح وجعلا عليه طِيباً، وكفَّناه ووضعاه في قبر؛ إذ يُسبِّحانه قائلين: قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت الذي صُلِبَ عنا، ارحمنا.

ونحن أيضاً فلنسجد له، صارخين قائلين: ارحمنا يا الله مخلِّصنا. الذي صُلِبَ على الصليب، اسْحق الشيطان تحت أقدامنا".

ويُستكمل بتسبحة ختام الاجتماعات.

+++

ونحن نتضرَّع إلى إلهنا الذي صُلِبَ وخلَّصنا، أن يهب كل النفوس التقية التي تنتظر بالشوق أسبوع الآلام، وخاصة يوم جمعة الصلبوت، أن تحرص خلاله على الصلاة والترتيل «بالروح وبالذهن أيضاً» (1كو 14: 15)، متابعة كلمات القراءات بكل تركيز وتأمُّل وفهم، وألاَّ تكتفي بنشوة الأُذُن بالألحان، ولكن لتُتابع كلمات النصوص الحافلة بكل ما يُعلِّم ويبني ويُعزِّي، وبهذا نستثمر ساعات حياتنا القليلة ونفتديها، لأنَّ «الأيام شريرة» (أف 5: 16).

دكتور جميل نجيب سليمان

**************************************************************************************************
دير القديس أنبا مقار صدر حديثاً
القداس الباسيلي
النص اليوناني مع الترجمة العربية
إعداد الراهب إبيفانيوس المقاري
192 صفحة الثمن 10 جنيهات
يُطلب من:
دار مجلة مرقس
القاهرة:
28 شارع شبرا - تليفون 25770614
الإسكندرية:
8 شارع جرين - محرم بك - تليفون 4952740
أو من مكتبة الدير
أو عن طريق موقع الدير على الإنترنت:
www.stmacariusmonastery.org

**************************************************************************************************

(1) سبَّحت الكنيسة في القرون الأولى أيضاً باستخدام نصوص سجَّلتها الأناجيل كتسبحة البشارة (لو 1: 18، 30-33)، وتسبحة العذراء (لو 1: 68-79)، وتسبحة الملائكة (لو 2: 14)، وتسبحة سمعان الشيخ (لو 2: 29-34)، أو تضمَّنتها رسائل القديس بولس (أف 5: 14؛ 1تي 3: 16؛ 6: 15؛ 2تي 2: 11-13).
(2) أشار كليمندس الإسكندري إلى استخدام المزمور 150 في الصلوات الليتورجية، ولا يزال يُستخدم إلى اليوم في التوزيع في ختام القدَّاس.
(3) أغلب الظن أنه مزمور 136.
(4) وبعضها القليل انتقل إلينا من التراث الكنسي اليوناني (الرومي).
(5) اللحن الأدريبي (أو الأتريبـي) - الذي تُلحَّن به أيضاً مقدمة فصل الإنجيل "Ke `upertou" التي تدعو للإنصات للإنجيل المقدس - يُنسب على الأرجح إلى بلدة أتريب الأثرية التي كانت بالقرب من الديرين الأحمر والأبيض في أخميم (محافظة سوهاج)؛ أو إلى أدريبه التي اشتهرت بمعبدها الوثني الذي حوَّله القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين إلى كنيسة، وهي غير أتريب في الوجه البحري (ومكانها الآن مدينة بنها)
(6) نص المزمور، وبدايته بالقبطية "Au~snon"، هو "ألين من الزيت كلماته وهي سيوف مسلولة" (مز 55: 21) حسب الترجمة البيروتية، ويُقابله في القطمارس القبطي: "كلامه ألين من الدُّهن وهو نصال" (مز 54: 18) الذي يُشير إلى خيانة يهوذا ذي المشاعر الخادعة، بلسان زلق يُظهر المودة ونفس حاقدة وقلب مُتقسٍّ يُدبِّر في الخفاء كيف يُسلِّم سيده، وقد سلَّمه بالفعل وهو يُقبِّله!
(7) يُقال هذا اللحن أيضاً في عِيدَي الصليب، وهو موقع لائق أيضاً لهذا اللحن.
(8) ويُقال أيضاً في تكريس الميرون والبطاركة والأساقفة باعتبار أنَّ المسيح هو رئيس الكهنة العظيم والحقيقي.
(9) تميَّز المتنيِّح القمص أنطونيوس أمين (كاهن كنيسة مار مرقس بمصر الجديدة) بطريقته الفريدة في قراءة فصل مراثي إرميا في ختام يوم جمعة الصلبوت.
(10) الذي يتكرَّر - كما ذكرنا - في الساعة الحادية عشرة من يوم الثلاثاء، حيث بدأت وقتها مشاورات المؤامرة للتخلُّص من شخص الرب.
(11) يُنسب هذا اللحن إلى قرية "شامة"، وهي قرية بالقرب من جبل شامة وبالقبطية Jhme في المنطقة الواقعة بين جبل بنهدب ومدينة قفط (قوص الحالية).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis