أواخر الأيام
وحياة الدهر الآتي
- 3 -
المجيء الثاني للمسيح


- 3 -
بعض القضايا والأسئلة
حول علامات اقتراب
المجيء الثاني للمسيح

حقيقة المجيء الثاني مؤكَّدة:
هذه الحقيقة تحدَّد حتمية حدوثها في المستقبل: «... سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه» (عب 9: 28).

وكما أن حقيقة الموت مؤكَّدة لكن ساعة الموت غير مُحدَّدة؛ كذلك فإنَّ حقيقة الدينونة الأخيرة هي مؤكَّدة لكن ساعة الدينونة غير مُحدَّدة.

وكما أنَّ المسيح قد أكَّد لنا أنه سيأتي يوم للدينونة من أجل أن يتجنَّب الناس الخطية، وأيضاً لتعزية الأتقياء في شدائدهم؛ هكذا جعل ساعة هذه الدينونة غير معروفة للبشر، لكي يتخلَّصوا من كل أمانٍ كاذب، ويظلوا دائماً ساهرين منتبهين، لأنهم لا يعرفون في أية ساعة يأتي ربُّهم.

هل المجيء الثاني وشيك الحدوث،

أو سيتم الآن، أم سيتأخر؟

القديس بولس في رسالته الأولى إلى مؤمني تسالونيكي توقَّع المجيء الثاني للرب حالاً (4: 13- 5: 10)، لكنه أسرع وصحَّح هذا الظن في رسالته الثانية لهم (2تس 2: 2،1)، مُبيِّناً أن ثمة علامات ستسبق المجيء الثاني وهي لم تتحقَّق بعد. كما أكَّد في رسائل تالية أخرى على عدم سرعة مجيء الرب (أف 1: 10؛ كو 1: 12-20)؛ بل قال إن هذا المجيء سيتأخر. لكن هذا التأخُّر لم يُضعِف من الثقة في المجيء الثاني للرب. وظل الرسل يُفسِّرون حديث الرب عن مجيئه الثاني بالتناغُم مع حقيقة تأخُّر موعد هذا المجيء عن زمانهم الحاضر.

ولكن، ماذا تعني كلمات المسيح

عن قُرْب ظهوره؟

إن النصوص التي تتحدث عن مجيء قريب أو وشيك الحدوث، إنما تُشير إلى أحداث أخرى: إما إلى قيامة المسيح، أو إلى مجيئه بقوة الروح القدس يوم الخمسين حين حلَّ الروح القدس على التلاميذ، أو إلى دينونة ستحدث قريباً في خراب أورشليم عام 70 ميلادية؛ ولكن ليس عن مجيئه الثاني المرتقب في نهاية الدهور.

بل إن هذه النصوص قد تُشير إلى مجيء وحضور مستمر، لا يكفُّ، للمسيح داخل كنيسته، وعلى الأخص في الاحتفال الليتورجي الأسبوعي للإفخارستيا يوم الأحد؛ وليس إلى المجيء المرتقب في أواخر الدهور.

+ أما العلامات السابقة لمجيء المسيح الثاني المُشار إليها في الأناجيل مثل: الحروب، والخوف الذي سيحلُّ على المسكونة، وغير ذلك، فهي علامات حادثة منذ بدء وجود الجنس البشري على الأرض، وليست قاصرة على المجيء الثاني.

+ ولكن هناك شواهد أكيدة من كلمات المسيح تُشير إلى أنَّ الرب يسوع حاول أن يؤكِّد لتلاميذه بأن وقت ظهوره الثاني سوف يتأخر كثيراً. ففي مَثَل العشر العذارى أوضح: «وفيما أبطأ العريس» (مت 25: 5)، وأيضاً في مَثَل الوزنـات ذَكَـرَ المسيح أن السـيِّد أتى «ليُحاسب العبيد» ولكن «بعد زمان طويل» (مت 25: 19).

+ ولكن إذا قارنَّا هذه النصوص مع نصٍّ يُشير إلى الذين «كانوا يظنون أنَّ ملكوت الله عتيدٌ أن يظهر في الحال» (لو 19: 11)؛ نفهم أن المسيح كان يُواجه مثل هؤلاء الذين كانوا ”يظنُّون“ هكذا، فقال لهم مَثَل الوَزْنات، ليُظهِر لهم أن هناك المزيد من الأحداث لابد أن تتمَّ قبل مجيئه المرتقب النهائي (مت 24: 5-14، 21-31)؛ وكذلك ترديده حقيقة «وليس المنتهى بعد»، «ثم يأتي المُنتَهَى». لكنه بعد هذا التصريح الأخير يتنبَّأ صراحةً عن خراب أورشليم، الذي كان سيتم بعد حوالي 40 سنة من صعوده. أي أنَّ ”المُنتَهَى“ في كلام المسيح هنا، ليس هو مجيئه الثاني، بل أحداث أخرى وشيكة الحدوث (وتحقَّقت بخراب أورشليم سنة 70م).

تأخُّر المجيء الثاني هو لإعطائنا فرصة للتوبة:

+ ثم إنه في الزمن الذي كتب فيه القديس بطرس الرسول رسالته الثانية، كان هناك إحساس قوي بطول مدة تأخُّر المجيء الثاني. لذلك يحث القديس بطرس الناس الذين كانوا يسمعون البعض (من المستهزئين) يتساءلون: «أين هو موعد مجيئه؟»، مُذكِّراً إيَّاهم بالحقيقة الزمنية بأنَّ «يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد». لذلك لا يصحُّ للمؤمنين أن يُردِّدوا هذه المقولة أنَّ ”الربَّ يتباطأ عن وعده، كما يَحسِبُ قومٌ (زمن) التباطؤ“، وذَكَر السرَّ المخفي وراء هذا التباطؤ: «لكنه يتأنَّى علينا، وهو لا يشاء أن يَهْلِكَ أُناسٌ، بل أن يُقبـِل الجميع إلى التوبة». أي أنَّ تباطؤ الرب في مجيئه (حسب مفهوم البعض بكلمة ”تباطؤ“)، إنما هو ليُعطي الأجيال من الناس الفرصة للتوبة. لذلك، فهو يحثُّ المؤمنين أن يعيشوا «في سيرة مقدَّسة وتقوى، مُنتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب» (2بط 3: 8-12).

فالمسئولية، إذن، في مواجهة هذا التباطؤ المزعوم، هي على المؤمنين، أن يستعجلوا مجيء الرب بسيرتهم المُقدَّسة في التقوى.

لغة إنجيل يوحنا عن ”الآن الدينونة“

و”في الزمن الأخير الدينونة“:

كما أنه لابد أن نعرف أنَّ هناك لغة في إنجيل يوحنا تُمثِّل شَدّاً وجذباً بين ”الآن“ و”بعد الآن“ فيما يخص أحداث الزمان الأخير:

+ «الآن دينونة هذا العالم» (يو 12: 31).

+ «إنه تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله» (يو 5: 25).

ثم يذكر المُقابل لهذا:

+ «تأتي ساعة (في المستقبل) فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 29،28).

وتفسير هذا الشدُّ والجَذْب ما بين ”الآن“ و”الدهر الآتي“، هو أن القرار الذي اتخذناه تجاه المسيح في مجيئه الأول سيكون هو العلامة الفارقة التي ستُحدِّد نوع الدينونة عند مجيئه الثاني: إما للحياة، أو للحُكْم بالموت الأبدي! فالآن هي ساعة الإيمان أو الرفض، وكل واحد هو الذي يُحدِّد منذ ”الآن“ نوع دينونته في ”الدهر الآتي“.

ففي كلام المسيح لغة سرِّية ”ميستيكية“ mystical، أي كلام ظاهر يُخفي معنًى باطنياً لا يُدركه إلاَّ ذوو الرؤية الروحية الباطنية. فلا يتجرَّأ أحدٌ على اقتحام المستقبل كما تحدث عنه المسيح، بادِّعاء معرفة بشرية قاصرة عن فهم المسيح الذي أحياناً يجمع ما بين الحاضر والمستقبل بتصريحات قد تبدو متعارضة بعضها مع البعض، لكنها - في نظر المسيح - هي شيء واحد، لأن الماضي والحاضر والمستقبل هي ”حاضر“ واحد في نظر المسيح، ولا يفهم ذلك إلاَّ ذوو الرؤية الممسوحة بنعمة الروح القدس، وعلى الأخص البسطاء والمتَّضعون في أفكارهم.

لذلك، وبالتالي، لا يصحُّ لأحد أن يتساءل عن موعد المجيء الثاني للمسيح، أو أن يتجرَّأ ويُحدِّد هذا الموعد.

”متى“؟

لقد وبَّخ المسيحُ التلاميذَ الذين سألوه بنوع من الفضول: ”متى يكون هذا“؟ فرد عليهم المسيح: «ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه»، وعِوَضاً عن ذلك وعدهم المسيح بعطية أخرى أهم من معرفة المستقبل والأزمنة المخفية عن عقول البشر: «لكنكم ستنالون قوة متى حلَّ الروح القدس عليكم»، وذلك ليقوموا بالمهمة العظمى التي لا تُدانيها مهمة، وهي: «تكونون لي شهوداً» (أع 1: 8،7).

+ وقد سبق أن قال لهم المسيح صراحةً: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلاَّ الآب» (مر 13: 32). وقد قَصَدَ الرب أن يضمَّ نفسه مع البشر والملائكة في عدم معرفة اليوم ولا الساعة، وذلك من حيث إنه تجسَّد الطبيعة البشرية القاصرة عن معرفة زمن مجيئه الثاني ويوم الدينونة، وهذا أحد أعمدة تدبير إخلائه لذاته في سرِّ التجسُّد.

+ وقد دعا القديس بولس المؤمنين أن يتركوا لله مهمة معرفة زمن وطبيعة ”يوم الرب“ (1كو 5: 5؛ في 1: 6).

ولكن توجد علامات سابقة للمجيء الثاني:

ولكن هذا لا يمنع من وجود علامات تُشير إلى نهاية الزمان الحاضر، ولكن هذا العجز في معرفة هذا الزمن بالتحديد، إنما لكي يظل الناس ساهرين على حياتهم الروحية لئلا يُوجَدوا في أية لحظة غير مستعدِّين لملاقاة الرب في مجيئه الثاني.

+ وقد ضلَّ كثيرون في التنبُّؤ بتحديد زمن المجيء. فعندما كان الأتراك العثمانيون منذ 400 سنة على أبواب ”فيينا“ والتي كانت آنئذ تابعة لإيطاليا (وهي الآن عاصمة النمسا)، وكانت البابوية الرومانية في روما على وشك الانهيار؛ بدا أن العالم كله ”على وشك النهاية“، حينئذ خمَّن ”مارتن لوثر“ في ألمانيا: ”بأنَّ العالم لم يتبقَّ أمامه سوى 100 عام وينتهي“، ظانّاً أن هذا الغزو العثماني علامة على نهاية العالم(1). لكن ها 400 عام قد مرَّت منذ هذه الحادثة التي بَدَت لبعض الناس أنها نذير نهاية العالم، لكنها عَبَرت «كعبور الزوبعة» (أم 10: 25)؛ لتُبيِّن طول أناة الله وتدبير خلاصه للبشرية!

+ كما أنَّ هناك شيئاً ما يبدو أنه شيطاني النزعة، إذ يتوق البعض وينتظرون أن يُحطِّم الله خليقته الأولى، وكأنه من التقوى أن نرى العالم يخرب، ولو بالاعتماد على بعض الآيات.

والحقيقة أنه ليس في فكر المسيح أن يُصاحِب مجيئه الثاني إحساس المؤمنين بأن الله يُسيء إلى خليقته الأولى؛ وأن يتمادوا في تحديد التفاصيل المُصاحِبة لمجيئه الثاني، وذلك بالتقليل من أهمية تجسُّده وحياته في هذا العالم وموته المُحيي للبشرية، وإرساليته مـن الآب لهذا العالم الساقط.

وكل هذه التصوُّرات هي تخمينات خطيرة. وقد اهتمت بعض الطوائف الغربية بالتركيز على هذه الصورة التخريبية للعالم بطريقة مُزعجة للنفوس - حتى التقية منها - فأصدروا أفلاماً مُرعبة عن الأيام الأخيرة (يُعلنون عنها في الإنترنت)، تضمَّنت صوراً مُزعجة للخراب الكوني الذي سيحدث للعالم والناس، ما تسبَّب في حالات انتحار وارتداد عن الإيمان بأيِّ دين. وكأن الدعوة إلى الاستعداد للمجيء الثاني للمسيح هي تحوُّلٌ من احتفال ماسيَّاني بعودة الرب ليأخذ مختاريه، تحفُّه الملائكة، وتصحبه الأفراح بعودته؛ تحوَّل إلى مآتم وجنازات لضحايا الخراب للعالم الذي سيحدث بطريقة مأساوية مؤسفة، بحسب تصوُّر البعض من هذه الطوائف.

امتحان الأرواح المُضلِّلة:

ومن حيث إن النبوَّات لا يمكن تصوُّرها بتفاصيل أحداثها إلاَّ حينما تتحقَّق (1بط 1: 11)؛ لذلك فـإنَّ تفاصيل أحداث نهاية هـذا الدهر لا يمكن إدراكها على حقيقتها إلاَّ وهي في طور الحدوث.

لذلك فنحـن مُطالَبون مـن الإنجيل: «لا تُصدِّقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح: هل هي من الله؟ لأن أنبياء كَذَبَة كثيرين قد خرجوا إلى العالم» (1يو 4: 11)، فلا ننساق وراء كل ما يُقال عن المستقبل المجهول، من تفاصيل الأحداث المُصاحِبة للمجيء الثاني للمسيح، ما يتنافَى مع مقاصد الله الأزلية من خلقة العالم وتجديده في الدهر الآتي.

(يتبع)

(1) Conversations with Luther, pp. 250f.