دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

من تاريخ كنيستنا
- 17 -
شخصيات رائدة في الكنيسة
في القرن السابع
-
3 -

المؤرخ الكنسي يوحنا النقيوسي
(مؤرخ الغزو العربي لمصر)

 

من بين أهم الوثائق القبطية التي ضاعت وراحت طي النسيان، كتاب التاريخ الشامل الذي وضعه الأسقف يوحنا النقيوسي (أسقف نقيوس)( ) في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن.

والمذكور في سجلات التاريخ الكنسي القبطية أن يوحنا هذا ترهَّب في دير الأنبا مقار الكبير في برية شيهيت، وقد اشتهر بعلمه الواسع واطِّلاعه على كتب الأقدمين، كما تميَّز بتقواه الفائقة ومقدرته على الإدارة والتنظيم، وقد تمتع بمعرفة كبيرة بأحوال الرهبان وقوانين الرهبنة.

وقد رأى البابا التاسع والثلاثون أغاثو (662-680م) (خليفة البابا بنيامين الأول معاصر الغزو العربي لمصر) أن يستعين بمواهب يوحنا، فاستدعاه وعيَّنه ضمن سكرتيريه فأخْلَص في خدمته. وحين انتقل هذا البابا الجليل إلى بيعة الأبكار، استبقاه البابا الأربعون يؤانس الثالث (680-689م) الذي خلف البابا أغاثو على الكرسي المرقسي ثم بعد انتقال البابا يؤانس، استمر يوحنا في خدمة البابا الحادي والأربعين إسحق الذي جلس على كرسي مار مرقس بعد ذلك، ولازمه ملازمة الظل حتى أنه كان يلازمه أيضاً كلما ذهب لمقابلة أمير البلاد، إذ كان هذا البابا يثق فيه كل الثقة، كل هذا وهو ما يزال راهباً.

وقد أنعم الله على يوحنا الراهب بعمر مديد فخدم البابا الثاني والأربعين سيمون (692-700م) خليفة البابا إسحق (فيكون قد خدم أربعة باباوات بالتتالي).

ومع أن يوحنا الراهب كان قد بلغ سنِّ الشيخوخة حين اعتلى البابا سيمون كرسي مار مرقس، إلاَّ أن هذا البابا رأى أن يوسِّع مدى خدماته وينتفع من شيخوخته وحكمته وعلمه، فرسمه أسقفاً على كرسي مدينة نقيوس، وجعله في الوقت نفسه رئيساً لأساقفة المديرية الرابعة من أقاليم مصر( )، وأقامه مدبِّراً (إيغومانساً) على أديرة أنبا مقار الكبير، وكان ذلك سنة 694م. وهكذا لقَّبه معاصروه "مدبِّر الأديرة". وكان السبب الذي أورده المؤرخون لتعيينه في هذه الخدمة هو درايته بأحوال الرهبان لمعايشته لهم ما يقرب من خمسين عاماً، حيث ظل راهباً وهو يخدم 4 باباوات متتاليين، وكذلك لدرايته بقوانين ونواميس الرهبنة، كما أُعطِيَ سلطاناً على الرهبان. وكان الرهبان في عهده يُعمِّرون القلالي بغير فتور، والأراخنة كانوا يمدُّونهم بأموالهم، وربما كان هذا بعد الخراب الكبير الذي أحدثه غزو الفرس لمصر (316-317 للشهداء) قبل الغزو العربي.

ويذكر التاريخ أن يوحنا النقيوسي كان قاسياً في تأديب الرهبان على أخطائهم، شديداً في معاملة المهملين منهم. وقد ذكرنا في تاريخ البابا أندرونيقوس (611-617م) الذي شاهد الغزو الفارسي لمصر، ما ذكره كتاب "تاريخ البطاركة" لمؤلِّفه الأنبا ساويروس ابن المقفع عن حالة الرهبان السيئة في القرن السابع( ). ولعل سوء حالة الرهبان هذه هي التي دفعت الأنبا يوحنا النقيوسي إلى الموقف السيئ الذي سنذكره الآن:

فإن حادثاً عَرَضياً أليماً حدث في تاريخ هذا المؤرخ الكنسي الشيخ، إذ أن الشيطان عدو الخير استمال إليه قوماً من محبي الشهوات، أدَّى إلى عمل مشين أتاه راهب في هذا الموضع المقدس لم يُسمَع بمثله من قبل. فلما سمع الأسقف يوحنا بالخبر حزن جداً، واستدعى الراهب المخطئ صاحب الحادث وعاقبه عقاباً بدنياً شديداً إذ ضربه ضرباً موجعاً تأديباً له على شناعة جُرمه، مما أدَّى إلى موت هذا الراهب متأثراً بجراحاته، كما ذكر كتاب "تاريخ البطاركة" لساويروس ابن المقفع.

فلما شاع الخبر وعلم الأساقفة، اجتمعوا سرًّا بمصر (القاهرة) في سنة 697م، وسألوا الأسقف يوحنا عن قضية الراهب، فأخبرهم بحقيقة الأمر، واعترف بأنه هو فعلاً الذي ضربه تأديباً له وعِبْرةً لغيره، فعقدوا مجمعاً في وادي هبيب (برية شيهيت) سنة 698م، وقرَّروا فيه استنكار عمل الأسقف، وأقالوه من إدارة الأديرة وأوقفوه عن مباشرة عمله الكهنوتي، وقالوا له: "ما أنت في حلٍّ أن تدنو إلى شيء من أعمال الكهنوت، أو تمس شيئاً من آنية الهيكل من الآن؛ بل تأخذ الأسرار المقدسة كراهب".

ويقول كتاب "تاريخ البطاركة" لابن المقفع إن الأسقف يوحنا احتج على قرارهم وقال للشعب والأساقفة: "كما أنكم قطعتموني ظلماً، فالرب الإله العادل الذي أعرف اسمه يجعلكم جميعكم يا أساقفة غرباء عن كراسيكم إلى الزمان الذي حكمتم فيه عليَّ". ويُستدَل من هذا القول إن حكمهم عليه لم يكن مدى الحياة، بل إلى أجَلٍ معيَّن، لم يذكر التاريخ مداه.

كما يُستدَل من هذا الحادث أيضاً على بدء انحراف مفهوم السلطان الكهنوتي عن هدفه الموضوع له وهو: خلاص النفس لا إهلاكها، حسب قول المسيح: "لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُهلك أنفس الناس، بل ليُخلِّص" (لو 9: 56)، وذلك ردًّا على طلب تلميذيه يعقوب ويوحنا أن يستخدما سلطانهما في إفناء قرية السامريين التي رفضت استقبال المسيح.

وكما لم يذكر التاريخ مدة القَطْع، كذلك لم يدل على المكان الذي أقام فيه الأسقف يوحنا أثناء هذه المدة، كما لم يُعلَم تاريخ انتقاله من هذا العالم. ويظهر أنه لم يعش طويلاً، لأنه لم يُكمِّل كتابة تاريخه إلى ما بعد زمن عمرو بن العاص( ).

ويُعدُّ هذا المجمع أول المجامع التي عُقدت في مصر لمحاكمة أسقف لم يكن للبابا البطريرك اشتراك فيه.

كتاب: "تاريخ يوحنا النقيوسي"

على أن هذا الحادث لا يصرفنا عن عرض هذا العمل الأدبي التاريخي العظيم، الذي وإن ضاع أصله القبطي (أو اليوناني) وترجمته العربية، إلاَّ أن الترجمة الحبشية بلغة الجيز (اللغة الكنسية القديمة) والتي بقيت إلى الآن، صارت هي المرجع الأول في تاريخ الغزو العربي لمصر. ويوجد من هذه الترجمة نُسَخ في المكتبة الأهلية بباريس ومكتبة المتحف البريطاني، وقد ترجمها من اللغة الحبشية إلى الفرنسية العلاَّمة المستشرق زوتنبرج في كتابه: "التاريخ".

وقال هذا الناشر في مقدمة الترجمة الفرنسية: إن هذا الكتاب الثمين يُعدُّ من أحسن الكتب التاريخية نظراً لاحتوائه على أدق الحوادث التي جرت في أيام الغزو العربي والحُكَّام يونانيي الجنسية الذين كانوا موجودين وقتئذ في مصر، لأنه كان معاصراً لها وشاهدَ عيان، لا ناقلاً عن غيره.

كما أن ما سطَّره عن الأيام السابقة لزمن التاريخ المصري أو غيرها من الحوادث التاريخية، جاءت مُطابقة لِمَا سطَّره أعظم المؤرخين القدماء. وما ذلك إلاَّ دليل على سعة اطِّلاعه وتعمُّقه في البحث ووقوفه على بقايا الكتب القديمة التي دوَّنت التاريخ، سواء كانت في الأيام السابقة على المسيحية أو بعدها، والتي كانت في مكتبة الإسكندرية قبل حرقها وتشتُّتت محتوياتها.

ويُكمِل المستشرق الفرنسي تعليقاته: ومع أن هذا الكتاب النفيس لم يصلنا إلاَّ مبتوراً بعد أن تلاعب النُّسَّاخ به، فغيَّروا الأسماء وشوَّشوا المعاني في بعض عباراته، واختصروا فيه كثيراً، إلاَّ أن المطَّلِع على التواريخ القديمة يمكنه استدراك الأخطاء وإصلاح ما أفسده الناسخون والمترجمون من عباراته، فهو ذخيرة من الذخائر النادرة التي ضاعت من بين أيدينا( ).

تاريخ هذا الكتاب:

- لقد وضع يوحنا النقيوسي كتابه باللغة القبطية (أو اليونانية)، وقد ضاعت هذه النسخة وليس لها أي أثر إلى الآن.

- وقد تُرجم عن القبطية (أو اليونانية) إلى العربية في زمن لم يتحقق تاريخه، كما لم تُعرف شخصية مُعرِّبه، ولم يُعثر على أثر لهذه الترجمة العربية. ويغلب على الظن أنها تُرجمت بعد القرن التاسع عندما انتشرت اللغة العربية بين الأقباط وحلَّت محل اللغة القبطية في الدواوين، فابتدأوا ينقلون الكتب والمؤلَّفات القبطية إلى العربية.

- غير أنه من حُسن تدبير الله أن قام راهب شماس إثيوبي من دير يؤانس القصير بترجمة هذا التاريخ العام عن العربية إلى اللغة الإثيوبية القديمة "الجيز" وختمه بقوله: "لقد عنيتُ أنا الحقير بين الناس الشماس غبريال، الابن الروحي ليؤانس القصير (يقصد أنه كان راهباً في دير القديس يؤانس القصير) بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الحبشية القديمة بمنتهى الدقة. وقد أدينا هذه الترجمة نزولاً على إرادة الملكة مريم وأثناسيوس قائد الجيش الإثيوبي. وكان البدء في كتابة هذا المؤلَّف في يوم 28 من شهر أبيب وانتهت في يوم 22 من شهر بابة سنة 1308 للشهداء الأبرار / سنة 1592 لتجسُّد سيدنا يسوع المسيح (أي في القرن السادس عشر)".

- ثم نقلها من اللغة الحبشية إلى الفرنسية العلاَّمة المستشرق زوتنبرج، وطُبعت في باريس تحت عنوان: "يوميات يؤانس النقيوسي" - النص الإثيوبي مع الترجمة الفرنسية سنة 1883م.

- وعن الفرنسية ترجمها إلى العربية مرة أخرى المؤرخ القبطي المعاصر الشماس كامل صالح نخلة عضو لجنة التاريخ القبطي في أول هاتور سنة 1664ش (1948م)، ونشر مقتطفات منها على حلقتين في مجلة "صهيون" سنة 1948 (والتي تغيَّر اسمها بعد ذلك إلى مجلة "نهضة الكنائس")، ثم أُكمِلَت سنة 1949 في المجلة التي كانت تصدرها جمعية نهضة الكنائس القبطية الأرثوذكسية، والتي كان يرأسها دكتور أيوب فرج.

عرض موجز لكتاب: "تاريخ يوحنا النقيوسي"

كان يوحنا النقيوسي في سنة 698م سنة كتابة هذا التاريخ شيخاً كبيراً، مما يعني أنه عاصر في شبابه ونضجه أحداث الغزو ورآها رؤى العين، وسجَّلها في مخطوطته الحاملة لاسمه.

وتتكون مخطوطة يوحنا النقيوسي من مائة واثنين وعشرين باباً، عرض فيها أحداث العالم من بدء الخليقة وحتى الغزو العربي لمصر؛ لكنه اهتم بالحديث عن مصر وانتهز كل فرصة سانحة للتحدُّث عن مصر ومجدها وخيرها وعلوِّ أخلاق أهلها. ومن المدهش أن الفصل الخاص بالغزو العربي موجز على العكس من بقية الفصول التي كُتبت بالتفصيل، مما يجعل الدارسين يظنون أن مرجع هذا الإيجاز هو الترجمة الإثيوبية لا الأصل القبطي. على أنه رغم هذا الإيجاز، فإن المؤرخين المعاصرين المدقِّقين يستندون إليه لثقتهم في كاتبه يوحنا النقيوسي الذي بدا من كتاباته أنه يتوخى الحقيقة باستمرار( ).

- ويُلاحِظ الدارسون المحايدون( ) حتى من غير المسيحيين أن يوحنا النقيوسي كان صريحاً في إظهار مقاومته لأي غزو أجنبي لبلاده سواء من الجانب الروماني البيزنطي الذين نكلوا بالشعب القبطي بسبب تمسُّكه بعقيدة الطبيعة الواحدة، حيث لا يُخفي فرحه لِمَا نزل بالرومان من هزيمة وقتل، ويذكر فَرِحاً أنه عقاب السماء الذي حلَّ عليهم بسبب ما أنزلوه بالقبط من العذاب الشديد، ويُسمِّي الرومانيين بأوصاف رديئة من بينها أعداء المسيح؛ أو من الجانب العربي، حيث لا يُخفي عداءه للجانب العربي ويسميهم بالإسماعيليين.

فالنقيوسي في رأي الكاتبة سناء المصري صوتٌ قبطي صرف، يرى ظلم الرومان وقسوتهم، من جهة؛ وضراوة العرب وشدَّتهم، من جهة أخرى؛ ويتابع سير المعارك بين الجانبين بهذه العين المصرية الخالصة، وسرعان ما ينتابه الأسى لِمَا يحلُّ لشعبه القبطي على أيدي الجانبين.

- ويشير يوحنا النقيوسي إلى أن الجمهور المصري لم يأخذ وضع المتفرج الساكن السلبي، أو الفارِّ المذعور أمام الاجتياح العربي، رغم أنه أعزل؛ بل كان نواة المقاومة في هذه المدن، التي كان الحرق جزاءً لمقاومتها، وخصوصاً مدن الشمال، حتى أن عمرو "مكث اثني عشر شهراً يُحارب المصريين الذين كانوا في شمال مصر ولم يستطع فتح مدنهم".

- كما تظهر دقة يوحنا النقيوسي في عمله كمؤرخ، وظهر كمؤرخ مدني وعسكري في وقت واحد، فحلَّل أسباب اندحار الجيش الروماني المقيم في مصر، وذكر بدقة شخصيات القادة الرومانيين وما حدث بينهم من خلافات وخيانة وهروب... إلخ.

- ولكنه صوَّر موقف الكنيسة في شخص البابا بنيامين البطريرك الذي كان منفياً وأعاده عمرو بوساطة الأرخن القبطي سانوتيوس. فقد كان رجوعه سبب بركة وتعزية للشعب القبطي وللرهبان، حيث بدأ أيضاً في إعادة بناء ما خرَّبته الحربان المتتاليتان، وقال: "ودخل الأنبا بنيامين بطريرك المصريين مدينة الإسكندرية بعد هروبه من الروم، وسار إلى كنائسه وزارها كلها... ولم يأخذ عمرو شيئاً من مال الكنائس، ولم يرتكب شيئاً ما سلباً أو نهباً، وحافظ عليها طوال الأيام".

- لكن يوحنا النقيوسي سرعان ما بدأ يذكر تزايُد أعباء الضرائب والجزية والخراج على المصريين.

 

+ + +

وقد ظلت مخطوطة يوحنا النقيوسي مجهولة للدارسين العرب فترة طويلة (توجد نسخة منها في مخازن جامعة القاهرة، وقد ذكر ذلك الدكتور عمر صابر ضمن دراسة الدكتوراه الشائقة: "مصر في مخطوطة يوحنا النقيوسي" التي قدَّمها في كلية الآداب - جامعة القاهرة)؛ إلاَّ أنه كان يتم الرجوع إلى هذه المخطوطة والاستشهاد بها في الدراسات الغربية، وخصوصاً أن النقيوسي كان قد كتب باللغة القبطية، ثم تُرجم إلى اليونانية ثم العربية فالإثيوبية التي ترجمها إلى الفرنسية الدكتور M. H. Zotenberg وقدَّم لها، فظلت موضع بحث واستخدام الغرب، حتى ذكرها المؤرخ المصري المعروف عبد الرحمن الرافعي نقلاً عن زوتنبرج.

(يتبع)