الكنيسة هذا الشهر


الشهداء الجُدُد
(ديسقوروس، سيدهم بشاي)

تمهيد:
اعتادت الكنيسة أن تُطلق على الشهداء الذين نالوا إكليل الشهادة بعد منتصف القرن السابع لقب ”الشهداء الجُدُد“، مثل القديسين: صليب الجديد، وأرسانيوس الجديد، وجرجس الجديد.

والقـديس كليمندس الإسـكندري (150-215م) يُعرِّف الاستشهاد قائلاً:

[الاستشهاد ليس بطولة من الشهيد، وإنما في الشهادة للحقِّ المسيحي الذي يجعل الشهيد يحتمل آلاماً شديدة جداً تفوق ما تحتمله الطبيعة البشرية].

مَن هو الشهيد؟

الشهيد هو شاهدٌ للصليب، بل وأيضاً للقيامة. ومع ذلك فمعاناة الشهداء هي حُزنٌ مُولِّد للفرح الروحي على وجوههم وهم يُقتلون. فالذين عاينوا آلام الشهداء يُخبروننا أن الشهيد كان يذهب لملاقاة الموت، لا بوجه مُنقبض أو في حالة رُعب، بل باشتياق وانتظار وفرح سماوي.

ويقول دفنار 6 برمهات:

[أنا أفتح فاي بدالةٍ، واثقاً بمعونة من جهة المسيح، لأُخبر بجزء من الجهاد الطاهر الذي لهذا الشهيد البار ديسقوروس].

القديس ديسقوروس الشهيد:

[استُشهِد القديس ديسقوروس في زمان العرب، وكان من مدينة الإسكندرية. وحدث له ما دعا إلى خروجه من دين آبائه ودخوله في دين العرب. ومكث كذلك مدة من الزمان. فلما علمت أُخت له متزوِّجة بمدينة الفيوم بما صار إليه، أرسلت له قائلة: ”لقد كنتُ أشتهي أن يأتيني خبر موتك وأنت مسيحي، فكنتُ أفرح بذلك، ولا يأتيني خبرك بأنك قد تركتَ المسيح إلهك“. وختمت كلامها بقولها: ”واعلم أنَّ هذا الكتاب آخر صلة بيني وبينك. فمِن الآن لا تَعُد تُريني وجهك ولا تُكاتبني“.

فلما قرأ كتاب أُخته، بكى بكاءً مُرّاً ولطم وجهه ونتف لحيته، ثم قام مُسرعاً وشدَّ وسطه بزنار، وصلَّى مُتضرِّعاً بحرارة، ورشم نفسه بعلامة الصليب، وخرج يسير في المدينة. فلما أبصره الناس على هذه الحال، اقتادوه إلى الوالي، وهذا قال له: ”لقد تركتَ دين النصارى ودخلت في ديننا، فما الذي جرى؟!“. فأجابه (ديسقوروس) قائلاً: ”أنا وُلِدتُ مسيحياً وأموت مسيحياً، ولا أعرف ديناً غير هذا“.

فهدَّده (الوالي) كثيراً وضربه ضرباً موجعاً، فلم يرجع عن رأيه، فأودعه السجن، وأرسل إلى ملك مصر يعرض عليه حالته. فأمره أن يعرض عليه الخروج من دين النصارى والدخول في دين الملك. فإنْ أطاع، وهبه هبات جزيلة، وإلاَّ فيحرقه. فأخرجه من الحبس وعرض عليه الجحود، فأَبى قائلاً: ”لقد قلتُ سابقاً: "وُلِدتُ مسيحياً وأموتُ مسيحياً"“. فأَمَر بحرقه، فحفروا له حُفرة كبيرة خارج المدينة، وملأوها بالحطب وأوقدوها. ولمَّا علا لهيبها، طرحوه فيها بعد أن ضربه أهل البلدة ضرباً مُوجعاً وطعنوه بالسكاكين. فنال إكليل الشهادة في ملكوت السموات. صلاته تكون معنا، آمين].

القديس سيدهم بشاي:

كان القديس سيدهم بشاي قد نزل طرف أخيه سليمان بشاي بدمياط في النصف الأول من القرن التاسع عشر أثناء حُكم محمد علي، وذلك انتظاراً لاستلام حصة من الأخشاب من الميناء، ويبدو أنه كان هناك متَّسع من الوقت، وصل لعدة أيام، حتى يحين موعد تسليم البضاعة. فوجدها سيدهم بشاي فرصة سانحة لتمضية وقته في جوٍّ روحي. فكان يتردَّد بين الحين والآخر على الكنيسة التي كانت في ذلك الوقت عبارة عن مبنى صغير وسط مدافن الأقباط، يُحيطها سور عالٍ، وكان يقصدها الأقباط للصلاة خفية وهم يقولون: ”إننا ذاهبون ناحية السور“!!

وقد لوحظ القديس سيدهم بشاي وهو يتردَّد على الكنيسة جهراً، مِمَّا أثار غضب الغوغاء، وحاول أحدهم الاحتكاك به والقديس يسير في هدوء ورزانة دون أن يُعِير هذه الوقاحة اهتماماً.

وحينذاك تجمَّع حول القديس بعض الصبية والدهماء وهم يسبُّونه، ثم تصادَف مرور مُفتي المدينة، فسألهم عن سبب تجمهرهم. فشهدوا زُوراً أنَّ هذا الرجل قد سبَّ دينهم(1)، وازدرى به. فأخذ المُفتي واحداً منهم شاهداً، واقتادوا القديس سيدهم بشاي جَرّاً إلى المحكمة وهم يضربونه بعِصِي من الجريد وينتفون شعر لحيته. وتدخَّل المعلِّم ”بانوب فرج إبراهيم“ ليُخلِّص القديس من بين أيديهم، فأوسعوه ضرباً هو الآخر. ولم تمضِ بضعة أيام إلاَّ وقد تُوفِّي القديس المعلِّم ”بانوب فرج“ متأثِّراً بجراحه، ليُكلَّل مع صفوف الشهداء والقدِّيسين.

القديس سيدهم بشاي أمام القاضي:

وقف القديس سيدهم بشاي أمام القاضي مُتهماً بتهمة سبِّ الدين الإسلامي، فعَرَضَ عليه القاضي أن يترك دينه، وعندئذ سوف يعفي عنه. لكن القديس رفض بشدَّة إغراءات القاضي وعَرْضه المُغري. فأسلمه ليد جمهرة من الرعاع كانت واقفة خارج المحكمة، أحدثت شغباً عظيماً. وأمَّا المسيحيون فقد أغلقوا أبواب بيوتهم خوفاً من هتافات المتجمهرين التي كانت تُنادي بـ ”قتل النصراني الملعون“.

عذابات القديس:

قام المتجمهرون بجرِّ القديس على وجهه، وقد أشبعوه ضرباً بالقباقيب، ووضعوا في رأسه كرشة (أحشاء) خروف، ولطَّخوا جسده بالقاذورات، ووضعوا في جنبيه كلاَّبات من الحديد مُعلَّقاً بها قطع من اللحم، وربطوا معه كلبَيْن وقطة ليتصارعوا وينهشوا في لحمه. ثم أخذوا يزفُّونه في أنحاء البلدة وكأنهم أعدُّوه للذبح، وفي كل هذا كان القديس يصرخ قائلاً: ”يا طاهرة... يا يسوع“.

تجلِّي العذراء للقديس سيدهم بشاي:

كان القديس طيلة فترة تعذيبه، والتي قاربت أسبوعاً من 21 إلى 26 مارس، يُنادي ويتشفَّع بالقديسة الطاهرة العذراء مريم. وبعد كل ما لاقاه من عذابات، ألقوه أمام منزل أخيه سليمان بشاي، وهو قاب قوسين أو أدنى من حافة الموت. فتقدَّم أحدهم وسَكَبَ على وجهه قدراً من القَطْران المغلي.

وفيما هو يُعاني من سكرات الموت من جراء آلامه هذه، طلب من أحد أصدقائه أن يُحضِر كرسيّاً من الحديقة لتستريح عليه السيدة العذراء، وكان ذلك آخر يوم لعذابات القديس الشهيد سيدهم بشاي، ويوافق 26 مارس سنة 1844م، والذي انضمَّ فيه إلى محفل الشهداء والقديسين.

أثناء جنازة الشهيد سيدهم بشاي:

أدان قناصل الدول الأجنبية الحادث، بل وكانت هناك بعض القِطَع البحرية الحربية رابضة في ميناء دمياط على أُهبة الاستعداد للتدخُّل العسكري! خاصةً وأنه كانت هناك اعتداءات مُماثلة على قناصل الدول الأجنبية.

ورغبةً في تهدئة النفوس الثائرة، أَمَرَ الوالي محمد على باشا بتشييع جنازة القديس رسمياً، حيث تُرفَع خلالها الأعلام والصُّلْبان(2)، وسار الكهنة أمامه في الجنازة بملابس الخدمة الكهنوتية، كما عُزِلَ المحافظ والمفتي والقاضي من مناصبهم بأَمْر محمد على باشا والي مصر في ذاك الوقت، عقاباً لهم على حدوث هذا التصرُّف البشع. كما شاهَد جماعة بعد ذلك عموداً من نورٍ يسطع فوق قبر القديس(3).

ترنيمة الشهداء:

[بـدم شهدائك، أيها المسيح إلهنا، تتزيَّـن كنيستك في كل العالم، كما بالأرجوان والكتان الرقيق، مثل باكورة ثمار الطبيعة نحو بستاني الخليقة، فإنَّ الأرض المسكونة تُقدِّم لك، يا رب، الشهداء](4).

كنيسة الشهداء أمٌّ ولود:

إنَّ تدوين سِيَر الشهداء والقديسين أَمْرٌ اهتمت به الكنيسة منذ القرون الأولى وحرصت على أن تتلو على مسامع المؤمنين سِيَر القدِّيسين وحياتهم، لا بقَصْد تدوين تاريخ الآباء كعملٍ تاريخي، ولكن لنتنسَّم رائحة المسيح الذكية مِمَّن تبعوا واقتفوا آثـار ربنـا يسوع المسيح، كقـول الكتاب: «انظروا إلى نهاية سيرتهم وتمثَّلوا بإيمانهم» (عب 13: 7).

الشهداء الجُدُد في تاريخنا الحديث:

وبينما نحتفل بعيد استشهاد هؤلاء القدِّيسين الذين سُفكت دماؤهم شهادة لاسم ربنا يسوع المسيح، نزفُّ إليهم أيضاً واحداً وعشرين شهيداً جديداً، هم الشهداء الأقباط الذين ذُبحوا في ليبيا، والذين يُشاركون المجمع السمائي تسبحة الغلبة والخلاص، هؤلاء الذين ظفروا بإكليل المجد وصارت دماؤهم شهادة حيَّة للمسيح.

سلاماً لأرواحكم أيها الشهداء القدِّيسون، أنتم الذين قدَّمتم أعظم تقدمة، وعبَّرتُم عن محبتكم للمسيح، لا بعطية مادية، ولا بمالٍ زائل، بل بأرواحكم ودمائكم كتبتُم سيرتكم في السموات. طوبى للأرض التي تخضَّبت بدمائكم، وعاينتْ تلك الساعة المُباركة التي انطلقت فيها أرواحكم نحو عريسها السماوي، وهي في أسمى الدرجات، وأعلى مراتب القدِّيسين، لتصيروا شُفعاء عن تلك الأراضي القفرة، وتكـون دماؤكم بذار كنيسة المسيح ولانضمام جماعة جديدة من المؤمنين.

اطلبوا مـن الـرب عنَّا أيها القديسـون ديسقوروس الجديد، وسيدهم بشاي، والواحد والعشرون شهيداً بليبيا، ليتراءف الله علينا ويغفر لنا خطايانا، آمين.


(1) كانت هذه التُّهمة كفيلة بموجبها أن يُحكَم بالقتل على مَن ارتكبها، وقد أُلصِقَت بكثير من المسيحيين لمعرفة أنها تهمة قوية وسريعة المفعول. وهناك شواهد لأحداث أخرى مُطابقة لنفس ذاك الحدث (انظر: الكندي: ”الولاة والقضاة“، ص 382؛ أ.د/ سيدة اسماعيل الكاشف، ”مصر الإسلامية وأهل الذمة“، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص 142).
(2) كان قد صَدَر أَمْرٌ من الخليفة هارون الرشيد يمنع فيه المسيحيين من دق الناقوس، وتحريم سير الجنازات في السوق، ورَفْع الصُّلْبان أمامها (أ.د س. ترتون، ”أهل الذمة في الإسلام“، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثالثة، 1994م، ص 116).
(3) القمص بيشوي عبد المسيح، ”القديس سيدهم بشاي“، الناشر: مطرانية دمياط وكفر الشيخ وبلقاس والبراري، مارس 1987م.
(4) من ترانيم الكنيسة اليونانية للشهداء.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis