سيرة توبة


مثال يُحتَذَى
بالصلاة والمثابرة من أجل عودة الابن الضال
القديس هيلاري أسقف أرلز بفرنسا

+ «مَن ردَّ خاطئاً عن ضلال طريقه، يُخلِّص نفساً من الموت، ويستر كثرة من الخطايا» (يع 5: 20).
+ «والذين ردُّوا كثيرين إلى البرِّ، كالكواكب إلى أبد الدهور» (دا 12: 3).

هذه قصة لأحد قدِّيسي الكنيسة الغربية(1)، كافح بالصلاة والنُّصح والمحبة المُخْلِصة حتى أنقذ شاباً من براثن العدو والهلاك الأبدي، لعلَّنا نقتدي بها لإنقاذ شباب أيامنا الصعبة هذه من هذا الجيل المعوج الذي يجرُّ بعضه بعضاً إلى الهاوية! وقديسنا اسمه ”هونوراتس“، وغنيمته التي ربحها للمسيح اسمه ”هيلاري“ الذي صار فيما بعد هو أسقف ”أرلـز“ بفرنسا. وعاش كـلاهما في أوائل القرن الخامس الميلادي.

مَن هو القديس هونوراتس؟

كان من أسرة رومانية نبيلة وثنية تعيش في بلاد الغال (فرنسا)، وغير معروف تاريخ أو مكان ولادته بالتحديد، ولكن من المعروف أنه عاش في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس. وفي شبابه ترك عبادة الأوثان، كما ربح للمسيح أخاه الأكبر ”فينانتيوس“. ثم عاشا معاً تحت إرشاد أب روحي اسمه ”كابراسيوس“، الذي بموافقته، أبحرا من ميناء مارسيليا الفرنسي إلى اليونان، لكي يعيشا هناك غير معروفَيْن في إحدى الصحاري. ثم توفِّي أخـوه سريعاً، فعاد هونوراتس إلى بـلاده، ولكنـه استقرَّ في جزيـرة صغيرة مجاورة اسمها ”ليران“ Lérins، وهي تُـدعى الآن جزيـرة ”سـانت هونورا“ St. Honorat من اسم القديس. ولما تبعـه آخـرون، أسَّس هناك ديـر لـيرنز المعروف نحو عام 400م.

وقد أَخذ نظامه الدَّيْري عن نظام الشركة للقديس باخوميوس المصري، وقد ترك لنا القديس هيلاري أسقف أرلز - وكان أحد رهبان هذا الدير – وصفاً لفضائل مجمع الشركة هذا، ولا سيما المحبة وتكريس القلب للرب اللذان سادا على الرهبان، وبالتالي الحياة المُباركة والسعيدة التي كانوا يعيشونها.

وقد أُخِذَ من هذا الدير عددٌ كبير من القدِّيسين لكي يحملوا مسئولية الأسقفية في أماكن عديدة، وهم الذين بقداستهم وعلمهم أناروا الكنيسة في بلاد الغال وإيبارشيات أخرى في أوروبا.

وكان الشاب هيلاري يمتُّ بصِلة قرابة للقديس هونوراتس، الذي سعى مُجاهداً إلى توبته وتغيير حياته، ولذلك فقد ترك جزيرته ”ليرنز“ المُفضَّلة لفترة قصيرة لكي يردَّ هذا الخروف الضال. وقد أعطاه الرب سؤل قلبه بعد صلواتٍ وأتعابٍ كثيرة معه.

ثم أُجبر القديس هونوراتس على رسامته بالإكراه أسقفاً لمدينة ”أرلز“ في جنوب بلاد الغال نحو عام 426م. فأَخَذَ معه تلميذه هيلاري، الذي فضَّل أن يعود بعد فترة قصيرة إلى ديره. ولم يستمر القديس هونوراتس في أسقفيته سوى ثلاث سنوات، إذ توفِّي سنة 429م، متأثِّراً بتقشفاته الصارمة.

وقد ألقى القديس هيلاري كلمة رثاء في الذكرى السنوية الأولى لانتقال القديس هونوراتس، ألقاها على شعب إيبارشية ”أرلز“ التي صار هو أسقفاً لها بعد نياحة القديس هونوراتس. ويُرجَّح أن ذلك كان يوم 18 يناير سنة 430م، وهي تُعتَبَر المصدر الرئيسي لسيرة القديس هونوراتس. وقد أكَّد فيها هيلاري أنَّ خطابات مُعلِّمه كانت مؤثِّرة ومليئة بالرقَّة والعذوبة. وقد نُقِلَت رفات القديس هونوراتس من أرلز إلى ليرنز سنة 1391م.

ومَن هو ابنه الذي كان ضالاً فوُجِدَ؟

هو القديس هيلاري أسقف ”أرلز“. وقد وُلد في إحدى مدن شمال بلاد الغال (فرنسا) عام 401م على الأرجح. وكان من أسرة مرموقة، كما كان موهوباً ذهنياً، وقد حصل على قسطٍ وافر من التعليم. وعندما ترك القديس هونوراتس ديره لكي يسعى إلى خلاص هذا الابن الضال، كان هيلاري في العشرينيات من عمره، وكان يبدو موصَد القلب بإحكام أمام كل توسُّلات الأب هونوراتس ومخاوفه عليه من الهلاك الأبدي. ولما اصطدم القديس بعناد هيلاري، قال له وهو يودِّعه: ”هذا الذي لا تريد أن تُعطيني إيَّاه (أي توبة هيلاري)، سيُعطيني الله إيَّاه“.

وقد استُجيبت صلوات القديس سريعاً، إذ أنَّ هيلاري بعد يومين أو ثلاثة أيام من تلك المقابلة الأخيرة، وَجَدَ نفسه ضحية صراع داخلي عنيف، حيث قال عن نفسه: ”شعرتُ، من ناحية، أنَّ الربَّ يدعوني؛ بينما، من الناحية الأخرى، كانت إغراءات العالم تجذبني إلى الوراء. وكانت إرادتي تتأرجح متمايلةً تارةً إلى الوراء مستسلمةً، وتارةً أخرى إلى الأمام رافضةً العالم... ولكن، أخيراً، انتصر المسيح فيَّ“!

وبمجرد أن عزَمَ هيلاري نهائياً على اتِّباع الرب، لم يَعُدْ ينظر إلى الوراء على الإطلاق. فقد باع ميراثه، ووزَّع ثمنه على الفقراء، ثم رافق القديس هونوراتس في ليرنز. ولما رُسِمَ مُعلِّمه أسقفاً لمدينة أرلز، اصطحبه معه. ولكنه عاد - كما ذكرنا آنفاً - إلى ديره؛ إلاَّ أنَّ القديس هونوراتس استدعاه بعد سنتين، وهو على فراش الموت. وبعد انتقال القديس هونوراتس، حاول هيلاري أن يعود إلى ديره، ولكن الشعب أمسك به وأَجبره على الرسامة أسقفاً خلفاً لمُعلِّمه.

وقد علمنا من سيرة القديس هيلاري، التي كتبها أحد المُعجبين به بعد رقاده، أنه كان صارماً مع نفسه، قويّاً في شخصيته، مُتقشفاً ومُحِبّاً لحياة الفقر، ومُحبّاً للعمل الذي يكتسب منه ما يُساعد به الفقراء. ورغم تقشفاته، إلاَّ أنه كان يُباشر بكل طاقته الجبَّارة جميع واجبات الأسقفية. وقد ذَكَرَت سيرته أنه انتقل من العالم سنة 449م، عندما بلغ عمره نحو تسعة وأربعين عاماً.

مشاعر القديس هيلاري

بخصوص توبته وبخصوص مُعلِّمه:

إليك أيها القارئ العزيز مقتطفات من كلمة القديس هيلاري في ذكري نياحة مُعلِّمه:

+ بينما أستعيد ذِكرى خدماته العظيمة للجميع، أتوقَّف عند اهتمامه الفائق الذي أبداه نحوي، والذي جلب لي الخلاص في المسيح... لأنه بسببي لم يستنكف من أن يقترب من موطنه الأصلي الذي كان قد هجره، ولا هو اشمأز من إجهاد رحلة طويلة ومُكدِّرة له، ولا سيما بسبب الأمراض التي حلَّت به لمدة طويلة. وحتى في تلك السنين عندما كنتُ متآلفاً مع العالم وصُلْب الرقبة تجاه الله،، فإنه بإغرائه المُخْلِص، حوَّلني بيده اللطيفة إلى حبِّ المسيح...

ولكن عندما لم يترك كلامه في مسامعي سوى انطباعٍ قليل، اتَّجه إلى ملجئه المُعتاد: الصلاة؛ فاقتحَمَتْ صرخاته المُمتلئة بالمحبة أُذُنَي الله حتى وصلت إلى قلب رحمته، وإنْ كانت قد لاقت صدّاً من قساوة قلبي. ورغم أنني كنتُ أُصارع، وكنتُ ميَّالاً إلى طريقة حياتي الدنياوية الخَطِرَة جداً حتى أنني كنتُ أحياناً أُثبِّت عنادي بقَسَمٍ؛ فقد نطق هذا القديس مُبكِّراً بروح نبويَّة قائلاً: ”إنَّ هذا الذي لا تريد أن تُعطيني إيَّاه (أي توبتي)، سيُعطيني الله إيَّاه“!

كما ناضَل هذا الأب لكي يُليِّن قلبي بفيضٍ من الدموع! بأيَّة قُبُلات ومعانقات مقدَّسة صارَع معي لأجل خلاصي! ثم تعاهَدَتْني يمين الله لامتحاني وإذلالي، لأن القديس سلَّمني لله في صلاته... حينئذٍ، أيُّ وابلٍ من الشهوات المتعدِّدة والمتلاطمة قد ثارت أمامي! كم مرة تلاحَقَت الرغبة وعدم الرغبة كلاهما في قلبي!... ولكنه بينما كان غائباً، عَمِلَ المسيح عمله في داخلي. ففي غضون يومين، بصلواته وبرحمة الله، قُهِرَ عنادي. حينئذٍ طار النوم من عينيَّ بسبب أفكاري، وبينما كان الربُّ الصالح يدعوني، كان العالم كله بجميع مسرَّاته يقترب ويلتصق بي. وكنتُ أُفكِّر في قلبي - وكأنني كنتُ في مشاورات مع صديق - متسائلاً: ”أيُّ طريقٍ يُستَحسَن أن أتَّخذه، وأيُّ طريقٍ أنبذه“؟!

بفضلك أنت يا يسوع الصالح، بفضلك أنت الذي حرَّكَتْكَ توسُّلات خادمك القديس هونوراتس المُباركة، قد حطَّمتَ قيودي وقيَّدتَني بأغلال حُبِّك، هذه التي إذا داومتُ على التقيُّد بها (أي أغلال حُبِّك)، فإنَّ قيود الخطية لن تستعيد قوَّتها عليَّ مرَّة أخرى. وهكذا، فإنني أنـا الذي تركتُه بكبرياءٍ، قـد عُـدتُ إليه طائعاً... وهكذا أخضَعَتْ صلوات القديس العنيدين وأَسَرَت المتمرِّدين.

بأية دموع روى القديس حينئذ نفسي العقيمة! بأيِّ بكاء مقدَّس جاء بي أنا أيضاً إلى الدموع!... وهكذا اقتادني معه أنا غنيمته، وكان يغمره الفرح وشعور النصرة والتهليل... وقد غذَّاني أولاً باللبن ثم بعد ذلك بالطعام. لقد أعطاني أن أشرب من ينبوع الحكمة السماوية المتدفِّق الذي كان بداخله. وكانت رغبته أنَّ روحي ذات الآفاق الضيِّقة تأخذ بقدر ما كافَح هو لكي يزرع فيها. وفي الحقيقة، إنه كان حينئذ يعدُّني لأجلكم، ودون أن يدري كان يعمل على إقامة مَن يخلفه... حقّاً كم أنه بلُطفه جعل نِير المسيح الخفيف أكثر خفَّةً بالنسبة لي!... وماذا أقول عن كلِّ ذلك سوى أن أتذكَّر كلام النبي: «ماذا أردُّ للرب من أجل كل حسناته؟» (مز 116: 12)


(1) مرجع هذا المقال: The Fathers of the Church, Vol. 15; Butler's, Lives of the Saints

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis