دراسة الكتاب المقدس


مقدِّمات الأسفار
- 7 -
أسفار العهد القديم
أسفار موسى الخمسة: البنتاتيوش

”البنتاتيوش“ ? ??????????? = Pentateuch: هو الاسم اليوناني لأسفار موسى الخمسة، أما الاسم العبري فهو ”التوراة“ أي ”الناموس“. ولم يَرِد صراحة اسم كاتبها، شأنها في ذلك شأن بقية أسفار العهد القديم التاريخية. إلاَّ أن التقليد اليهودي ينسبها جميعها إلى موسى النبي. أما الأجزاء التي قد نُصَّ فيها صراحةً على أن موسى هو كاتبها فهي:
1. كتاب العهد الذي تعاهَد به الله مع بني إسرائيل في برية سيناء (خر 24: 7،4).

2. بعض كلمات العهد التي طلب الله من موسى أن يكتبها: «لأنني بحسب هذه الكلمات قطعت عهداً معك ومع إسرائيل» (خر 34: 27).

3. قائمة مراحل خروج بني إسرائيل وتنقُّلاتهم في البرية (عد 33: 2).

4. كتاب التوراة (الناموس) الذي كتبه موسى في سهول موآب (تث 31: 9-11، 24-26).

5. ترنيمة موسى (تث 31: 1-44).

وقد ظنَّ بعض المحدثين أنه ربما يمكن العثور على آثار تُثبت أنَّ موسى هو كاتب هذه الأسفار الخمسة، وأنها تضمُّ مستندات أخرى قديمة، بجانب الآيات القليلة التي ذُكِرَت سابقاً، وتلك التي جاءت في سفر العدد في (31: 15،14، 27-30).

ويقولون إنَّ هذه المستندات يمكن تمييزها عن بعضها البعض بواسطة التغيُّر الذي يطرأ على استخدام الاسم المُعبِّر عن ”الله“ في سفر التكوين. فمثلاً قال بعض المفسِّرين النُّقَّاد: إنه توجد قصتان للخليقة وقصتان للطوفان. كما أنَّ بعض الأصحاحات جاء بها اسم الله بالجمع ”إلوهيم“، وكان هو السائد؛ بينما جاء اسم ”يهوه“ في البعض الآخر من الأصحاحات.

والواقع أنه ليس أمراً سهلاً أن نحصل على تاريخ دقيق لكُتب مثل هذه غاية في القِدَم، مثل كُتب التوراة، ولو أن الاكتشافات الأدبية تُعيننا بعض الشيء.

ومِمَّا لا شكَّ فيه أن موسى النبي قد أُلهم لكتابة سفر التكوين أو تجميع حقائقه، وليس هناك ما يمنعنا أن نفترض أنَّ الآباء البطاركة الأوائل الذين عاشوا وعمَّروا مئات السنين، قد قاموا بتسجيل معاملات الله معهم، وسلَّموها لسلالتهم للانتفاع بها. وبهذه الطريقة نستطيع أن نُدرك كيف أمكن لموسى أن يحصل بسهولة على مادته التي دوَّن بها سفر التكوين. أما الكُتب الأربعة الباقية، فتختص بالأحداث التي عاصرها وجَرَت في عهده، والتي تتعلَّق به شخصياً.

وقد كان فن الكتابة معروفاً منذ زمنٍ بعيد، كما أنه هناك أكثر مـن سبب يدعونا إلى الاعتقاد بأنه كان لموسى كَتَبَة مُتخصِّصون، كان عملهم هو الاحتفاظ بسِجِلٍّ دقيق لكل الطقوس والأنظمة والأحداث التي يُسلِّمها لهم موسى بواسطة الوحي الإلهي لمنفعة الأجيال القادمة.

أما إذا اتَّبعنا تيار النقد التحليلي، فإنه سوف يقودنا إلى سبيل أبعد عن الحقيقة. ولكن يجب أن نكون متريِّثين في قبول آراء أولئك الذين يرجعون بتاريخ كتابة الأسفار الخمسة إلى زمنٍ متأخِّر، بعد أيام موسى بكثير.

وعلى ذلك فإنه يمكننا بكل تأكيد اعتبار هذه الأسفار في مجموعها أنها ”أُعطِيَت على يد موسى“، بالرغم من ملاحظات المُصنِّفين أو المراجعين المتأخِّرين التي يمكن العثور عليها هنا أو هناك؛ كما أنَّ هذه الأسفار كلها يمكننا قبولها الآن بشهادة ربنا ورُسله باعتبارها أسفار موسى وأنها كلمة الله بالحقيقة(1).

أما تقسيم أسفار موسى إلى خمسة كُتب، فهو تقسيم قديم بقِدَم الكُتب، كما تعتقد الكنيسة. وقد أُخذت أسماؤها من الترجمة السبعينية، وهي الترجمة اليونانية التي تمَّت في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد. أما أسماؤها في العبرية، فمشتقٌّ من الكلمة الأولى لكلِّ سِفْرٍ منها.

السِّفْر الأول لموسى النبي: سفر التكوين

”التكوين“ هو الاسم المُشتق من اليونانية: Genesis = ???????، ومعناه: ”الوجود من العدم أو النشأة أو الخِلقة“. وهو السِّفْر الأول من أسفار موسى الخمسة الذي يتكلَّم عن خلقة كل الأشياء، فهو سفر البدايات. وفي العبرية يُسمَّى باسم ”بريشيث“: Berêshith أي ”في البدء“، وهي أول كلمة يبدأ بها السفر.

ومع أنَّ هذا السِّفْر يبدأ بالخلقة والتاريخ البدائي للإنسان، إلاَّ أن هذه الموضوعات ليست سوى مدخلٍ لتاريخ الجنس العبري وبداية تاريخ أبينا إبراهيم أبي الآباء وذُريته باعتبارهم الشعب المختار الذي اختاره الله لإقامة عهد مقدس معه. فمِن بين جميع عائلات الأرض اختار الله إبراهيم بن تارح لتتبارك فيه جميع أُمم الأرض. وإبراهيم سلَّم الدعوة لابنه إسحق ”ابن الموعد“. ثم انتقلت الدعوة لتكون من نصيب يعقوب دون عيسو الابن الأكبر لإسحق. وكذلك يعقوب بدوره لم يُعطِ بركته لبِكْره رأوبين، بل أعطاها ليهوذا وليوسف الذي أيضاً صار ابنه الأصغر أفرايم مُفضَّلاً على منسَّى. أما أقسام الكتاب فهي:

1. العالم القديم: ويشمل: الخِلقة، السقوط، الطوفـان، تشتُّت الجنس البشري على الأرض (ص 1-11).

2. إبراهيم: دعوته، وخروجه من أرضه وعشيرته، إيمانه، والوعد المؤكَّد له من الله ثلاث مرات، والذي سُمِّي بالميثاق في (تك 15: 18)، والذي تكرَّر في الأصحاحات (من 12-25: 11)، والمتمثِّل في قوله له: «بإسحق يُدعى لك نسل».

3. إسحق وانتقال البكورية ليعقوب (ص 25: 12-36: 34).

4. يعقوب وعائلته: وقصة يوسف ونزول بني إسرائيل إلى مصر حتى موت يعقوب ودَفْنه في فلسطين (ص 37-50).

وقد كان هذا السِّفْر المُبجَّل أساساً يُعتَمَد عليه في سائر أسفار الكتاب المقدس كله، لأنه يتضمن البدايات. فأصحاحاته الأولى تتكلَّم عن أصل السماء والأرض وإعداد العالم ليكون مسكناً للإنسان سيِّد الخليقة كلها، الذي خلقه الله على صورته ومثاله.

وقد تعرَّضت هذه الأصول للفحص الدقيق في ضوء العلوم الطبيعية، مع أنَّ الهدف منها روحيٌّ بحت وليس علميّاً، لكي تقودنا إلى تحسُّس يد الله في كل نظام الكون، ولا سيما الكوكب الذي نعيش عليه.

أما قصة سقوط الإنسان، فبالرغم من أنها تبدو لبعض الباحثين كأنها مَثَلٌ، إلاَّ أنَّ كلَّ الأسفار التي أتت بعد سِفْر التكوين قد قطعت بحزم في حقيقتها الواقعية المعلومة عند الله منذ الأزل والمبنيَّة على حكمته ومحبته للإنسان كما قال بولس الرسول: «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قدِّيسين وبلا لوم قُدَّامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرَّة مشيئته» (أف 1: 5،4).

أما حادثة الطوفان فيمكن استجلاؤها من تقاليد الشعوب التي تبدَّدت من زمنٍ بعيد، كما أنها من أكثر الحوادث التي أسهب الكتاب في شرحها بالتفصيل أكثر من غيرها، وهي نقية تماماً من كل معضلة لاهوتية. وقد أسهب الآباء في تفسيرها واعتبارها إشارة للمعمودية وبداية الخليقة الجديدة بعد الطوفان، إلاَّ أنها لا تستنكف عن أن تذكر أيضاً خَبَر سُكر نوح بالخمر ولعنة كنعان مِمَّا يدلُّ على نقاوة السَّرْد وصفاته وطبيعته النبويَّة.

أما الأصحاح العاشر الذي يُعدِّد العائلات أو الأُمم والأجناس التي خرجت من نسل نوح، فإنه يُعتَبَر أقدم مستند معروف لعلم الأجيال الوصفي، كما يكشف الأصحاح الحادي عشر عن سرِّ تفوُّق البشر، وتعدُّد لغاتهم ومعارفهم ومشاربهم.

ومن الأصحاح الثاني عشر فصاعداً نخرج من الحقبة السحيقة في القِدَم إلى المرحلة من التاريخ القريبة مِنَّا نوعاً ما، والأكثر تتابُعاً في أحداثها، والتي يمكن استجلاء أخبارها من الأبحاث في علم الحفريات والجيولوجيا الخاصة ببلاد مصر وأشور.

ولا شكَّ أنَّ هذا السِّفْر يُهيِّئ لنا مادة غزيرة للاستقصاء عن طبيعة الأديان والأخلاق، والحقوق والواجبات والعادات الاجتماعية للإنسان الأول الطبيعي قبل الناموس. وهو يحوي أيضاً وعوداً إلهية بعضها قد تحقَّق في أيام موسى (تث 1: 9،8): «ادخلوا وتملَّكوا الأرض التي أقسَمَ الربُّ لآبائكم إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يُعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم»؛ والبعض الآخر بَقِيَ مُعلَّقاً حتى تحقَّق في شخص المسيح له المجد وحلول الروح القدس على المؤمنين من بني إسرائيل ومن الأُمم في العالم أجمع: «والكتاب إذ سبق فرأى أنَّ الله بالإيمان يُبرِّر الأُمم، سبق فبشَّر إبراهيم أنَّ ”فيك تتبارَك جميع الأُمم“» (غل 3: 8). وإنه لممَّا يستحق الانتباه أيضاً تلك البركات النبويَّة التي نطق بها يعقوب على أسباط إسرائيل الاثني عشر في (تك 49).

السِّفْر الثاني لموسى النبي: سفر الخروج

ويُدعى هذا السِّفْر باليونانية Exodus = ??????، ومعناه: ”الهجرة أو الن‍زوح“. أما اسمه بالعبرية فهو ”واليه شيموث“ Weélleh Shemoth أي: ”وهذه أسماء“، وهما الكلمتان اللتان بدأ بهما السِّفْر. وهو يتعلَّق بخروج بني إسرائيل من أرض مصر، وتحريرهم من العبودية بيدٍ قوية، والإبرام المهيب للعهد العتيق في برية سيناء. وعلى هذا فإنه يمكن تقسيم السِّفْر إلى الأقسام التالية:

1 - الخروج من مصر: ويتضمن: عبودية بني إسرائيل للمصريين، إرسالية موسى لإخراجهم، الصراع بين فرعون وإله إسرائيل، الخروج العظيم وعبور البحر الأحمر، والرحيل إلى سيناء (ص 1-8).

2 - العهد: الذي أُبرِم بين الله وبني إسرائيل، ويبدأ بالوصايا العشر، والقوانين الأساسية المتضمَّنَة في ”كتاب العهد“ (ص 20-24)، ثم حادثة عبادة العِجْل الذهبي، وتشفُّع موسى لأجل شعبه، ثم توصيات أخرى. وأخيراً، بناء خيمة الاجتماع: مكان سُكنى الله في وسط شعبه تمهيداً لتجسُّده واتحاده بنا في ملء الزمان (ص 19-40).

ونرى في هذا السِّفْر كيف أصبحت الأُسرة أُمَّةً، لكي تُكمِل رسالتها التي من أجلها وُجِدَت، وهي: «فالآن إنْ سمعتُم لصوتي وحفظتُم عهدي، تكونون لي خاصةً من بين جميع الشعوب. فإنَّ لي كلَّ الأرض. وأنتم تكونون لي مملكةَ كهنةٍ وأُمَّةً مقدسة» (خر 19: 6،5).

لذلك، فسفر التكوين مُتضمَّن في هذا السفر، كما أنه يُشار إليه بكثرة في الأجزاء الأخيرة من الكتاب المقدس. ولقد تأكَّد الجزء القصصي التاريخي من السفر بواسطة الأبحاث الأثرية في مصر وشِبْه جزيرة سيناء على وجه الخصوص.

وقد ذُكِرَت قصة الخروج بكل تفصيل وبأسلوب تصويري رائع، حتى أنه يمكن متابعتها خطوة فخطوة، على الرغم من أنه لا يمكن الجَزْم بالتاريخ المُحدَّد لهذا الخروج، أو تحديد أي الأُسرتين الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة لحُكْم الفراعنة التي تمَّ فيها هذا الخروج.

ومن المحتمل أن يكون الإسرائيليون قد نزلوا من ”وادي توميلات“ إلى منطقة البحيرات المُرَّة ومنها إلى شاطئ بحر سوف (البحر الأحمر).

ولقد انفتح لهم طريق للعبور في وسط البحر بقوةٍ إلهية، ولكنه انسدَّ في وجه المصريين الذين تبعوهم. وكان في الإمكان أن يجتازوا من ”آبار موسى“ إلى ”وادي الراحة“ في عشر رحلات يبلغ طول كل منها 15 ميلاً، حيث كان يمكن أن يستقرَّ الشعب مباشرة أمام جبل موسى (مقابل ”دير سانت كاترين“).

ويُلاحَظ عند دراسة الوصايا التشريعية في السِّفْر، أنه يجب التفريق بين الوصايا العشر التي هي في الواقع تـأكيد للشرائع الطبيعية، وبين الأحكام أو التنظيمات التي وردت في الأصحاحات من 21 إلى 23.

أما التوجيهات المُتقنة والتنظيمات الدقيقة الخاصة بخدمة خيمة الاجتماع، فإنها تُكوِّن ما يمكن أن نُسمِّيه مرحلة جديدة لاختبار مدى كَرَم هذا الشعب وولائه في بناء بيت الله، تمهيداً لإعداده وتدريبه لمرحلةٍ أسمى.

كما أنَّ حادثة عبادة العِجْل الذهبي تُبيِّن لنا، ليس فقط مدى الانحدار والتدهور لطبيعة هذا الشعب، ولكنها تؤكِّد لنا أيضاً مقدار الصراحة والدقة في سَرْد تلك الأحداث التي سجَّلت مثل هذا التاريخ غير المُشرِّف، وبالأخص عن هارون الأخ الأكبر لموسى النبي.

فما أعجب طبيعة تذبذُب الإنسان وضعفه!

(يتبع)


(1) انظر كتاب: ”شرح سفر التكوين، سفر البدايات“، دير القديس أنبا مقار، المقدمة.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis