بمناسبة الصوم الكبير


تجارب المسيح وتجاربنا
- 2 -

+ في الجزء الأول من المقالة (عدد فبراير 2015، ص 18)، تحدَّثنا عن معنى كلمة ”تجربة“ في الكتاب المقدس، ثم عن التجارب الثلاث التي جُرِّب بها الرب من إبليس، وعن المغزى الروحي من التجارب الثلاث، ثم تطرَّقنا إلى أنَّ الربَّ قد جُرِّب لكي يُعين المجرَّبين. ونستكمل في هذا العدد الحديث عن تجارب المسيح وتجارب المؤمنين به.
القوة التي يمنحها الرب للمؤمنين به

لاحتمال التجارب:

لم يوعَد المسيحيون بإعفائهم من التجارب، بل وُعِدوا بالقوة على احتمالها وعدم السقوط تحت وطأتها، هذا إذا طلبوا هذه القوة على الاحتمال (انظر مثلاً 1كو 13:10). والمسيح نفسه منذ تجسُّده تحمَّل كل أنواع التجارب: «لأنه فيما هو قد تألَّم مُجرَّباً يقدر أن يُعين المجرَّبين»، «ليس لنا رئيس كهنة غير قادرٍ أن يَرثي لضعفاتنا، بل مُجرَّب في كل شيء مثلنا، بلا خطية» (عب 18:2؛ 15:4).

وللقديس غريغوريوس اللاهوتي (329-390م) كلمة نافعة في ذلك، إذ يقول:

[ينبغي ألاَّ نتوقَّع أن المعمودية تعفينا مـن التجارب التي تأتينا مِن الذي يضطهدنا. فحتى الجسد الذي كان يُخفي كلمة الله صار هدفاً للعدو، واتخاذه لهيئةٍ منظورة جعل حتى النور غير المنظور موضعاً لمهاجمة الشيطان. ومع ذلك فحيث إنَّ لدينا الوسائل التي في متناول أيدينا للتغلُّب على عدونا، فلا يجب أن نخاف من الصراع...

افترض أنَّ المُجرِّب يجعلنا نشعر بحرمان الفقر - كما فعل حتى مع المسيح - وينتهز فرصة جوعنا ويتكلَّم عن تحويل الحجارة إلى خبز، فلا ينبغي أن نُخدَع بل فلنجعله يعلم ما لم يُدركه بعد: فلْنَصُدَّ هجومه بكلمة الحياة، بالكلمة الذي هو الخبز النازل من السماء والمُعطي حياةًً للعالم!

ربما يحاول (المُجرِّب) أن يوقعنا في شَرَكٍ بواسطة غرورنا في أنفسنا، كما حاول ذلك مع المسيح عندما أخذه إلى جناح الهيكل وقال: ”برهِن على لاهوتك وأَلْقِ بنفسك إلى أسفل“. فلنحترس من الاستسلام للكبرياء، لأن المجرِّب لن يتوقَّف بأيِّ حال عند أحد انتصاراته، فهو لا يشبع إطلاقاً بل يظل يُلاحقنا على الدوام. وكثيراً ما يغشُّنا بأيِّ شيء صالح ونافع، ولكن نتيجته دائماً شريرة، وهذه هي ببساطةٍ طريقته في شنِّ الحرب.

كما نعلم أيضاً كيف أن الشيطان متضلِّعٌ جداً في الكتاب المقدس، فعندما ردَّ المسيح على تجربة تحويل الحجارة إلى خبز بتوبيخه بما جاء في الكتاب المقدس مستهلاًّ إياه بقوله: «مكتوبٌ»، واجهه الشيطان بنفس الكلمة عندما جرَّبه بأنْ يُلقي نفسه من جناح الهيكل قائلاً: «لأنـه مكتوبٌ: أنه يُوصي ملائكته بك، فعَلَى أياديهم يحملونك» (مت 6:4). أيها الأستاذ القديم المتمرِّس في كل شرٍّ، لماذا تُخفي الآية التالية؟ إنك لم تنتهِ بعد من الآيات المقتبسة، ولكنني أعلم جيداً ما الذي يعنيه ذلك: هو أننا سندوس عليك كما على أفعى أو كوبرا (أو الصَّل)، وأننا - ونحن محفوظون بالثالوث القدوس - سنطأك كما على الحيَّات والعقارب.

وإذا حاول المُجرِّب أن يهزمنا بواسطة الجشع، مُظهِراً لنا في لمحةٍ واحدة جميع ممالك العالم - وكأنها مِلْكٌ له - طالباً أن نخرَّ ونسجد له، فيجب أن نزدري به لأننا نعلم أنه محتالٌ مُفْلس. فكلٌّ منَّا - نحن الذين تقوَّينا في معموديتنا - يمكنه أن يقول: ”وأنا أيضاً قد جُبِلْتُ على صورة الله، ولكنني - بخلافك أنت - لم أَصِرْ بعد مطروداً من السماء بسبب كبريائي. لقد لَبِستُ المسيح وأصبحتُ - بواسطة معموديتي - واحداً معه. فأنت الذي يجب أن تنطرح أمامي“. وأمام هذه الكلمات فقط يمكن أن يستسلم وينسحب بخزي. وكما تقهقر أمام المسيح نور العالم، هكذا يُفارِق الذين استُنيروا بهذا النور. هذه هي العطايا التي تُمنَح بواسطة المعمودية للذين يُدركون قوتها، هذه هي الوليمة الدسمة التي توضع أمام الذين يجوعون إلى أمور الروح](1).

بعض الأسئلة التي تدور حول التجارب:

+ ويثير البعض أسئلةً بخصوص ما إذا كان الشيطان حَمَل المسيح فعلاً وأصعده إلى جناح الهيكل؟ وهل أخذه فعلاً إلى جبلٍ عالٍ وأراه ممالك هذا العالم كله؟ وهل تُفسَّر هذه الخبرات رمزياً أم حرفياً؟

+ يرى البعض أنَّ فيها مزيجاً من كليهما، حيث إنهم يَرَوْنَ أنَّ الشيطان تحدَّى المسيح أن يصعد إلى جناح الهيكل، وأيضاً أن يتسلَّق الجبل وينظر إلى جزء من العالم، وأن المسيح فعل ذلك؛ ولكنه صدَّ هذه التجارب بالآيات التي اقتبسها من كلمة الله. ولكنه لا يوجد أي سبب مقنع يجعلنا نعتبر هذه التجارب غير ما جاءت في الأناجيل حرفياً.

ولو فُرِضَ بأن الرب كان قد حوَّل الحجارة إلى خبز، فهذا معناه أنه استخدم قدرته المعجزية للهروب من المعاناة والآلام والضيقات في سبيل أن يسدَّ احتياجاته الجسدية، وما كان قد اعتُبِر أنه آدم الثاني الذي يواجه التجربة كإنسان كامل عِوَضاً عن آدم الأول، وما كان قد اعتُبِر أنه «مُجرَّبٌ في كل شيء مثلنا، بلا خطية» (عب 15:4). لقد كان عليه أن يستعمل قدراته المعجزية لمعونة الآخرين وليس لنفسه. كما أن تجربة إلقاء نفسه من الهيكل كانت لإغرائه بالتجرُّؤ على الله بادِّعاء الثقة فيه بطريقة غير لائقة وغير مسموح بها، طالما أنه توجد وصية إلهية ألاَّ تُجرِّب الرب إلهك، وذلك بالمقارنة بالتجربة الأولى التي كانت تهدف إلى عدم الثقة في قدرته على احتمال الجوع. كما أن تجربة الهيكل لو كان قد خضع لها، فهذا يعني أنه قد خرج عن الطريق الذي يجب عليه اتِّباعه. والشيطان عندما اقتبس كلام المزمور 91 بأنَّ الله «يوصي ملائكته بك»، حذف بقية الآية رقم 11 القائلة: «لكي يحفظوك في كل طرقك»، وفي ذلك يظهر كذب الشيطان لأنه كذَّاب وأبو كل كذَّاب منذ البدء (قارن يو 44:8 مع تك 3: 5،4).

والتجربة التي أراد فيها العدو أن يضمن لنفسه السيادة والسلطان بالسجود له، إنما هي برهان على الحيلة: ”اصنع الشر لكي يأتي الخير“. الشيطان أراد هنا أن ينتزع من الرب ملكيته على أقاصي الأرض كما جاء في المزمور الثاني: «اسألني فأُعطيك الأُمم ميراثاً لك، وأقاصي الأرض مُلْكاً لك» (مز 8:2)، وكانت هذه تجربة للرب يسوع أن يُحقِّق سلطانه الذي هو من حقِّه عن طريقٍ أكثر أمْناً مـن طريق الصليب والآلام!

ونحن نعلم أن الملائكة هم الرُّتَب الأولى لخليقة الله، والذين أطاعوا الله منهم ثبتوا في البرِّ، هؤلاء هم الملائكة الأطهار؛ بينما الذين عَصَوْا الله منهم وتمرَّدوا عليه، سقطوا من رتبتهم الملائكية مع رئيسهم الشيطان الذي كان رئيس ملائكة. أما آدم وحواء فقد امتُحِنَا في الطاعة فعصيا وسقطا. ولذلك جاء المسيح - لكي يفدي البشر - فواجه الاختبار وخرج منه منتصراً: «وإذ كُمِّل صار لجميع الذين يُطيعونه سبب خلاصٍ أبدي» (عب 9:5). ولذلك هتف الرسول بولس قائلاً: «لأنه كما بمعصيةِ الإنسان الواحد جُعِلَ الكثيرون خطاةً، هكذا أيضاً بإطاعةِ الواحد سيُجعل الكثيرون أبراراً» (رو 19:5).

منفعة التأمُّل في التجربة على الجبل:

وقد أدرك آباء الكنيسة منفعة التأمُّل المستمر فيما سجَّله الإنجيل عن التجربة على الجبل، ولا سيما بمقارنته بتجربة امتحان آدم وحواء، والتأمُّل فيما يربط هذه التجارب بآلام المسيح الكفَّاريـة. كما أنهم رأوا فيها أنها تُشير مُسْبقاً إلى الصراع والتصادُم المستمرَّيْن بين الـرب والشيطان في رسالة الكنيسة الكرازية.

*************************************************************************************************

اقرأ بمناسبة الصوم الأربعيني المقدس للأب متى المسكين

الصوم الأربعيني المقدس 12 جنيهاً
التوبة 3 جنيهات
التوبة والنسك في الإنجيل 4 جنيهات
الصوم الأربعيني - تاريخ الطقس جنيه واحد
صوم جماعي وتوبة جماعية جنيهان
الصوم المقدس وثماره المشتهاة جنيه واحد
هجرة المسيحي إلى الله 12 جنيهاً
**************************************************************************************************

(1) Homily 40,10; PG 36,370,371.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis