عظة آبائية


التوبة
للقديس يوحنا ذهبي الفم
(354-407م)


القديس يوحنا ذهبي الفم

نص العظة(1):
... أأنتم خطاة؟ لا تيأسوا!

فأنا أصرُّ على أن أُقدِّم لكم الرجاء كدواء وكأفضل علاج لضعفكم، لأني أعرف إلى أيِّ مدى يمكن للثقة المستمرة والرجاء في الله أن تكون سلاحاً فعَّالاً مقابل الشيطان.

لن أكفَّ عن أن أُكرِّر لكم أنه إذا أخطأتم لا تسقطوا في اليأس. إنْ أخطأتم كل يوم، فتوبوا كل يوم!

أسألكم سؤالاً فقولوا لي: ماذا نفعل عندما تتهدم مبانينا القديمة؟

أَلا نضع جانباً الأشياء المتهدِّمة لنُقيم بدلاً منها الجديد؟ ولا ندَّخر الجهد في بذل كل اهتمامنا لهذا التعمير.

فليكن لنا مِثل هذا بالنسبة لأنفسنا، فإنْ خضعتم للخطية، فجدِّدوا أنفسكم بالتوبة.

ستقول لي: كل حياتي وأنا واقع تحت سطوة الخطية؛ وأنت تقول لي الآن: إذا أنت قدَّمتَ توبة، فستجد الخلاص والعِتْق!

- نعم بكل تأكيد.

وإذا سألتني: مِن أين لك هذه الثقة؟

- أقول لكم من مراحم الله تجاه البشر.

لا تفتكروا أنني أبني ثقتي هذه فقط على توبتكم، لأنني أعرف أنها لا تَقْوَى على طرد كل الشرور من القلب.

إذا كانت لا توجد غير التوبة فقط لكان يحقُّ لكم أن تكونوا قلقين! أما إذا كان صلاح الله هو أساس اعتمادنا، فيجب أن تثقوا.

فمراحم الله نحونا لانهائية، بل أقول أيضاً إنها تفوق كل تعبير.

إن ضعفاتكم محدودة، أما علاجها فليس له حدود؛ حتى وإن كانت أخطاؤكم لا تُحصَى، فهي لا تزيد عن كونها أخطاءً بشرية، وهي لا تُقاس إزاء صلاح الله اللانهائي.

فليكن لكم ثقة في الله، لأن التوبة ستنتصر على رذائلكم.

تخيَّلوا شُعلة سقطت في البحر، هل يمكنها بعد ذلك أن تظل مشتعلة؟!

إنَّ خطاياكم ستتلاشى عندما تتلامس مع صلاح الله مثل انطفاء الشعلة إذا لامست الماء؛ بل إن المحيط رغم اتساعه فهو له حدود، أمَّا المراحم الإلهية فهي غير محدودة.

”حاسب نفسك لكي تتبرَّر“، يا للصلاح الإلهي!

إن الرب لم يَقُلْ: ”... لكي تهربوا من العقوبة“، ولكن قال: ”... لكي تتبرَّر“.

أَمَا كان يكفي أن لا تُعاقبه حتى أنك تُبرِّره أيضاً؟ بالتأكيد.

لكن اسمعوا بالأَوْلى: أين نجد مثالاً لمثل هذا التبرير؟

بالنسبة للص اليمين: لقد صار كافياً له أن يقول لرفيقه: ”أَلا تخاف الله؟ أمَّا نحن فبعدل جوزينا لأننا ننال استحقاق ما فعلناه“؛ لكي يسمع هذه الكلمات من يسوع: «اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23: 41). إنه لم يَعِدْه بأن يُجنِّبه كل ملامة وكل عقاب؛ بل دفعة واحدة، اقتاده مُبرَّراً إلى الفردوس.

الاعتراف المقدَّس:

هل لاحظتم أن اللص قد تبرَّر بفضل اعترافه عن خطاياه؟

إنَّ الإحسان الإلهي نحو البشر أعظم جداً. إنه لم يُشفق على ابنه الخاص لكي يُشفق على العبد. لقد سلَّم ابنه الوحيد لكي يفتدي العبيد الجاحدين، وسَفَكَ دمه كثمن لهم.

يا للإحسان الإلهي! أرجوكم لا تعودوا تحتجُّون بقولكم: لقد أخطأتُ كثيراً فكيف يمكن أن أخلُص؟

لأن ما لا تستطيعون أن تعملوه، فالله يستطيع، وقدرته قادرة حتى إلى محو كل خطاياكم.

انتبهوا لِمَا سأقوله: الله يمحو خطاياكم بحيث إنه لا يعود يتبقَّى لها أي أثر.

مثل هذه الأعجوبة لا توجد في الطبيعة؛ فالطبيب يستطيع أن يُظهِر كل مهارته وحَذَقه لكي يُعالج جرحاً، ومع ذلك لن يصل لمحو كل أَثَر لذلك الجرح.

الله أب:

الله أب ممتلئ حناناً، وهو الصالح وحده، وأحشاؤه تتحرَّك أكثر من أي أب.

فلكي تفهموا حسناً أنه يتصرف كأب، فقد وضع هذا السؤال لأولاده:

- ماذا سأفعل يا يهوذا؟

+ أَلا تعرف ماذا ستفعل يا رب؟

- نعم أنا أعرف، لكن لا أستطيع أن أَعمد إلى هذا! فثقل الخطايا يتطلَّب عقوبة لا تتفق مع عِظَم إحساني تجاه البشر.

- فماذا سأفعل، إذن؟ هل يجب أن أُسامحكم؟ لكن هذا سيزيد عدم اكتراثكم!

- هل يجب أن أُلاحقكم بغضبي؟ صلاحي يمنعني!

- فما العمل؟ هل أُعاملكم كسدوم؟ هل أفنيكم كعمورة؟ ينقلب عليَّ قلبي!

(مستوحاة من نبوَّة هوشع النبي)

مع أنَّ الله فوق الأحاسيس البشرية إلاَّ أنه يستعير هنا أحاسيس الإنسان ويُظهِر حناناً يفوق حنان الأم: ”قلبي انقلب عليَّ“.

فالأُم لا تتكلَّم بغير هذا عن طفلها. لكن الله لم يقنع بأن يذكر انقلاب قلبه اللائق بالأمومة، بل يُضيف أيضاً: «قد انقلب عليَّ قلبي. اضطرمت مراحمي جميعاً» (هو 11: 8).

هل اضطرب الله حقّاً؟ لا، فاللاهوت فوق هذه الانفعالات، ولكن - كما قلتُ - إنه يستعير لغتنا:

- ”لقد انقلب عليَّ قلبي، فاغتسلوا وتنقَّوا! لنعُدْ إلى وعدي“.

لقد أكَّدتُ لكم أن الله يشفي الخطاة، البشر المحمَّلين بخطايا لا تُعدُّ والشبيهة بالقروح. بمجرد أن يتوبوا لا يبقى هناك أيُّ أثر أو ندبة أو علامة تدلُّ على موضع الجرح: «اغتسلوا، تنقَّوا، اعزلوا شرَّ أفعالكم من أمام عينيَّ... تعلَّموا فِعْل الخير» (إش 1: 17،16).

ماذا تعني بـ ”فعل الخير“؟

«اطلبوا الحقَّ، انصِفوا المظلوم، اقضُوا لليتيم، حامُوا عن الأرملة» (إش 1: 17).

هذه التوصيات ليس فيها أي تثقيل، هي تبدو متوافقة مع الطبيعة، لأن هذه الحالات تُثير الشفقة حقّاً.

ابذلوا الجهد:

يقول الرب: «هَلُمَّ نتحاجج» (إش 1: 18)، ابذلوا بعض الجهد من جانبكم وأنا سأُرتِّب الباقي. أعطوني حتى ولو شيئاً قليلاً وأنا سأمنحكم الكثير.

هلمَّ إذن! لكن إلى أين؟ هلموا إليَّ أنا الذي أسخطتموني وضايقتموني. إليَّ أنا الذي قلتُ لكم إنني لا أسمعكم، راجياً بذلك أنَّ الخوف المتولِّد من التهديد يقتادكم لتبديد غضبي.

اذهبوا لِمَنْ لا يسمعكم لكي يسمعكم؛ ولكن ماذا ستفعل؟

لن أترك فيكم أيَّ أثر أو ندبة أو علامة على جرح قديم: «هلمَّ نتحاجج، يقول الرب، إن كانت خطاياكم كالقِرْمِز تَبْيَضُّ كالثلج» (إش 1: 18).

أهكذا بلا ندبة؟ بلا غَضْن، أمع هذا البهاء من النقاوة؟! «إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضُّ كالثلج».

أأنقياء بدون أيِّ دنس؟! كيف سيصير هذا؟ إنها كلمات الرب نفسه: هل وعدتكم بخلاف هذا؟

هكذا استطعتم أن تُدركوا عظمة مواعيد الله من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى، كمال الله الذي يُسبغه علينا.

كل شيء مستطاع لله، إنه قادر على تطهير الإنسان حتى ولو كان كله نجاسة.

فلنتقوَّى بهذه التعاليم ونزداد نضوجاً بمعرفة هذا الدواء، أعني التوبة.

ولنُقدِّم له السجود اللائق، لأن له القوة والمجد إلى دهر الدهور، آمين.

(1) مقال مترجم من كتاب: ”أعمال القديس يوحنا ذهبي الفم“، العظة الثامنة.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis