الصوم والمحبة

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد. آمين.
الآباء الأعزَّاء بالرب، رهبان دير أنبا مقار...

مضت مدة طويلة تزيد على السنة لم أسعد بالكتابة إليكم بسبب مرضي، والآن إذ عزَّاني الرب، أكتب إليكم في هذا الموسم المقدس أي صوم الأربعين المقدسة. وتلاحظون أن الكنيسة المرتشدة بالروح القدس ضمَّت على الأربعين المقدسة التي افتتح بها المسيح حياته المباركة، أسبوع الآلام المقدسة التي انتهى بها عمله وتوَّجها بالموت ثم بالقيامة. وهكذا جمعت الكنيسة حياة الرب كلها ونهايتها معاً في هذا الموسم المقدس.

لذلك أصبحت هذه الأيام التي نعيشها الآن هي أعزّ وأقدس أيام السنة كلها. فإنْ كانت الأربعون المقدسة قد اتَّسمت بالصراع مع عدو البشرية، فقد اتَّسمت أيام آلامه الأخيرة بصَرْعه لهذا العدو.

والذي أُلفت نظركم إليه في هذا الصوم المقدس أن صراع المسيح ضد العدو أوضحه المسيح أخيراً لما جاع، إذ تلخَّص فيه سلاح العدو أنه أراد أن يُجبر المسيح في الإعلان عن ذاته والاعتداد بها خصوصاً في التجربة الأولى عندما تحدَّاه إن كان هو ابن الله فليجعل الحجارة خبزاً، منتهزاً فرصة جوع المسيح، فكانت نصرة المسيح قائمة على إخلاء الذات بقبول جوع الجسد على أساس أن مصدر حياة الإنسان ليس في الخبز بل بكلمة الله. وهكذا هزم المسيح مشورة العدو بأنْ أخلى ذاته كإنسان، وبآنٍ واحد أعلن عن لاهوته باعتبار أنه هو كلمة الله! على هذا الأساس أصبح الصوم وجوع الجسد عندنا فرصة أساسية في حياتنا لإنكار سلطان الجسد وإخلاء الذات.

وبتكميل الأربعين المقدسة، ودخولنا في أسبوع الآلام الذي انتهى بصَلْب الجسد وقبول الموت كمشيئة الآب، نكون قد بلغنا الذروة في إخلاء الذات في نزاع الرب الأخير في جثسيماني: «لتكن لا إرادتي بل إرادتك» (لو 42:22)، وتسليمه الجسد لحَمْل خطايا البشرية على الخشبة ثم قبول الموت: «في يديك أستودع روحي» (لو 46:23) كآخر صورة لإخلاء الذات.

والآن بعودتنا إلى صوم الأربعين المقدسة نجدها أهم وأخطر فترة في حياة المسيح وحياتنا في المسيح، التي أعدَّته وتعدُّنا لقبول الآلام والموت، والتي أَهَّلته وتؤهِّلنا لقيامة النصرة بالروح، وخلقة الإنسان الجديد غالب العالم والآلام والموت ووريث الحياة الأبدية مع الآب والابن والرسل القديسين؛ كدعوة القديس يوحنا الرسول (1يو 1:1-4).

هكذا يقف الصوم الأربعيني المقدس في ترتيب الكنيسة وتقويم الإنسان المؤمن لطريق الحياة الأبدية وتأهيل الإنسان للخلقة الجديدة والبنوَّة لله.

ما معنى هذا في مفهوم الطقس الكنسي والتدبير الإلهي؟

معناه أن إتقان الصوم الأربعيني المقدس هو أول خطوة للمؤمن المسيحي للتأهيل لميراث البنوَّة لله وشركة الحياة الأبدية.

وعلى أيِّ أساس؟

على أساس البدء بتدريب الإنسان على إنكار شهوات الجسد وبذل الذات؛ لأن غلبة العالم تقوم على هاتين الفضيلتين: إنكار شهوة العالم، وبذل الجسد الذي يُمثـِّل الذات البشرية في أقوى صِلاتها بالعالم: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم» (يو 33:16)، «ليسوا من العالم كما أني أنا لستُ من العالم» (يو 16:17). وهذا قمة الاستنارة في اللاهوت الخلاصي: «هذه هي الغلبة التي تغلب العالم: إيماننا» (1يو 4:5)، لأن غلبة العالم هي: "إيماننا المسيحي".

ولكن ...

ولكن الجسد وشهوات الجسد في العالم لا يمثـِّل كل الذات البشرية. فـ «المولود من الجسد جسدٌ هو، والمولود من الروح (القدس) هو روح» (يو 6:3). ونحن وُلدنا بالجسد في الخطية: «بالخطية ولدتني (حبلت بي) أُمي» (مز 5:51)، ووُلدنا في الروح في المسيح بإيماننا بالمسيح أنه ابن الله وأن الله الآب أرسله إلى العالم لمحو خطايانا بموته وفدائنا من الموت بقيامته: «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 12:1). فــ «الروح (القدس) نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله» (رو 16:8). بهذا الميلاد الروحي الجديد وتجديد الخلقة لميراث الحياة الأبدية، نكون قد خلعنا الإنسان العتيق بكل أعماله الميتة، واغتسل ضميرنا بدم المسيح، ودخلنا في صميم شركة الروح بالآب والابن.

ما معنى هذا؟

معناه أننا أكملنا إنكار الذات وبذلها، وأكملنا عمل الصوم الأربعيني والموت مع المسيح واستحققنا شركة الحياة الأبدية؛ لأن بذل الجسد وإنكار شهواته لا يؤهِّل وحده لشركة الحياة الأبدية التي إليها دُعينا، إذ لابد من شركة جسد المسيح بالروح لقبول شركة البنوَّة للآب.

وشركة البنوَّة هي شركة ليست فردية، أي لا تُعطَى لأي فرد مهما كانت قداسته، إذ هي شركة الابن الوحيد وتُعطَى للجميع في المسيح: «كأس البركة التي نُباركها، أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبزٌ واحد، جسدٌ واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد» (1كو 10: 17،16).

كيف يكون هذا؟

هذا يكشف سرَّه القديس بولس الرسول في قوله عن عدم نفع أعمال الجسد من صوم ووعظ ونبوَّة وإيمان - حتى لو كان الإنسان قادراً أن ينقل الجبال - بدون محبة، فإنه يكون لا قيمة له ولا يصلح لميراث الحياة الأبدية: «إن كنت أتكلَّم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة، فقد صرتُ نحاساً يَطِنُّ أو صَنْجاً يرنُّ. وإن كانت لي نبوَّة، وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلستُ شيئاً. وإن أطعمتُ كل أموالي، وإن سلَّمتُ جسدي حتى أَحتَرِق، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئاً» (1كو 1:13-3).

وبدأ بولس الرسول الموهوب بالنعمة الفائقة يشرح ما هي المحبة حتى لا يكون لدينا عذر أو مماحكة:

+ «المحبة تتأنَّى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تُقبِّح (النزول بالمحبة إلى مستوى الشهوة القبيحة)، ولا تطلب ما لنفسها (محبة من أجل المنفعة الذاتية)، ولا تحتدُّ (أي لا تظلم وتضطهد وتُسيء بدعوى التأديب)، ولا تظنُّ السوء (كل بغضة وكراهية سببها الظن بالسوء)، ولا تفرح بالإثم (الشماتة) بل تفرح بالحق (= فرح إلهي)، وتحتمل كل شيء (الصبر الطويل)، وتُصدِّق كل شيء (في بساطة إلهية)، وترجو كل شيء (في المسيح)، وتصبر على كل شيء. (وأخيراً) المحبة لا تسقط أبداً (عن مستوى الصليب)» (1كو 4:13-8).

ويزيد بولس الرسول في تأكيد قدرة المحبة على غلبة العالم والزوال والفناء!

أما القديس يوحنا فقد أنار عيون قلوبنا بمعاني المحبة وقدرتها وسلطانها وأرعبنا من نقصها أو غيابها. وقد احتوى المحبة في إنجيله كبداية كل شيء ونهاية كل شيء: «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» (يو 4:1).

وابتدأ رسالته الأولى: «الله نورٌ وليس فيه ظلمة البتة» (1يو 5:1). والنور عند القديس يوحنا هو الله وهو الحق وهو المحبة. ثم يقيس حياة الإنسان وعمله على ضوء هذه الحقائق: «إن قلنا إن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة، نكذب ولسنا نعمل الحق» (1يو 6:1)، حيث الظلمة هي الشيطان وكل أعماله وأخطرها بالنسبة لله هي العداوة والبغضة والكذب. فأيُّ ميل في ضمير الإنسان نحو العداوة والبغضة (حتى ولو كانت ضد الأعداء) تفصلنا مباشرة عن الشركة مع الله: «إن سلكنا في النور كما هو في النور، فلنا شركة بعضنا مع بعض، ودم يسوع المسيح ابنه يُطهِّرنا من كل خطية» (1يو 7:1)، «مَن قال إنه في النور وهو يُبغض أخاه، فهو إلى الآن في الظلمة... مَن يُبغض أخاه فهو في الظلمة، وفي الظلمة يسلك، ولا يعلم أين يمضي (يختفي طريق الله من قلبه ومن أمام عينيه)، لأن الظلمة (الشيطان) أعمت عينيه» (1يو 2: 11،9).

وهكذا يرى القديس يوحنا أن طريق الحياة الأبدية في المسيح منير ويضيء للسالكين فيه بالمحبة الأخوية الصادقة عديمة الغش والرياء (1بط 22:1)، وكأن محبة الجماعة المسيحية بعضها لبعض كمصباح يضيء أمامهم الطريق ويرفع من قلوبهم محبة الذات ومن طريقهم العثرات المؤدية للهلاك وأخطرها بغضة الأخ لأخيه.

والقديس يوحنا الرسول يُعرِّف المحبة أنها الحياة الأبدية التي كانت مخفية في الآب وأُظهِرَت لنا بظهور المسيح: «فإنَّ الحياة أُظهِرَت، وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا» (1يو 2:1)، وأن البغضة هي الشيطان وهي الموت وهي القتل، وقد ظهرت في قايين لما قام على أخيه وذبحه لأنه حسده وأبغضه لأن الله قَبـِلَه وقَبـِل قرابينه. لذلك عبَّر القديس يوحنا الرسول عن البغضة بأنها هي القتل: «مَن يبغض أخاه فهو قاتل نفس» (1يو 15:3)، وهو تعبير مخيف ومُرعب لكل إنسان يعيش في حياة الحسد والبغضة، وقد أوضحها الرب يسوع في عظته على الجبل: «سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل، ومَن قتل يكون مُستوجب الحُكْم. وأما أنا فأقول لكم: إنَّ كل مَن يغضب على أخيه باطلاً (أي من أجل أمور العالم الباطلة) يكون مستوجب الحُكْم (بالقتل)» (مت 5: 22،21).

هنا كَشفٌ خطير لعمل الشيطان بإزكاء روح الحسد والبغضة بين الإخوة من أجل أمور العالم الباطلة، وهو أيضاً كَشفٌ خطير للذات المريضة التي أفسدتها القدوة الرديئة والتعاليم الباطلة ومشورة الشيطان المؤدية إلى الهلاك.

وهكذا إن كان الصوم الأربعيني المقدس هو الفرصة الذهبية لقمع الجسد وضبط الشهوات وإخماد الانحراف نحو ملذَّات العالم؛ فهو، بآنٍ واحد، فرصة إلهية لكشف أية ميول ذاتية نحو الحسد والغيرة والبغضة، وفي المقابل إزكاء روح المحبة والمودة الإلهيتين بالصدق والتضحية وبذل الذات من أجل حب القريب بكل تضحية مهما كانت غالية. فنهاية العالم وكل شيء هو المسيح أمامكم مصلوباً ممزَّق الجسد من أجل طاعته لأبيه ومحبته للبشر: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 16:3).

(رسالة أُرسلت إلى الرهبان في الأحد الأول من الصوم الأربعيني المقدس - 17 مارس 2002)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis