من سلسلة عظات
”هجرة المسيحي“


التجارب الثلاث
للمسيح

عظة أُلقيت في قدَّاس يوم الأربعاء من الأسبوع الثالث من الصوم الكبير - عام 1981- بكنيسة القديس أنبا مقار. للأب متى المسكين

+++++

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين

مقدِّمة: النعمة لا تأتي بدون ضيقات:

إنجيل هذا الصباح يكشف مدى الصعوبات التي تنتظرنا على الطريق، ممثَّلة في هذه التجربة المُقدَّمة إلى المسيح نفسه. والإنجيل لم يترك لنا شيئاً يختص بارتحالنا على طريق الحياة الأبدية إلاَّ وكشفه بوضوح غاية الوضوح.

تكلَّمنا بالأمس عن كيفية احتفاظنا بنور الله مُضيئاً، ثم في هذا اليوم يتكلَّم الإنجيل عن كيف تُداهمنا الظلمة لكي يُختَبَر النور الذي فينا، والذي هو ليس نوراً بلا ثمن. فالنعمة لا تأتي بلا ضيقات. حقاً هو نور قادر أن يكشف لنا كل الطريق إلى النهاية، ولكنه سيكشف لنا فيه أيضاً الصعوبات.

وهكذا يبتدئ الإنجيل يُنذرنا أن الضمير الذي يتقدَّس كل يوم، إنما يتقدَّس بعد أن يُختَبَر بالنار.

المسيح هنا هو الذي تلقَّى التجربة، والمُجرِّب هنا يُجرِّب المسيح نفسه. ولكن الإنجيل يترك التوجيه لنطبِّقه كل واحد على نفسه بقدر ما يُستعلَن له. لذلك اجتهد المُفسِّرون لكي يُطبِّقوا، ولكن لو استطعنا نحن أن نفهم أنها تجربة مُقدَّمة للمسيح، ونتفهم قصد الشيطان من تجربة المسيح، وكيف جُرِّب المسيح، وكيف انتصر؛ فسيكون ذلك الباب هو الوسيلة التي بها نفهم كيف نواجه نحن أيضاً التجربة.

التجربة للسائرين وللمتقدِّمين في طريق الحياة الروحية:

قبل كل شيء يقول الإنجيل:

+ «أما يسوع فرجع من الأُردن مُمتلئاً من الروح القدس» (لو 4: 1).

أي أن التجربة لا تأتي أبداً لإنسان ليس راجعاً من اغتسال أو من توبة. فالأردن هو رمز التوبة، لأن الأردن هو معمودية الماء للتوبة؛ ولكن توبتنا في العهد الجديد لا تتم إلاَّ بالروح القدس، فهي توبة ومؤازرة بالنعمة. الأردن والامتلاء من الروح القدس معاً هما مقدمة التجربة. ولا يمكن أن يُجرَّب إنسان من العدو وهو غير ممتلئ من الروح، أو بمعنى آخر: وهو غير معتمد، غير مولود ثانية، غير مُهيَّأ، غير متَّجه نحو الوطن الأفضل. أما غير السائرين، غير التائبين، غير المرتحلين، غير المنتقلين من وطن إلى وطن، فهولاء لا يُداهمهم العدو.

- يحكي ”بستان الرهبان“ عن كيف يصطاد الشيطان الضعفاء بسهولة كما يصطاد الصياد السمك الصغير. ولكنه يقف أياماً أمام سمكة كبيرة لكي يصطادها. فشُغل الشيطان الشاغل هو اصطياد المتقدِّمين وليس مجرد السائرين. فالتجربة تعني أننا على الطريق. وبقدر التجربة، بقدر ما نتيقَّن أننا مُحاطون بنعمة، أي بمؤازرة خفية.

الصوم هو باب الانتقال من حالٍ إلى حال أفضل:

ثم يُنبِّه الإنجيل ذهننا أن المسيح مكث أربعين يوماً. ولو عُدنا للعهد القديم، لوجدنا أن هذا العدد يُمثِّل، في تعبير الإنجيل وتعبير الرابِّيين، فترة كاملة للانتقال من حالٍ إلى حال أفضل. نجدها في صوم موسى النبي قبل أن يأخذ الوصايا الجديدة مكتوبة بإصبع الله، أي الشريعة الأولى التي سار عليها بنو إسرائيل؛ وإيليا صام أيضاً 40 يوماً. في حالة موسى تُمثِّل هذه الفترة انتقالاً من حالٍ إلى حال، بينما عند إيليا تمثِّل انتقالاً من الأرض إلى السماء. فالمسيرة هي ارتحالنا ونحن صائمون.

ودائماً الأربعون يوماً يُواكبها صوم، والصوم يواكبه تجارب؛ بل إن العدو يهاجم أيضاً الصوم، لأنه من غير الصوم لا نقدر أن ندخل أمام العدو في حرب. فالصوم يُهيِّج العدو علينا أولاً، أو يستفزُّه لكي يأتي ويُحارب؛ وفي نفس الوقت هو سلاح في أيدينا نستطيع أن نكتشف به حِيَله.

هنا في العهد الجديد، الأربعون يوماً تمثِّل الانتقال، انتقال من حياة المسيح قبل المعمودية والامتلاء، إلى حياة الخدمة فيما بعد المعمودية. لأنه ابتدأ الخدمة في الحال بعد أن نزل من جبل الصوم.

الصوم بالنسبة للمسيح كان فترة لابد منها للانتقال من حياة متماشية مع حياة البشر إلى حياة تتضح فيها الرسالة، ويتضح منها عمله. لذلك، فبحسب ترتيب الكنيسة، يكتمل الصوم في نهاية الأربعين بأسبوع الآلام ثم الصليب.

++++++

التجارب الثلاث للمسيح

+ «وكان يُقتاد بالروح في البرية أربعين يوماً يُجرَّب من إبليس. ولم يأكل شيئاً في تلك الأيام، ولما تمَّت جاع أخيراً» (لو 4: 2،1).

التجربة الأولى:

+ «وقال له إبليس: إن كنتَ (أنت) ابن الله فقُل لهذا الحجر أن يصير خبزاً» (لو 4: 3).

لاحظوا هنا: «وقال له إبليس». ابتدأ إبليس يدخل وبصورة منظورة ولكن كما يُسمِّيها الآباء أو حسب الاختبار المعروف: ”المنظر المعقول“.

هذه أول تجربة مُقدَّمة للمسيح: «إن كنتَ (أنت) ابن الله». فها هو (الشيطان) قادمٌ هنا ليُشكِّك المسيح فيما سمعه صوتاً من السماء يقول له: «أنت ابني الحبيب الذي به سُررتُ».

فالتجربة هنا مُصوَّبة للمسيح للتشكيك في هذا الصوت الذي سمعه (من السماء). وهو تشكيك في كيانه من الداخل. أي إن كنتَ حقاً ابن الله كما استُعلنتَ وكما سمعتَ من السماء، إذن، تستطيع أن تخلق وتُخلِّق، أي تقدر أن تقول للحجر أن يصير خبزاً. ألم يحدث في البرية قديماً أن الحجر أخرج ماءً (خر 17: 6)! وكانت الصخرة هي المسيح (1كو 10: 4). الشيطان يُدرك هذا، لأنه لم يَقُل للمسيح أن يُخرِج ماءً، لأنه كان جائعاً.

وهنا هذه التجربة تُسمَّى: ”تجربة المناسبة“. فهي مُحْكَمة لا تأتي من فراغ بل من ”المناسبة“ وهي الجوع. التجربة للناسك في جبل أو المتوحِّد في مغارة، تأتي من الأشياء التي يتنسَّك ويمتنع عنها. فيبتدئ (إبليس) يُغريه ويُحاربه بها. فأنت (كأن الشيطان يُخاطِب المسيح) الابن وأنت الخالق أيضاً تستطيع أن تجعل الحجر خبزاً وتأكل.

هنا عنصران يعمل بهما الشيطان:

العنصر الأول: الصوت المسموع من السماء (الذي) لم يحتمله الشيطان، لأنه عرف أنه داخل في حرب حالاً وأن الانهزام ينتظره، فابتدأ هو بالحرب، بعدما امتلأ المسيح من الروح واستُعلِن في العالم أن هذا هو ابن الله. فحالما أدرك (إبليس) هذا، ابتدأ يُشهِر سيفه بالحرب.

بهذا المفهوم نستطيع أن نُطبِّق هذا بالنسبة لنا. فأول تجربة تأتي علينا وتُداهمنا، خصوصاً إذا كنا في مرحلة توبة أو في مرحلة الانتقال من وضع إلى وضع أفضل، هي تجربة التشكيك في الإيمان. فما دمتَ عزمتَ أن تهاجر إلى الوطن الأفضل، فأنت الآن مُعرَّض أن تعبر في منطقة التجربة. ارتحالنا من وطننا الأرضي والخيمة المطوية إلى البيت السماوي غير المصنوع بيدٍ، إلى الأمجاد والشركة في أمجاد المسيح والميراث معه فيما للآب؛ إنه ليس بالأمر الهيِّن.

التشكيك في بنوَّة المسيح لله تعني بالنسبة لنا تشكيكنا في الخلاص الأبدي، تشكيكنا في الموطن الذي نحن مسافرون إليه. هل حقاً يوجد وطن سماوي؟ هل ابن الله موجود حقاً وفعلاً؟

إذن، فإن كان هذا الإيمان صحيحاً، وإن كنتَ أنت مدعوّاً لملكوت السموات، وإن كنت تتبع المسيح فعلاً، وغايتك ونهايتك هي السماء؛ فما الذي يؤكِّد هذا؟ هل بمعجزة مثلاً؟ قد يدور في فكرنا إعجاب بأنفسنا أننا نتنسَّك، فنتخيَّل حدوث معجزة أو رؤيا، ولو لتأكيد إيماننا بابن الله. خُذ نفس التجربة التي قابلت المسيح، خُذها بالكامل وتعلَّم من ردِّ المسيح عليها.

والشيطان بأقصى ما عنده من التشكيك والحَبْك المدهش في ”حيلة المناسبة“، يأتي لك بالخيالات المناسبة، وهذا هو العنصر الثاني. إذ كما كانت علامة مجيء المسيح عند الرابِّيين اليهود قديماً أنه سيُنزل خبزاً من السماء كما أَنزَلَ المنَّ من السماء على بني إسرائيل، وكما فجَّر ماءً من الصخرة؛ هكذا العابد أو الناسك أو الإنسان الصائم أو الذي نوى أن يعيش حياة أفضل، أو أن يُمارس التوبة؛ يُريد أن يرى برهاناً على صحة مسيرته أو أية علامة من الله تُظهِر فعلاً أنه مؤمن بابن الله، وليظهر للناس أنه إنسان سائر صحيحاً، فيقولون: هذا ناسك، هذا قديس، هذا عابد... إلخ. فيتصوَّر مثلاً أنه وضع يده على رأس مريض فشُفي، أو أخذ موهبة ليعظ بها... إلخ.

هذه هي التجربة الأولى.

+ «فأجابه يسوع قائلاً: مكتوبٌ أنْ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة (تخرج) من (فم) الله» (لو 4: 4).

لاحظ أن الردَّ هنا ”ميستيكي“ mystical، أي فيه معنى مخفي، أي سرِّي: ”بل بكل كلمة تخرج من فم الله“، أي: ”هذه هي حياتي“. هكذا يردُّ المسيح على الشيطان ويقول له: ”حياتي وحياة كل إنسان ليست بالخبز الذي يؤكل، ليست بالحجر الذي نُحوِّله، ولا من المال والذهب، ولا من الغِنَى؛ ولكن بكلمة الله“.

المسيح يقصد بـ ”كلمة الله“ هنا ”كل كلمة تخرج من فم الله“. والكلمة التي خرجت من فم الله، من الآب، الصوت الآتي من السماء: «أنت ابني الحبيب الذي به سُررتُ». وكأنه يقول: ”لا، حياتي ليست من هذا الخبز، بل من الكلمة التي أنا سمعتُها من فم الله، من الآب“. والصوت والكلمة والكلام كله يدخل في مفهوم ”اللوغوس - الكلمة“.

+ «بل بكل كلمة (تخرج) من (فم) الله» (لو 4: 4).

فهي المصدر بالنسبة لحياتي وحياة كل إنسان. وبالتالي، يكون جوابنا على العدو: لا، لست بالمعجزة سأحيا، ولا بالمواهب سأحيا، ولا بالفضائل المكشوفة سأحيا؛ ولكن بكلمة الله، الله الذي دعاني، الله الذي رعاني، وصوته الذي يقودني. فأنا أعيش بالإيمان. وليس من الضروري أن يأتي الصوت لي أنا بالذات من السماء، يكفي أن يكون قد جاء للمسيح من السماء، ويكفي أن يكون التلاميذ قد سجَّلوه لنا؛ فيكون قد جاء إلينا نحن أيضاً بالتمام مثلما جاء للمسيح. لأنه في مناسبة أخرى كان فيها صوت أتى للمسيح: «ليس من أجلي صار هذا الصوت، بل من أجلكم» (يو 12: 30).

ويقول يوحنا المعمدان: «وأنا لم أكن أعرفه. لكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء، ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومُستقرّاً عليه، فهذا هو الذي يُعمِّد بالروح القدس. وأنا قد رأيتُ وشهدتُ أن هذا هو ابن الله» (يو 1: 34،33). فالصوت ليس للمسيح لأنه لم يكن محتاجاً إليه، ولكن ليوحنا المعمدان ليستعلن المسيح، وهكذا سجَّله يوحنا المعمدان، وعنه أخذ التلاميذ وسجَّلوا. وهذا هو الإنجيل. فالصوت الذي جاء للمسيح وسمعه يوحنا المعمدان وسجَّله متى ومرقس ولوقا التلاميذ القديسون، هذا الصوت أو الكلمة هي التي أنا متمسِّك بها، وهذه هي حياتي التي عليها أعيش، وليس بالخبز. وأنت قد تجوع وأنت صائم، فيأتيك فكر أن تأكل لئلا تموت. فهنا الرد يكون: ”إطلاقاً، لن أموت لما أصوم، إطلاقاً، لأن حياتي من الله وبكلمة الله أحيا“.

التجربة الثانية:

(ملحوظة: يتبادل القديسان متى ولوقا ترتيب التجربة الثانية مع التجربة الثالثة). فلو أخذنا التجربة الثالثة (كما وضعها القديس لوقا) على أنها الثانية كما وضعها القديس متى، فسيكون ذلك أوضح لنا. لأن تجربة الهيكل هنا، هي تجربة قُدِّمت للمسيح مباشرة بعدما انهزم الشيطان في معركة اختبار الإيمان ومحاولة التشكيك فيه. وهكذا سأعرض التجربة الثالثة (كما جاءت في إنجيل لوقا) على اعتبار أنها التجربة الثانية:

+ «ثم جاء به إلى أُورشليم وأقامه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنتَ ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل. لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك، وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجرٍ رجلك» (لو 4: 9-11).

في الحقيقة لما رأى الشيطان أن المسيح متمسِّك جداً بكلمة الله، فإذا به يقول: إنه مكتوب في الكتاب المقدس أنه (أي الله) يُرسل ملائكته ليحفظوك؛ إذن، فألقِ نفسك من على الهيكل، فتنزل على أورشليم تحفُّ بك الملائكة، وحينئذ تخدم من وسط الهيكل كإنسان فرِّيسي، أي كدارس للعهد القديم والناموس والوصايا. وهكذا تقف فوق الهيكل وليس من داخل الهيكل، وتبدأ تخدم ليس بالكلمة تعظ وتُقنع، ولكن بإظهار الذات تعلن ذاتك، وتنزل من أعلى بموكب عظيم طائر في الهواء. فكل الناس يقولون: ياه! هذا هو المسيَّا.

هذا هو في الحقيقة، موضوع الحرب ضد المسيح. كان العدو يحاول دائماً - وكذلك الناس - أن يقلبوا القصد من المعجزة ليكون هو استعلان المسيح لذاته بذاته. أما المسيح فكان دائماً يصنع المعجزة لإعلان الآب وليس لاستعلان نفسه؛ ليس لكي يُظهِر ذاته، بل لكي يُظهر محبة الله الآب. هكذا شفى أعين العُمي كما يقول الإنجيل: «فتحنن يسوع ولمس أعينهما، فللوقت أبصرت أعينهما فتبعاه» (مت 20: 34)، ليس لكي يظهر أنه هو المسيَّا.

وهذا كان ضد مشورة الشيطان. فالشيطان يريده أن يصنع هذه المعجزة بإلقاء نفسه من أعلى الهيكل لكي يظهر أنه المسيَّا. بينما المسيح كان يستخدم جميع المعجزات لكي يُظهِر الله الآب، ولإعلان صفات الله الآب. وفرقٌ كبير بين الاثنين.

كان الشيطان دائماً يحاول جاهداً أن يحوِّل المعجزة لمجد بالنسبة للمسيح؛ أما المسيح فكان يختفي في الحال، كما حدث بعد أن أشبع الجموع بالخمس الخبزات والسمكتين. ولأنه كان من علامات المسيَّا في تعليم الرابِّيين أن يُنزل من السماء مائدة طعام؛ لذلك، كانت نتيجة هذه المعجزة أن اختطفه اليهود وأرادوا أن يجعلوه ملكاً، فاختفى منهم للحال.

أما بالنسبة لنا، فلابد أن يكون منهج حياتنا هكذا: إن كل عمل يعمله الله معنا لا نسمح أن العدو يُظهرنا به للناس، وكأننا أتقياء أو عظماء أو قديسين ومقتدرين وأصحاب مواهب وفضائل. ولكن الصحيح أن نقول للشيطان: ”اذهب عني يا شيطان“، لأنه لا يمكن أن تتحوَّل كرامة الله إليَّ، ولا معجزات الله ولا مواهب الله يمكن أن تتحوَّل إلى كرامة لي، ولا مجد لي، ولا لتقديس الناس لي.

التجربة الثالثة:

التجربة الثالثة (وهي الثالثة كما وردت في إنجيل متى) خطيرة أيضاً. وهي تختص بعلاقة المسيح بالعالم كله:

+ «ثم أصعده إبليس إلى جبلٍ عالٍ وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان. وقال له إبليس: لك أُعطي هذا السلطان كله ومجدهُنَّ لأنه إليَّ قد دُفِع، وأنا أُعطيه لمن أريد. فإن سجدتَ أمامي يكون لك الجميع» (لو 4: 5-7).

- لقد استشف المسيح من كلام الشيطان هذا أنه يُحفِّزه لكي يأخذ وضعه كمقاوم للسلطان الزمني لكي يسود، وإلاَّ فإن اليهود والرومان سوف يتعاونون على قتله، لأنه يُنادي بمبادئ جديدة أعلى من اليهود والرومان معاً. فإن قاومتَ (هكذا يقول الشيطان) هؤلاء وأولئك فستبقى أنت المسيَّا، لأن المسيَّا لابد أن يكون فوق الكل.

السجود للشيطان هو التسليم بمنهج الشيطان الفكري. وما هو منهج الشيطان؟ المقاومة، القوة. فبدل أن يدعو الناس بالكلمة والحق، يدعوهم بالقوة. هذا هو سلطان الشيطان، وكأنه يتنازل للمسيح عن سلطانه، لأن أول ما يخافه الشيطان هو ”الصليب“.

وهنا يليق بنا أن نتذكَّر أن بيلاطس قال للمسيح وهو يُحاكمه: «ألستَ تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك، وسلطاناً أن أُطلقك»، فردَّ عليه المسيح: «لم يكن لك عليَّ سلطانٌ البتة» (يو 19: 11،10).

أما المنهج الفكري الأعلى الذي للمسيح، فهو أن يُعطي الكرامة للآب، كما قال للآب في صلاته الشفاعية ليلة الخميس: «أنا مجَّدتُك على الأرض» (يو 17: 4)؛ وكما قال: «أيها الآب مجِّد اسمك. فجاء صوتٌ من السماء: مجَّدتُ وأُمجِّد أيضاً» (يو 12: 28).

فالمسيح هنا يتمسَّك بشدة بأن يُعطي المجد لله الآب، كما أجاب الشيطان: «مكتوبٌ للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد»، حتى ولو خسر المعركة، حتى ولو لم يأخذ شيئاً من ممالك العالم، حتى ولو وقف العالم كله ضدَّه، حتى ولو صُلِبَ.

فلو طبَّقنا هذا على أنفسنا، فإننا سنُدعى على طول المدى، طوال هجرتنا على الطريق الضيِّق، سنُدعى لكي نستخدم فكر الشيطان لكي نتلافى العقبات أو نجوز العقبات. هذا المنهج هو استخدام القوة، أو الخبث، أو السياسة، أو استخدام المال أو المداهنة؛ وكل هذه هي بضاعة الشيطان التي عليها يقوم سلطان الشيطان على الكذب والخداع، وعلى القوة وعلى السلطان الزمني؛ لابد أن نُدعَى لكي نستخدم مثل هذه الأمور.

ظاهرياً، يتضح أن المسيح سلَّم نفسه لليهود حينما أتاه الجند، فيسألهم: «مَن تطلبون»؟ فقالوا: «يسوع». فقال لهم: «أنا هو»، فأخذوه. لقد سلَّم نفسه للموت في كل لحظة، دون أن يستخدم سلطانه الشخصي لإعلان ذاته، ولا استخدم ما للعدو حتى آخر لحظة من حياته. لكنه لم يُسلِّم نفسه للشيطان بالسجود له، بل قال له:

+ «اذهب (عني) يا شيطان. إنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد» (لو 4: 8).

وهكذا قال أيضاً: «رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء» (يو 14: 30). وهذا هو الرد المباشر والعملي للتجربة الثالثة. ولربنا المجد الدائم أبدياً. آمين. ?

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis