عظات هجرة المسيحي
- 1 -
ما هو الصوم؟(1) إنجيل الثلاثاء الأول من الصوم
(لوقا 12: 41-50)

للأب متى المسكين


بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

كلمَتُنا في هذا اليوم، وإن لم تكن مركَّزة أصلاً على إنجيل هذا القدَّاس المبارك، ولكنها امتدادٌ لمفهوم الصوم. وأكاد أجزم أن إنجيل الأمس (يوم الاثنين من الأسبوع الأول من الصوم المقدس) مُطابق لإنجيل اليوم (الثلاثاء). فكما استمعنا لإنجيل الأمس (مر 9: 33-50)، عن عِراكٍ صار بين التلاميذ أولاد النور السائرين إلى الملكوت: مَن منهم الأعظم! وكان توبيخ الرب لهم أنَّ الذي يريد ملكوت الله لابد أن يعود إلى قلب طفل، لا يستطيع أن يُخاصم أو يطلب الكرامة.
وأيضاً في إنجيل اليوم استمعنا إلى قول الرب: «طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا... ولكن إن قال ذلك العبد في قلبه: سيدي يُبطئ في قدومه. فيبتدئ يضرب العبيد والإماء ويأكل ويشرب ويسكر» (لو 12: 43-45). فنفس الموضوع الذي سمعناه في إنجيل اليوم: «يضرب العبيد والإماء»، سمعناه في إنجيل الأمس: بينما التلاميذ سائرون في الطريق: «تحاجوا (تشاجروا)... بعضهم مع بعض في مَن هو أعظم؟» (مر 9: 34)

الصعب والأصعب:

ثم يتكلَّم الرب في إنجيل الأمس عن الأعضاء المُعثرة: العين واليد والرجل. ويحُضُّنا على أنه من الأسهل أو من الأفضل لنا أن نتخلَّى عن جزء من الجسد مِن أن يهلك الجسد كله، حسب قول المسيح. فكون أن نتخلَّى عن جزء من هذا الجسد (إن كان يُعثرنا)، فهذا يُظهِر لنا أنه من الصعب بمكان أن نفعل هذا. وهناك الكثير من الناس مَن يريد أن يُقنعني أن هذا الإنجيل لا يجب أن يؤخذ على محملٍ حرفي، بل أن نأخذه كرمز، ولكني أؤكِّد أن هذا الكلام حقيقي. فالصعب ليس أن نقطع اليد أو نخلع العين، ولكن الأصعب هو أن نستغني عن الجسد كله بالهلاك في جهنم. والذي لم يحاول أن يُنكر أو يجحد هذا الجسد وهذه الذات، فيكون من الصعوبة بمكان أن يقطع اليد أو يقلع العين، فهذا يكون بالنسبة له أمراً فائق التصوُّر. أما إذا جاهد الإنسان لكي يلغي ذاته أو ينكر ذاته، فإنه في الحقيقة يستطيع أن يُدرك أن من السهل الاستغناء عن أي عضو (مُعثِر). فهذه في الحقيقة قياسات، وسوف يأتي في اليوم الأخير، بعد أن يُستعلن كل شيء، ويصرخ هذا وذاك: «وهم يقولون للجبال والصخور: اسقطي علينا وأخفينا» (رؤ 6: 16)، ويتمنون أن تفتح الأرض فاها وتبتلعهم حتى لا ينظروا الجالس على العرش؛ وذلك حينما تُستعلَن خطاياهم، ليس في خِفية، وإنما في العَلَن أمام الملائكة والقديسين والشهود، وبالأخص الذين كُنَّا نتحدث أو نتكلَّم معهم، أو نعظهم، أو نُعلِّمهم.

المشاجرة في الطريق: مَن يكون الأعظم؟

في الحقيقة إن الوضع يحتاج منَّا إلى مراجعة قوية جداً ودقيقة، إن كنَّا نريد أن نسلك في الطريق فعلاً. وأيضاً في إنجيل اليوم يتكرر ما قيل في إنجيل الأمس: المشاحنة في الطريق، وشهوة مَن يريد أن يكون الأعظم. الذات المتكبرة والمتعجرفة، والجسد الذي يشتهي فوق ما يجب أن يشتهي. ونفس الإنجيل وبنفس الوضع في إنجيل الأمس. أخذ الرب طفلاً وأقامه في وسطهم قائلاً للتلاميذ: «مَن قَبـِلَ واحداً من أولاد مثل هذا باسمي يقبلني» (مر 9: 37). ويعود الرب ويتكلَّم عن الصغار الذين نُعثرهم في حياتنا، فهذه العثرة تحرمنا نهائياً من رؤية الملكوت، بل ومن الراحة في هذا الدهر، لذلك فهو يقول: «مَن أعثر أحد الصغار المؤمنين بي، فخيرٌ له لو طوِّق عنقه بحجر رَحًى وطُرِح في البحر» (مر 9: 42). فهذا يظهر كما لو أنه قسوة، ولكن أية قسوة يا أحبائي؟ أية قسوة يمكنها أن تقع على الجسد، وتُعتبر أنها قسوة بالنسبة إلى إنسانٍ قد يُحرَم من النور الأبدي والحياة الأبدية. فهي مقارنة قد تكون غائبة عن الكثيرين، عندما يستسهلون الحياة، ويُقايضون الملكوت - كما يقول القديسون - بمليم أحمر (أي بثمنٍ تافه جداً)!

في الحقيقة، إن الجسد بمطالبه، والذات بكبريائها وعجرفتها، مهما واجهناها ومهما حاولنا أن نقمعها؛ فهذا كله - حتى إذا وصل إلى حرق الجسد - لا يساوي حرماننا من الملكوت.

أعود مرة أخرى وأتكلَّم عن الصوم، وسيكون الحديث مُركَّزاً في هذه الأيام على الصوم، ولكن أيضاً على خلفية إنجيلية.

ما هو الصوم؟

أعود وأُكرِّر: ما هو الصوم؟ لئلا نكون مثل بعض الناس الذين يتكلَّمون عن الصوم أنه لصحة الجسد! وأن الصوم يجعلنا نشعر بالفقراء، ويجعلنا متواضعين، وأنه يعمل كذا وكذا... إلخ. وكلها أشياء تجعلنا نحاول أن نستفيد من الصوم من أجل هذه الحياة الحاضرة. لا، لا!

هناك تعريفٌ بسيط للصوم لا يتجاوز بضع كلمات: الصوم هو محاولة الحياة بدون أكل. هل هذا في الإمكان؟ وماذا يرمز؟ يرمز للملكوت وللحياة الأبدية. الصوم هو استعلانٌ جزئي للفكر، ولكن بحسب الخبرة؛ فالحياة الروحية هي تجلٍّ. فالإنسان كمخلوق يتجلَّى، حينما يستطيع أن يحيا بدون طعام.

وفي الحقيقة، إن أول اختبار سمعناه، كان في برية سيناء، عندما تذمَّر الشعب على الله: «فعاد بنو إسرائيل أيضاً وبكوا وقالوا: مَن يُطعمنا لحماً. قد تذكَّرنا السمك الذي كُنَّا نأكله في مصر مجاناً، والقثاء، والبطيخ، والكُرَّات، والبصل، والثوم... (ويقول الرب لموسى:) وللشعب تقول: تقدَّسوا للغد فتأكلوا لحماً... فخرجت ريحٌ من قِبـَل الرب وساقت سلوى من البحر وألقتها على المحلة... فقام الشعب كل ذلك النهار وكل الليل وكل يوم الغد وجمعوا السَّلْوى... وإذ كان اللحم بعد بين أسنانهم قبل أن ينقطع، حَمِيَ غضب الرب على الشعب، وضرب الرب الشعب ضربة عظيمة جداً»، «وتكلَّم الشعب على الله وعلى موسى قائلين: لماذا أصعدتمانا من مصر؟ لنموت في البرية، لأنه لا خبز ولا ماء، وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف. فأرسل الرب على الشعب الحيَّات المُحرقة، فلدغت الشعب. فمات قومٌ كثيرون من إسرائيل» (عد 11: 18،5،4، 31-33؛ 21: 6،5). إنه تذمُّر على الله، ولذلك أرسل لهم الله السِّمَّان (السَّلْوَى)، نفس الطائر الذي كنا نتكلَّم عن هجرته وهو صائم لمدة 15 يوماً. فقد أرسل لهم الله السمَّان أو السلوى، لعلهم يأخذون منه عظة، إذ أنه يُهاجر من روسيا وهو صائم لمدة 15 يوماً، حتى يأكلوا منه ويملأوا بطونهم ويخرج اللحم من منخارهم، ولكنهم ”أكلوا وشربوا ثم قاموا للَّعب“، ومات منهم الآلاف.

الصوم هو تعبيرٌ إلهي، لكن التعبير عنه يتم بعباراتٍ مادية ضعيفة ميتة، لا تُضاهي قيمة الصوم. والصوم هو محاولة الحياة بدون أكل.

كان في اعتقادي وإيماني أن شعب إسرائيل لو لم يتذمَّر على الله، لكانوا قد عاشوا في البرية 40 سنة بدون أكل أو شرب. ربما لا تُصدِّق هذا! ولكني أقول لك: إنهم عاشوا 40 سنة في البرية لم تتقطَّع صنادلهم ولم تبلَ ثيابهم. لماذا؟ لأنهم نسوا أن يتذمَّروا على الصنادل وعلى الثياب. نسوا أن الثياب سيأتي عليها يوم من الأيام وتبْلَى. فنسِيَ الشعب أن يُعيِّر الله ويقول له: ”أنت ستُعرِّينا في البرية، لأنه لا يوجد هنا ثياب أو منازل“. كما أنه نَسِيَ أن يُعيِّر الله بأن الصنادل ستتقطَّع في الطريق، ومِن أين لهم أن يُصلحوها أو يصنعوا صنادل جديدة تحتاج إلى جلود. ولأنهم نسوا التذمُّر على هذا، فثيابهم لم تَبْلَ، وصنادلهم لم تتقطَّع طيلة 40 سنة في البرية. هذه لمحة بديعة وعميقة لمَن يريد أن يأخذ. فكان من الممكن للشعب أن يعيشوا بدون طعام. والمسيح عندما عاش 40 يوماً بدون أكل أو شُرب، فقد كان يريد أن يُعلِن لنا صورة التجلِّي لجسدٍ يحيا للملكوت.

من وجهات النظر الرائعة للصوم، نرى موسى النبي، عندما عاش لمدة أربعين يوماً وأربعين ليلة على الجبل بدون أكل أو شُرب؛ كأنه إعدادٌ لرؤية الله، فهذا هو الملكوت؛ وإعداد لقبول كلمة الله الحيَّة كشريعة جديدة. فالصوم استعدادٌ للانتقال إلى حياةٍ أخرى أرفع وأسمى وأفضل.

إنَّ إحدى الصُّوَر المُبدعة والجميلة للصوم، هي أنه يُمكِنُنا الحياة بدون طعام إلى الساعة الثالثة ظهراً (أو أقل من هذا الوقت أو أكثر حسب مقدرة كل إنسان)، المهم هو مضمون الصوم الكلِّي الذي يحمل معنًى يمكننا أن نتعمَّق فيه: إنَّ الإنسان، كمخلوق، يمكنه أن يعيش لله، فترةً يَستجلي فيها كيانه الإنساني أو خِلْقته من الداخل. إنه بالفعل يمكننا أن نحيا - كمخلوقين - بدون طعام وبدون زواج. فقد قال اليهود (الصدُّوقيون) للرب (عن المرأة التي تزوَّجت رجلاً ثم مات، فتزوَّجت أخاه الثاني ثم مات، وهكذا حتى تزوَّجت الأخ السابع): «ففي القيامة (في اليوم الأخير) لمَن من السبعة تكون زوجة، فـإنها كانت للجميع. فأجاب (الرب) يسوع وقـال لهم: تضلُّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله. لأنهم في القيامة لا يُزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء» (مت 22: 23-30).

فإحدى الغرائز الأساسية في الجسد، والتي أقل منها أساسيةً غريزة الأكل، هي الغريزة الجنسية، والتي قال عنها العالِم فرويد إنها الغريزة السائدة، وإن كنتُ لا أُقِرُّه على رأيه هذا. فإن كانت الغريزة الجنسية، التي يُقال عنها أنها الغريزة السائدة، لا وجود لها في السماء، فبالأحرى الغرائز الأقل منها. فنحن هنا على الأرض نحاول جاهدين - كرهبان - أن نحيا على هذا المستوى العالي الرائع، أن نعيش كملائكة الله الذين لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، وهو ما قال عنه الرب: «مَن استطاع أن يقبل فليقبل» (مت 19: 12)، وهو سبب ما أُطلق على الرهبان أنهم: ”ملائكة أرضيون أو بشر سمائيون“. لماذا؟ لأننا لم نتزوَّج، وكذلك أيضاً لأننا نصوم!

? في إحدى المرات، كما ورد في بستان الرهبان، أمسك راهب بنفير وتجوَّل بين القلالي قائلاً: ”يا آبائي، يا آبائي“. فخرج الرهبان وكذلك الشيوخ متسائلين: ”ما الموضوع؟ وماذا حدث يا بُنيَّ؟“. فقال لهم: ”لقد بدأ الصوم الكبير“! فقالوا له: ”أي صوم كبير هذا؟ امضِ إلى قلايتك. فنحن لا نعرف شيئاً عن صومٍ بدأ أو صومٍ انتهى. فحياتنا كلها صوم“! وهكذا كان آباؤنا في القديم يصومون كل الأيام. لماذا؟ لأنهم كانوا سائرين في الطريق بصفة دائمة، فلم يكن عندهم راحة، لأن راحتهم هي في المسيرة المستمرة في الطريق.

بدون انشغال بالطعام، نرتفع كيانياً بالقلب:

إحدى الصور المُبدعة للصوم: إنه اختبارٌ كياني داخلي نشعر به في داخلنا؛ إنه يمكننا قضاء الساعات الطويلة بدون طعام ولا انشغال الجسد بالأكل، لكي نرتفع كيانياً بالقلب. و”القلب“ هنا ليس هو البُطَيْن والأُذَيْن؛ وإنما كما يُعرِّفه اليونانيون هو ”العقل“. وفي الحقيقة، العقل هنا هو القلب، حتى أنه يمكننا أن نستبدل كلمة ”القلب“ بـ ”العقل“، والعقل بالقلب، والذي منه ”مخارج الحياة“. فالقلب هو أعماق الوجدان الإنساني الذي يُحرِّك الإنسان، يُحرِّك مبادئه، يُحرِّك آماله، يُحرِّك أفراحه، يُحرِّك أحزانه. هذا هو العمق الداخلي، هذا هو القلب، وهذا هو الذي يتربَّى على الصوم. هذه هي الصورة البسيطة المبدئية أو إحدى الصور الجميلة اللامعة للصوم: إنه سَبْقُ تذوُّق لحياة الملكوت.

أنتم تصومون، يا أحبائي، وتحاولون أن تأخذوا اختباراً على مستوى أقل، أو نموذجاً بسيطاً عن حياة الملكوت، أي الحياة الأخرى. فكل إنسان صائم، إن كان صائماً بالحق، فهو إنسان يحيا في الملكوت، حتى لو كان اختباره هذا محدوداً بزمنٍ ما. ولكن ما أجمل أن ننتهز هذه الفرصة، مهما كانت فترة الصوم: ست ساعات، أو عشر ساعات، أو من النجمة إلى النجمة، أو كل يومين أو ثلاثة. والرب يُعطيكم أن تنتفعوا من هذه الفترة الزمنية، ونعتبرها فعلاً جزءاً لا يتجزَّأ من الحياة التي سنعيشها فوق في الملكوت، لأننا مدعوُّون من الآن، وفي هذا الزمان، أن نسبق ونتذوَّق الحياة الأخرى التي بلا غرائز.

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.