كلمات مختصرة للحياة اليومية


هل تقدر أن تكون غنياً بالله؟

يُعاني العالم اليوم من الأزمة المالية التي أطاحت بأكبر البنوك والمؤسسات المالية في أغنى بلاد العالم، وشرَّدت ملايين الموظفين والعمال للبطالة! بينما يرزح ملايين وملايين الناس في كافة الدول تحت خط الفقر المدقع.
كل هذا والكثيرون منا ما زالوا يبحثون عن أفضل السلع وأفخر الثياب، ويسعون لزيادة دخلهم بالتوظُّف في أعمالٍ أخرى أو بامتداد مساحة أعمالهم الحالية!

أما حكمة الرب يسوع المسيح التي بعث بها إلينا من خلال الإنجيل، فأخشى أن أقول إنها ستصدم هؤلاء وأولئك. هذه الحكمة تُنادينا أن نجحد كل ما لنا (مقتنياتنا) لنُعطي الفقراء، فنكون أتباعاً حقيقيين للمسيح. ولكن كيف يكون هذا؟

+ في قول لأحد القديسين، لفتت نظري الكلمات الأولى فيه: ”إذا ضعفتَ عن أن تكون غنياً بالله، فالتصق بمَن يكون غنياً به لتسعد بسعادته“ (بستان الرهبان). ”... غنياً بالله“، و”غنياً لله“، و”... غنياً لملكوت السموات“.

ماذا قال المسيح للشاب الغني؟

في إنجيل مرقس 10: 21 (ولوقا 18: 22) نجد المسيح يقول لشاب غني: «بِعْ كل ما لك (أي كل مقتنياتك)، وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء»، وذلك ليكون واحداً من تلاميذه. وطبعاً كان هذا الأمر صدمة لهذا الشاب كما لكثيرين من قارئي الإنجيل اليوم.

فهل كان المسيح يقصد أن الإنسان يمكنه عن هذا الطريق (أي ترك غناه الأرضي)، أن يقتني الغِنَى السماوي؟

ماذا قال المسيحيون الأوائل؟

إن الانطباع الأول لكلمات المسيح، هو أن المسيح يدعونا إلى نوع من الحياة يتَّسم بجحد أي تَرْك كل ثروة الإنسان الأرضية (ولاحِظ أن الكلمات قيلت لشاب لم يتعب في أن يكون غنياً لأنه غالباً ورث كنزاً من والده).

وفي القرن الثاني الميلادي علَّم بعض المعلِّمين، كما في رسالة برنابا مثلاً: ”اعتَبِر كل شيء لك مَشَاعاً مع قريبك، ولا تَقُل عن شيء منها "هذا مِلْكي"، فإن كنتم شركاء في الباقيات غير الفانيات، فكم ينبغي أن تكونوا شركاء في الفانيات!“.

ونفس الوصية أن لا يقول أحد ”إن شيئاً من أمواله له“، نجدها في اختبار المسيحيين الأوائل أيام الرسل (أع 4: 32)، وفي إحدى وثائق القرن الأول أو الثاني، وهي ”الديداخي – أي تعاليم الرسل“ 4: 8.

وفي نفس القرن الثاني، نادى القديس إيرينيئوس أسقف ليون بفرنسا، بأن المقتنيات يجب أن تكون ”محايدة“ أي ”مشتركة“. فالاقتناء ليس شيئاً يُلام عليه الإنسان، ولكن لا يجب أن يتخذها الإنسان حقّاً له وحده، ذلك لأن كل شيء – إذا أمعنَّا النظر فيه – هو نتيجة تعب شخص أو أشخاص آخرين. فالمقتنيات يجب أن تُستخدم في القصد الصالح.

وتطبيقاً لذلك، فإذا كنتَ تمتلك مزرعة – مثلاً – للزرع والحصاد، فليس من حقك المسيحي أن تعتبر أن كل ما حصدتَه من هذه المزرعة هو مِلْكك لا يُشاركك فيه أحد! فكل ما تقتنيه هو نتيجة تعب شخص أو أشخاص سبقوك: فالبعض أتوا بالمواد الخام، وأدوات الحصاد صنعها البعض قبلك؛ والأرض والمطر الذي سقاها، هما عطية إلهية وليسا من صُنع البشر. فالمقتنيات لا يمكن لشخص واحد أن يدَّعي أنه صنع كل شيء فيها!

+ وكلمات القديس إيرينيئوس وجدت صداها في القرن الثالث. فأحد مُعلِّمي كنيسة الإسكندرية، وهو كليمندس الإسكندري، يوضِّح تفصيلاً ما نسميه نحن اليوم ”جحد“ الثروة والمقتنيات، وذلك في كتابه: ”هل يخلص الرجل الغني؟“. وما كتبه كليمندس يتخذ من تعليم المسيح في إنجيل مرقس – أصحاح 10 أساساً يُطبِّقه على الأسلوب الروحي في التفسير كان سائداً في أيامه. فيقول كليمندس الإسكندري إن القراءة الروحية لكلمات المسيح تعني أن الوصية في آية ما تعني ”جحد“ المقتنيات، بينما في آية أخرى تعني أن نقسم ما عندنا مع الفقراء، كما في (مت 25: 35-40): «جُعتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني، كنتُ غريباً فآويتموني، عرياناً فكسوتموني»، فيقول: ”إن لم يوجد مَن هو محتاج، فكيف يمكن للإنسان أن يُطعم الجوعان، ويسقي العطشان، ويكسو العريان، ويأوي الغريب، وهكذا يُجرِّد الإنسان نفسه من هذه المقتنيات؟“ (كليمندس – ”هل يخلص الرجل الغني“ - 13).

ويُوضِّح كليمندس الإسكندري رؤيته للثروة والمقتنيات التي قد يقتنيها إنسان يحتاج إليها أو هي نافعة له، فيُعطي للمحتاجين ما هو زائد عنها ولا لزوم لها عنده. وهكذا يفتح كليمندس باباً للسؤال الهام: كم يبلغ ما ينبغي أن يُقدِّمه الإنسان؟

الغني الرحيم، والغني منعدم الرحمة:

إنَّ تحديد كليمندس لمعنى ”الثروة الزائدة عن الحاجة“، صارت هي مقياس تفسير (مر 10: 21) للمعلِّمين والوعَّاظ واللاهوتيين الذين أتوا بعد كليمندس.

+ ففي نص من القرن الخامس ”عن الغِنَى“، يُصِرُّ الكاتب على أن الجحد الوحيد للثروة والمقتنيات هو الذي يجب أن يؤمِّن ويؤدِّي إلى إزالة فقر الآخرين.

+ أما ”بطرس“ الذي خلف كليمندس في رئاسته لمدرسة الإسكندرية (ثم صار أسقف الإسكندرية)، فقد علَّم في عظته عن الغِنَى، بضرورة التجرُّد من المقتنيات. فقد ردَّد بطرس أمرين هامين سيكون لهما صدى في الكتابات المسيحية اللاحقة.

فأوضح أولاً بأن الله يُفرِّق بين الغَنيِّ الرحوم، وبين الغَنيِّ منعدم الرحمة: فالأول، يُفرِّق ثروته الزائدة عن الحاجة على الفقراء؛ بينما الآخر، يستهلك كل ثروته ويستهتر باحتياجات الفقراء. فالغني الرحيم له منزلة خاصة أمـام الله.

والأمر الثاني الهام الذي يذكره بطرس هو أن هناك صلة مباشرة بين الصدقة التي يُقدِّمها الرجل الغني وبين مصيره بعد الموت. فبالنسبة لذوي الأموال الكثيرة الذين يريدون أن لا يجعلوا ثروتهم عائقاً في علاقتهم مع الله، فإنهم يقومون بتوزيع الصدقة على الفقراء.

+ وهكذا يكون كليمندس وبطرس قد وضعا أساس الشرح المسيحي على تعليم المسيح (في مرقس 10) والذي استمر طيلة الأجيال اللاحقة وحتى أيامنا الحاضرة.

+ وفي منتصف القرن الرابع، علَّم القديس غريغوريوس اللاهوتي في عظته، مُشجِّعاً محبة الفقراء، وعلى الأخص الذين يُعانون من المشاكل الخطيرة في صحتهم، ويشير إلى أن التمسُّك الجامح بالثروة هو المسئول عن الصراع بين الناس، وبين الأمم بعضهم بالبعض.

فالناس يُبذِّرون الذهب والفضة ويستهلكون كميات كبيرة وزائدة عن الحاجة من الملابس الثمينة والمجوهرات الفاخرة البرَّاقة، وأشياء أخرى، وهي نفسها ستكون وقود التمرُّد والصراعات؛ ويفتلون عضلاتهم تباهياً، ثم يـرفضون أن يُظهِروا أيـة رحمة تجاه المُعدَمين من بني جلدتهم (القديس غريغوريوس اللاهوتي – العظة 14: 25).

أساس محبة الفقير،

هي أن كل الثروة هي مِلْك الله:

إن محبة الفقراء تبدأ، أساساً، من الاعتراف بأن كل الثروة والمقتنيات هي حقّاً تخصُّ الله فقط.

+ وبنفس الفكر، يوازِن ”أستيريوس أسقف إميسا“ (معاصر للقديس غريغوريوس)، بين المقتنيات الأرضية الزائلة لكل إنسان، وبين مسئوليته أمام الله؛ فكل واحد سوف يكون مُطالَباً في يوم من الأيام أن يُعطي حساباً أمام الله عن استعماله لثروته ومقتنياته.

مقياس الحياة الفاضلة:

أما في القرن الرابع / الخامس، فإننا نجد خدمة القديس يوحنا ذهبي الفم ووعظه المشهورَين، ففي كثير من عظاته، يعرض للثروة بهذه الطريقة:

? إن الثروة وُجدت لكي تختبر مدى الحياة الفاضلة للإنسان، وما إذا كانت حياتنا الفاضلة تعتمد على مدى ما نعطيه للفقير – بسرور وعن رضا – من مقتنياتنا، أم لا.

+ ففي عظاته على إنجيل متى، يقول إن عطاءنا للفقير هو في حقيقته: عطاء مِمَّا هو لهم أصلاً وفي المقام الأول! فالله – ببساطة – قد استأمن الأغنياء على مسئولية توزيع غناهم!

وهذا يتضح في عظاته على الرسالة الثانية لأهل كورنثوس، حيث حدَّد المقتنيات الزائدة عن الحاجة بأنها هي كل ما يزيد عن الحاجة ليعيش الإنسان بصحة وكرامة.

+ فهو يُطالِب الأغنياء بأن يصرفوا الزائد عن الحاجة ويكتفوا بما يكفيهم فقط. أما حدود ما يكفيهم، فهو استعمال ما لا يمكنك الحياة بدونه. فلا أحد يمنعك ولا يحرمك من طعامك اليومي. وأقول: ”طعامك“ لا ”الولائم“؛ وأقول: ”ثيابك“ لا ”زينتك“. فكل المقصود هو ”الزائد عن الحاجة“ (القديس يوحنا ذهبي الفم – العظة 2 – على كورنثوس الثانية 19: 3-4).

+ ويلحُّ القديس يوحنا ذهبي الفم على سامعيه أن لا يُنفقوا أموالهم على ما هو غير ضروري، الذي هو أصلاً ليس لهم على الإطلاق، بل هو يخصُّ الله ولوارثينه المُعيَّنين من قِبَل الله، أي الفقراء.

+ بل وأكثر من هذا، يُعلِّمهم بالإنقاص التدريجي للاهتمام بالجسد، ما سوف يؤدِّي إلى الإنقاص التدريجي لاقتناء مقتنيات زائدة عن الحاجة؛ وبالتالي، الزيادة التدريجية لرغبة الإنسان في العطاء للمحتاجين.

والآن: هل يمكنك أن تكون غنياً بالله،

ولملكوت السموات؟

إنه بحسب تعليم المسيح في الإنجيل وشرح الآباء الأوائل، فإنَّ الجواب هو بكل يقين: نعم. فحينما قرأ المسيحيون الأوائل إنجيل مرقس 10: 21، فهموا أن الرب يسوع كان يقول عن أنَّ الثروة الزائدة عن الحاجة هي عائق واضح للشركة مع الله.

+ إن المسيحيين الأوائل اعترفوا بأن وقتية الثروة والمقتنيات إنما تخصُّ وقتية حياة البشر على الأرض، لكنهم رأوا أن الله يُطالِب الأغنياء بأن يُقدِّموا حساباً عن كيف استثمروا ثروتهم لمنفعة المحتاجين والمُعدَمين.

+ أخيراً، لقد تيقَّنوا من أن الله قصد من كل هذه الخليقة أن تكون لمنفعة الكل. وآمنوا بأن الله قصد أن يُشارِك الأغنياء والفقراء كل واحد مع الآخر، مما يعني أيضاً شرطاً بسيطاً هو أن يُشارِك الغني في ثروته الزائدة مع الفقير، مقابل أن يُشارِك الفقير أيضاً بصلاته واقترابه من الله مع الغني. +

**************************************************************************************************

استمع إلى عظات الأب متى المسكين

في موسم الصوم المقدس

+ مجموعة عظات ”هجرة المسيحي“ (7 شرائط) وأولها الثلاثاء: ما هو الصوم؟ 81 / 1 - 81 / 7

+ على جبل الصوم، جبل التجربة (رفاع الصوم الكبير 1982) 82 / 3

+ عظات على أناجيل أيام قدَّاسات الصوم المقدس عام 1990 (10 شرائط) 90 / 6 - 90 / 15

+ الصوم والفكر الذي في المسيح يسوع (بدء الصوم الكبير - 19/2/2001) 2001 / 3

**************************************************************************************************

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis