دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

في صوم نينوى:
"... أعظم من يونان"

+

نينوى ويونان، اسمان يستدعي كل منهما الآخر، حتى أنه رغم انتساب هذا الصوم مثلث الأيام إلى "نينوى"، باعتبار أن شعبها هو الذي صامه؛ فإن المؤمنين ينسبون هذا الصوم إلى يونان أيضاً باعتباره النبي الذي بشَّر أهل نينوى وأنذرهم وحثَّهم على التوبة فآمنوا وغفر الله لهم خطاياهم ورفع غضبه عنهم، وظلت قصة صومهم حتى بعد أكثر من اثني عشر قرناً نموذجاً يُحتذى في الصوم المثالي.

يونان في العهد القديم:

المرجع الأول في العهد القديم عن يونان (ومعنى الاسم في اللغتين العبرية والسريانية: حمامة)، هو الإشارة القصيرة المذكورة في سفر الملوك الثاني (2مل 14: 23-27) وتتضمن أنه ابن أمتَّاي الذي مــن جتِّ حافر (القريبة من الناصرة)، وأنه تنبَّأ في عهد يربعام بن يوآش ملك إسرائيل (793-753ق.م).

أما المرجع الرئيسي عن يونان فهو سِفْره القصير (4 أصحاحات تضم 48 عدداً) الذي يعرض بأمانة دعوة الله له كي يُنادي بالتوبة لشعب نينوى الأممي عدو إسرائيل، ولكنه تهرب من هذه المهمة واستقل من يافا سفينة متجهة غرباً في البحر المتوسط إلى ترشيش (قرطاجنة). فكانت العاصفة التي هددت السفينة بالغرق، وما تبع ذلك من إلقاء يونان في البحر ليلتقطه حوت يبقى فيه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ يقذفه بعدها إلى البر، وصاغراً يمضي لتنفيذ أمر الله مبشِّراً أهل نينوى الذين استجابوا للدعوة وصاموا ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم فصفح الله عنهم.

وجاء في التلمود أن يـونان هـو ابن أرملة صرفة صيدا (صيدون) الذي أقامه إيليا النبي من الموت (1مل 17: 21و22).

يونان في العهد الجديد:

رغم التاريخ القصير ليونان في العهد القديم إلاَّ أن ما مرَّ به من مواقف، سواء ابتلاع الحوت له وبقاؤه في جوفه أو بشارته لشعب نينوى التي أتت ثمارها إيماناً وتوبة منسحقة وإنقاذاً من الهلاك، جعلته في قلب أحداث العهد الجديد. فالله قد اختاره ليكون رمزاً للمسيح لينضم إلى مَن تمَّ اختيارهم من آباء العهد القديم ليخدموا هذه الغاية: هابيل، وملكي صادق، وإسحق، ويوسف، وموسى، ويشوع، وغيرهم.

وبينما لم يأتِ ذكر يونان في كل أسفار العهد الجديد التالية للبشائر الأربع إلاَّ أن الرب هو الذي ألقى الضوء على دور يونان، وأن ما اجتازه من اختبار عنيف أو حمله إلى بطن الحوت، هو الآية التي صاغها التدبير الإلهي قبل قرون، حيث تضافر هروب يونان وثورة العاصفة والحوت العظيم لتأكيد صِدْق إرسالية الرب المخلِّص، فيقول رداً على مَن طلبوا منه آية: "جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلاَّ آية يونان النبي، لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ" (مت 12: 39و40؛ لو 11: 29و30)؛ إشارة مُسبقة عمَّا سيحدث للرب من موت وقيامة بعد نفس المدة.

والرب عندما قال هذه الكلمات لم يكن يربط بين حدثين وقعا بالفعل، وإنما بين حدثٍ وقع قبل قرون مضت، ويعرفه اليهود ورؤساؤهم، وحدثٍ هو يعرف بعلمه السابق أنه سوف يقع فيما بعد. فهو يضع كلماته في الامتحان، وعلى المشكِّكين فقط أن ينتظروا ليروا. ولو لم يكن يعرف الماضي والمستقبل لَمَا التفت إلى حادثة يونان في العهد القديم ولجرَّدها من أي بُعْد رمزي يتعلَّق بالخلاص. فكما خرج يونان حيًّا من بطن الحوت، ستكون قيامة المسيح بعد أيام القبر الثلاثة ولياليه الثلاث شهادة على صدق رسالته وأقواله وعلى إتمام نبوَّات العهد القديم فيه. وعلى المقاومين في كل زمان إذا شاءوا الاحتكام إلى الحق والخضوع له أن يُقارنوا الحدث الرمز القديم بالحقيقة الساطعة التي أشار الرب إلى أنها ستتم وتمَّت بالفعل وسجَّلتها كلمة الله التي لا تكذب.

ومن ناحية أخرى، فإن موت الرب وبقاءه في القبر لثلاثة أيام هو شهادة إلهية على صدق حادثة يونان بكل ملابساتها المثيرة، وصدق كلمة الله.

كما ذكر الرب يونان مرة أخرى من زاوية ثانية هي أن أهل نينوى الذين تابوا بكرازة يونان سيدينون جيل اليهود الذين عاصروا المسيح ولم يقبلوا دعوته للتوبة والإيمان به كمخلِّص: "رجال نينوى سيقومون في الدِّين مع هذا الجيل ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان." (مت 12: 41، لو 11: 32)

المسيح ويونان:

في ختام كلماته السابقة يشير الرب إلى أنه إذا كان ليونان دور في الشهادة لصدق رسالته وكرازته وعمله الخلاصي فإنهما ليسا ندَّيْن، لأن المسيح أعظم من يونان بما لا يُقاس "وهوذا أعظم من يونان ههنا." (مت12: 41، لو 11: 32)

والمسيح أعظم من يونان بمقدار أن السيد أعظم من العبد (يو 13: 16؛ 15: 20)، والمعلم أعظم من التلميذ والمُرسِل أعظم من الرسول (يو 13: 16)، ورب الهيكل أعظم من الهيكل (مت 12: 6)، وباني البيت أعظم من البيت (عب 3:3). وإذا كان يونان نبيًّا، فالمسيح هو الرب من السماء (1كو 15: 47).

كما أن المسيح أعظم من يونان من جهة خدمة كل منهما وحياته:

فيونان عنصري متعصِّب لبني جنسه، كاره لتوبة الآخرين من الأمم. وقد أسعده أن الله مزمع أن يُدمِّر نينوى ويُعاقب أهلها أعداء إسرائيل لتصاعُد شرهم. وأزعجه اهتمام الله برجوعهم وتوبتهم، وتجاهَل أمر الله له بالذهاب إليهم وإنذارهم، وبدلاً من ذلك خطط "ليهرب من وجه الرب" (يون 1: 3). ونزل إلى قاع السفينة واجتهد أن ينام "نوماً ثقيلاً" إمعاناً في الهرب من صوت الله في داخله، ناسياً قول المزمور: "أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب" (مز 139: 7). وحتى بعد أن مرَّ بالاختبار المرّ بهياج البحر والسقوط في جوف الحوت، وإذعانه لأمر الرب وتوجُّهه إلى أهل نينوى الذين تابوا بمناداته، وبدل أن يفرح بخلاص إخوته يكتب في سفره: "فغمَّ ذلك يونان غمًّا شديداً فاغتاظ (وصلَّى) إلى الرب وقال: آه يا رب. أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي. لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش، لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم، بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر. فالآن يا رب خُذْ نفسي مني، لأن موتي خير من حياتي" (يون 4: 1-3). فهو في قصر نظره وتعصُّبه يُعاتب الله ويكاد يؤاخذه على حبه ورحمته واتساع قلبه وقدرته على الغفران الذي من غيره ما كان للإنسان من مصير غير الهلاك الأبدي.

ولكن المسيح يختلف. فهو الذي أحب - حتى أعداءه - إلى المنتهى (يو 13: 1)، ومكتوب عنه أنه لا يُسر بموت الشرير بل برجوعه عن طرقه فيحيا (حز 18: 23، 2بط 3: 9)، على عكس يونان الذي غمَّه هذا الأمر غمًّا شديداً، وهو الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف (يو 10: 11)، والبار الذي تألم من أجل الأثمة (1بط 3: 18).

وقد التقى الرب أثناء خدمته بمن لهم نفس توجُّه يونان، ولكنه أكَّد دوماً على إشفاقه وتحنُّنه على بني البشر دون تمييز. فها هما ابنا زبدي يسألانه أن تنزل نار من السماء فتفني قرية السامريين التي لم تقبله، ولكنه ينتهرهما ويقول لهما: "لستما تعلمان من أي روح أنتما، لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس الناس بل ليُخلِّص." (لو 9: 52-56؛ 19: 10)

والمرأة الخاطئة دانها الجميع - الذين لم يكونوا أفضل منها - وقدَّموها إلى الرب كي يُجري حُكم الموت، ولكنه - وهو البار القدوس - أشفق على المرأة قائلاً لها: "ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تُخطئي أيضاً." (يو 8: 11)

وعندما رأى الرب المرأة المنحنية ووضع يديه عليها فاستقامت، احتج عليه رئيس المجمع لأن الرب شفاها يوم سبت، فقال الرب: "... وهذه هي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة، أَمَا كان ينبغي أن تُحَلَّ من هذا الرباط في يوم السبت!" (لو 13: 16)

وهنا يصدق قول داود: "فلنسقط في يــد الرب لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يـد إنسان" (2صم 24: 14). وقد كشف لنا الابن عن محبة الله وشفقته وحنانه واتساع رحمته: "كإنسان تعزيه أمه، هكذا أُعزِّيكم أنا" (إش 66: 13)، "الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين" (رو 8: 32)؛ بينما يمتلئ قلب البشر - حتى بعض المتدينين منهم - بالقسوة والكراهية والتعصُّب.

ولقد سعى الرب كي يُغيِّر فكر يونان، فأعدَّ يقطينة لتظلِّل عليه، ثم سمح لها أن تيبس في الغد، فانزعج يونان جداً، فقال له الرب: "أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها، أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم" (يون 4: 10و11). والله يُعلن هنا للكل أنه إذا كان يعتني حتى بالنباتات التي لا تُدرك من أمرها شيئاً، فحَدْبُه واهتمامه بالبشر أعظم بما لا يُقاس، وخلاصهم هو الأساس والأصل، بينما العقوبة هي نتيجة رفض الخلاص والحياة مع الله، وهي نفس المعاني التي أكَّدها المسيح بعدما أشار إلى عنايته بعشب الحقل وطيور السماء قائلاً: "فلا تخافوا. أنتم أفضل من عصافير كثيرة." (لو 12: 7)

+++

لقد عاقب الله يونان على تعصُّبه وانغلاقه، ويهمنا كمؤمنين بالمسيح أن نعي أنه ليس لنا وحدنا وإنما هو للعالم كله. فهو المخلِّص الذي مات لأجل الجميع (2كو 5: 15)، ولا يليق أن نستأثر به، فلا فضل لنا إذ عرفناه. نحن كلنا مدينون لمحبته ودمه النازف وموته وقيامته. والله هو الذي اختارنا فيه قبل تأسيس العالم (أف 1: 4). كما أن عمله الخلاصي من الكمال والشمول بما يكفل إنقاذ كل البشر من الهلاك، إن أرادوا: "وهو كفَّارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً." (1يو 2: 2)

وعلينا أن نثق أننا سنظل دوماً موضع رعاية الله لنا جسداً ونفساً وروحاً. إننا اليقطينة التي خلقها وغرسها في الأرض وتعهَّدها بالعناية كل الحياة، والتي بذل دم ابنه لكي لا تهلك بل تحيا إلى الأبد. فلا نفقد أبداً رجاءنا في رحمة الله وتحنُّنه وقدرته على الغفران: "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهِّرنا من كل إثم." (1يو 1: 9)

وليكن صومنا مع أهل نينوى تأكيداً لإيماننا بدوام محبة الله لنا: "محبة أبدية أحببتُك من أجل ذلك أدمتُ لك الرحمة" (إر 31: 3)، وأننا لا نترجَّى في خلاصنا غير دم ابنه ورحمته التي وسعت كل قصورنا ونقصنا بغير حدود.

دكتور جميل نجيب سليمان


استمع إلى عظات الأب متى المسكين

في مناسبة صوم نينوى والصوم الأربعيني المقدس

يونان النبي وصومه 74 / 3

حديث روحي مع بعض الخدَّام (1) - صوم نينوى 77 / 15

توبة نينوى 82 / 2

مجموعة عظات "هجرة المسيحي" (7 شرائط) وأولها الثلاثاء: ما هو الصوم؟ 81 / 1 - 81 / 7

على جبل الصوم، جبل التجربة (رفاع الصوم الكبير 1982) 82 / 3

عظات على أناجيل أيام قدَّاسات الصوم المقدس عام 1990 (10 شرائط) 90 / 6 - 90 / 15

الصوم والفكر الذي في المسيح يسوع (بدء الصوم الكبير - 19/2/2001) 2001 / 3

تُطلب من:

دار مجلة مرقس

القاهرة: 28 شارع شبرا - تليفون 5770614

الإسكندرية: 8 شارع جرين - محرم بك - تليفون 4952740