تأملات في
شخص المسيح الحي
- 52 -



المسيح

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (20)

ثانياً: المسيح الكاهن الأعظم (13)

تقديم المسيح نفسه ذبيحة من أجل حياة العالم (8)

آلام المسيح وموته وقيامته معنا ومن أجلنا:

المسيحية تُبشِّر بـالآلام الحقيقية حتى الموت لابن الله المُتجسِّد، التي كانت بنا، ومن أجلنا.

+ هـذه الحقيقة الإلهية التاريخية كفيلة بأن تنزع من آلامنا اليومية أي نزوع نحو اليأس: «ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية، ليكون فَضل القوَّة لله لا مِنَّا. مُكتئبـين في كـلِّ شيء، لكـن غـير مُتضايقـين. مُتحيِّريـن، لكـن غـير يـائسين. مُضطَهَدين، لكن غير متروكين. مطروحين، لكـن غير هالكين. حاملين في الجسد كلَّ حينٍ إماتة الرب يسوع، لكي تُظْهَرَ حياةُ يسوع أيضاً في جسدنا. لأننا نحن الأحياء نُسلَّم دائماً للموت من أجل يسوع، لكي تَظْهَرَ حيـاةُ يسـوع أيضاً في جسدنا المائت» (2كو 4: 7-11).

+ إنَّ معنى الصليب هو أنَّ كلمة الله المُتجسِّد قد تألَّم من أجلنا. وهناك، على الصليب، قد وضع حياته للموت من أجل حياة العالم، أي من أجل كل البشر. نقولها للذين لا يعرفون ماذا عمل الله مـن أجـلنا! المسيحية تُبشِّر بـالمحبة الباذلة العجيبة لله في المسيح، الذي جُـرِحَ مـن أجل معاصينا، وحَمَل خطايانا وخطايا كل العالم، كمثل الحَمَـل الذي كـان يُذبَح قديماً كتكفيرٍ لخطايـا إنسانٍ خاطئ. ولكن المسيح ابـن الله وكلمة الله مات بالجسد لكي يَهَبَ الحياة الأبدية للبشر.

والله، في المسيح، قدَّم ذاته كتكفيرٍ حقيقي عن خطايانا، وما زال، وليس من أجلنا نحن المؤمنين فقط، بل ومن أجل خطايا العالم أجمع، ومن أجل مَنْحهم جميعاً - كل مَـن يؤمن - الحياة الأبدية التي لا تموت أو تنتهي.

لذلك فالحياة الروحية المسيحية لكـلِّ مؤمن - على حِـدَة - هي جهادٌ وحربٌ دائمَيْن. وهي حربٌ انتصارُهـا معروفٌ، وتمَّ اختبارهـا مـن القدِّيسين والمؤمنين (كما وَرَدَ في كتاب: ”بستان الرهبان“ في: لماذا تُحاربنا الشياطين؟)؛ ولكن معاركها اليومية تظلُّ دائـرة في حياتنا اليومية، منتظرين اليوم الأخير حينما تحلُّ الأبديـة، حيث نقف أمام كرسي دينونة الله.

+ الحرب الروحية دائمة ومستمرة وعميقة في الحياة الروحية للمؤمنين، وهي تظهـر في أشـكالٍ ضد: الكبريـاء، والغوايـات المتعدِّدة، والطمع، والحسد والغيرة مـن نجاح الآخريـن. وهذه لا تُكْبَح بوسائل أرضية، ولكـن: «نحن لا نحارِب أعـداءً مـن لحم ودم، بـل أصحابَ الرئـاسة والسلطان والسيادة على هـذا العالم، عالم الظلمة والأرواح الشريـرة في الأجـواء السماويـة. لـذلك احملوا سـلاح الله الكامـل لتقدروا أن تُقاوموا في يـوم الشـرِّ، وأن تثبتوا، بعدمـا تمَّمـتم كـلَّ شـيء. فـاثبتـوا، إذن، مُتمنطقـين بـالحقِّ، لابسـين درع الاستقامـة، منتعلين (أي لابسين في أقدامكـم) بالحماسة في إعلان بشارة السلام. واحملوا الإيمان تُرسـاً في كلِّ وقتٍ، لأن به تقدرون أن تُطفئوا جميع سهام الشريـر المُشتعلة. والبسـوا خـوذة الخلاص، وتقلَّدوا سيف الروح الذي هو كلام الله. صلُّوا كلَّ وقـتٍ في الـروح، مُبتهلين، وتنبَّهـوا لـذلك، وواظِبوا على الدُّعـاء لجميع الإخوة القدِّيسين» (أف 6: 12-18 - الترجمة العربية الجديدة).

التأديب والتهذيب:

”العقوبة“ مفهومٌ قانـوني لـدى الدول وأمام المحاكـم، وأمَّـا ”المُعاقبـة“ و”التهذيب“ فهمـا مفهومان متداولان في نطاق ”الأسرة“. والتأديب والتهذيب هما - في الوقت نفسه - عمل الروح القدس في تطهير وتهذيب روح الإنسان وتعليمه ”الحاسَّة الخُلُقيَّة“. وتعميق فَهْم الإنسان للتهذيب ليس بالضرورة محدوداً بالعقاب فقط.

+ ولكـن لأن الوالدَيْـن يحبان أطفالهما، لذلك فهُمـا يُهذِّبـانهم، أي ”يؤدِّبـانهم“. ونقص التهذيب والانضباط، يجعـل الأطفال غير مُهيَّئين للحياة في العالم والمجتمع، وبالأكثر في سلوك الحياة الروحية.

+ والوالدان المعتنيان بتربية أطفالهما، لابـد لهما في وقتٍ مـا أن يجـدا أنفسهما مضطرَّيْن لتأديب أبنائهما انطلاقاً مـن محبَّتهما لهم، ولكن ليس كهدفٍ في حدٍّ ذاته، أي ليس في كل وقت ولا في وقت محدَّد، أو بـلا هدف تأديبي؛ بل لأسبابٍ ضرورية لتصحيح خطأ ما مُحدَّد.

+ وفي التقليد المسيحي يُنظَر للألم على أنه، أحيانـاً، أداة للتعليم والتهـذيب والتربيـة لمُمارسـة اختبـار القداســة؛ ولكـن، أحيـانـاً، للتطهـير والإصلاح، وذلك لكي يشبَّ الأطفـال على الأعمال الصالحة وحياة القداسـة، ثم ليكونـوا ”رجالاً“ في الحياة اليومية الاجتماعية، وفي الحياة الروحية أيضاً.

+ والنقطة الهامة في المسيحية، هي استنكار الخطيـة وشِبْه الخطيـة أيضاً؛ لأن الله - في تجسُّده - واجه خطايا البشرية، وذاق كم كلَّفته خطايا البشر حتى الموت بالجسد على الصليب. لقد صار ابـن الله ”مجروحاً لأجـل معاصينا، مسحوقاً لأجل آثامنا“ (إش 53).

+ إنَّ مضمون التعليم عن عقوبة الخطايا، ليس مُسجَّلاً في مراجع قانونية أمام قاضي المحكمة؛ بل استُعلِنَ جهاراً في جسد المسيح الذي حَمَل خطايانا وآثامنا على خشبة الصليب من أجل البشرية كلها. وهكذا حَمَلَ ابن الله المُتجسِّد كل عقوبات البشرية على نفسه هـو، ليجعل البشرية كلها بريئة مُهيَّأة لبنويَّة الله، كلَّ مَن يؤمن وينال نعمة المعمودية.

+ وكـل جانب مـن جوانب آلام أي شخص بسبب خطيتـه، إنما هـو لبنـاء نفسه وروحه، ولتطهيره، ليكون أهلاً لبلوغ ملكوت الله: «وأنك منذ الطفولية تعرف الكُتُب المقدَّسة، القادرة أن تُحكِّمك (تجعلك حكيماً) للخلاص، بالإيمان الذي في المسيح يسوع. كل الكتاب هو مُوحًى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً، متأهِّبـاً لكـلِّ عملٍ صالح» (2تي 3: 16،15)، «لم تُقاوموا بعد حتى الدم... لكي نشترك في قداسته» (عب 12: 4-10).

تلاميذ المسيح والقيامة:

حينما كـان تلميذا عمـواس عائـدَيْن إلى موطنهما بعد حدوث الصَّلْب، قالا للمسيح (دون أن يعرفاه): «... ونحن كُنَّا نرجو أنه هو المُزمِع أن يفدي إسرائيل. ولكن، مع هذا كله، اليوم له ثلاثة أيـام منذ حدث ذلك؛ بل بعض النساء مِنَّا حَيَّرْنَنَا إذ كُنَّ باكراً عند القبر، ولَمَّا لم يَجِدْنَ جسده أتينَ...» (لو 24: 20-23)، وذلك بعد أن سمعوا عن القبر أنه فارغ وليس به جسد يسوع فلم يؤمنوا، «بل بعض النساء مِنَّا حَيَّرْنَنَا إذ كُنَّ باكـراً عند القبر، ولمَّا لم يَجِـدْنَ جسده أتينَ قائلات: إنهُنَّ رأينَ منظر ملائكة قالوا إنه حيٌّ. ومضى قومٌ مـن الذين معنا إلى القبر، فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النساء، وأمَّا هو فلم يَرَوْه» (لو 24: 22-24).

+ وحينمـا قـابلهما المسـيح في الطريـق كـأنه مُسافـر مثلهما، وعـرف مشاعـرهما (أي إحباطهما)، وبَّخهمـا بكلماتٍ مثـل: «أيهـا الغبيَّان والبطيئـا القلـوب في الإيمان» (لو 24: 25). وهي عبارة تُشير، لا إلى قيامته، بل إلى ضرورة الصليب، وإلى أنَّ المسيح كان لابد أن يتألَّم. ثم بدأ المسيح يُعلِّمهما أنه فقط بعد قيامته، كان قادراً أن يبدأ فيُفسِّر لهم «مـن موسى ومـن جميع الأنبياء... الأمـور المُختصَّة به في جميع الكُتُب» (لو 24: 27).

المسيح الغالب المنتصر

”الله الحي“، ”كلمة الحياة“

بموت الـرب يسوع انقضى وانتهى العهـد القديم. وبقيامة الرب يسوع من الموت، بدأ العهد الجديد. فالذي مات، ها هو قد قام!

والذي قام، قد ”صعد“ إلى السموات العُلا. والذي ”صعد“، وَعَدَ بأنـه ”سيأتي“ مـن جديد ليدين الأحياء والأموات.

استعادة مجد الابن

استعادة الابن المتجسِّد لمجده الإلهي: ”أقامه الله“، ”ارتفع بيمين الله“ (أع 2: 32)، «هذا رفَّعه الله بيمينه رئيساً ومُخلِّصاً» (أع 5: 31)، «لذلك رفَّعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسمٍ» (في 2: 9)، صلاة يسوع للآب: «والآن مَجِّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كَوْن العالم» (يو 17: 5)، «يسوع نراه مُكلَّلاً بالمجد والكرامة» (عب 2: 9)؛ وكل هذه الأمجاد تآلفت معاً لتُظهِر العودة الكاملة لمُمارسة الابن المُتجسِّد لسُلطانه الإلهي، الذي كان مُقيَّداً بالتدبير بسبب التجسُّد خلال الفترة ما بين تجسُّده وميلاده وحتى الصَّلْب والدفن، وهذا ما يُسمَّى في التعبير اللاهوتي: ”إخلاء الابن من مجده الإلهي بإرادته وسُلطانه“: من جوع إلى ألم إلى موت ودَفْن، تَمَّ بالجسد (ولكـن لم يُمسَّ أُقنومـه الإلهي على الإطلاق، بل كان كل هذا واقعاً على الجسد الذي لَبِسَه فقط). وهكذا أَخَذَ ابن الله في تجسُّده ”شكل العبد“، لكن كل القيود البشرية لم تمسَّ لاهوته لاستكمال إرساليته للعالم.

+ والآن، رجع الابن المُتجسِّد بكل سُلطانه الإلهي الذي كـان لـه لتكميل خدمته الخلاصية للجنس البشري(1).

أربع خطوات أظهرت المجد الإلهي للمسيح: حسـب التقليد الكنسي، نستطيـع أن نكتشف أنَّ المجد الإلهي للمسيح يشمل أربـع خطوات، كما وَرَدَت في الإنجيل وفي قانون الإيمان (في مجمع نيقيـة ومجمـع القسطنطينيـة المسـكونيَّـيْن): ”النزول إلى العـالم السُّفْلي (الجحيم)“، ”القيامة“، ”الصعود“، ”الجلوس عن يمين الآب“.

+ وهـذه الأمجاد الأربعة يظهر بعضها في قانـون إيمـان ”روفينوس“ (سنة 404م تقريباً، وبعضها أو أحدهـا في قانـون إيمـان الرسل)، والثلاثة البنود الأخيرة لدى ”ترتليانس“ (حوالي سنة 200م).

+ لقد استُعلِنَ مجد المسيح، ولكن دون رؤية أحد من البشـر، بـل خِفْيةً في نـزوله للمواضع السُّفْليَّة (الجحيم): ولكن هذا عُرِفَ في التاريخ بعد القيامة، ثم صعود المسيح من الأرض إلى السماء، وهذا كان برؤية التلاميذ عياناً لصعود المسيح، وقد ذكـروه ووصفوه في الأنـاجيل (مر 16: 19؛ لو 24: 51،50؛ أع 1: 9-11).

+ وهـذه الأربعـة الأحـداث التي أَظْهَرت استعلان أمجـاد الابـن الأزلي، اكتمـل التعبير عنهـا بشـكلٍ مُتكامـل في الـرسـالة الأولى للقديس بطرس الرسول: «... الذي أقامـه مـن الأموات وأعطاه مجداً» (1بط 1: 21)، «الذي فيه أيضاً ذَهَبَ فكَرَزَ للأرواح التي في السجن، إذ عَصَـتْ قديمـاً، حـين كـانت أنـاةُ الله تنتظـر مـرَّةً في أيـام نـوح، إذ كـان الفُلك يُبنَى، الذي فيـه خَلَصَ قليلون، أي ثماني أَنفسٍ بالماء» (1بط 3: 19-20).

+ وبدون النزول إلى الجحيم، والشفاعة مـن أجل الموتى والصعود إلى السماء؛ تكون القيامة غير كاملة في مضمونها، لأنها تكون قد افتقرت للإعـلان الكامـل للخـلاص الكامـل للأحياء والأموات، الذي أتى المسيح ليُتمِّمه.

+ وبهـذه الأحداث الأربعة المُتَّصلة بعضها بالبعض في وحدةٍ مُتكاملة، يُعلَن ”مجد ابن الله المُتجسِّد“ بهـذا التعبير: «هـذا رفَّعه الله بيمينه رئيساً ومُخلِّصاً» (أع 5: 31).

+ وإنَّ القصـد الواحـد لقيامـة المسـيح وصعوده، وشفاعتـه مـن أجل الموتى، وبحسب كلمات القديس إيرينيئوس (سنة 180م)، بالنصِّ المشهور له، هـو: ”لكي يكتمل كـل شيء تحت رأسٍ واحـد، وليُقـيم كـل أجسـاد الجنـس البشري“(2). وبذلك يكون الخلاص قد اكتمل.

(يتبع)

(1) Athanasius, Four Discourses Ag. Arians I,37-64; NPNF, 2, IV, pp. 327-43.
(2) Ag. Her. I, 10.1, COC II, pp. 13-14.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis