طعام الأقوياء
- 80 -



الابن المولود من الآب قبل كل الدهور،
وُلد جسديّاً من العذراء في ملء الزمان
من أجل خلاصنا

+ «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تي 3: 16).

الابن المولود من الآب قبل كل الدهور:

العلاقـة بـين الآب والابـن التي توصَف بها العلاقـة بين الأقنـوم الأول والأقنـوم الثاني مـن الثالوث القدوس، هي علاقـة كائنـة منذ الأزل في طبيعة الله الأزلي، أي أنَّ الابن كـان دائمـاً في حضن الآب، والآب في الابـن، والآب والابن والروح القدس هم واحـدٌ في ثالوث، وذلك في قول الابن: «إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي. وَلكِـنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ، فَـإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فـآمِنُوا بِالأَعْمَالِ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَـا فِيهِ» (يو 10: 38،37)، «أَنَـا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يو 10: 30)، «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يـو 14: 9)، «ألستَ تؤمـن أَنِّي أَنَـا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ» (يـو 14: 10)، «لَيْسَ أَحَـدٌ يَعْـرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت 11: 27).

لذلك بـدأ القديس يـوحنا الإنجيلي والرسول إنجيله بقوله: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَـانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّـورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ» (يو 1: 1-5).

+ وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:

[بالنسبة للابن (الكلمة)، فالبدء ليس بدءاً زمنياً ولا جغرافياً، فهو أزليٌّ وأقدم من كلِّ الدهور، ولم يُولَد من الآب في الزمان لأنه ”كان“ مع الآب مثل الماء في الينبوع، أو كما قال هو: «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ، (وَأَيْضاً أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ)» (يو 16: 28). فـإذا اعتبرنـا الآب المصدر أو الينبوع، فإنَّ الكلمة كـان فيه لأنـه حكمته (وكلمته) وقوَّتـه وصـورة جوهره وشعاع مجده. وإذ لم يكُن وقتٌ كـان الآب فيه بـلا حكمة وكلمة وصـورة وشعاع؛ فإنـه مـن الواضح أنَّ وجـود الابـن الذي هـو حكمة وكلمـة وصـورة الآب وشعاع مجـده، أَمْرٌ لا يحتاج إلى إقرارٍ منَّا، فهو أزليٌّ مثل الآب الأزلي، وإلاَّ كيف يـوصَف أنـه صورتـه الكاملة ومثاله التام، إلاَّ إذا كان له بوضوح ذات الجمال الذي هو على صورته...

لأن الابن في الآب وهو مـن الآب، ليس كمَن يأتي من الخارج في الزمان، بل هو من ذات جوهـر الآب، يشـعُّ مثل الشعاع مـن الشمس أو صـدور الحرارة مـن النار. هذه الأمثال تعني أن نفهم كيف يُولَـد أو يصـدر الابن مـن الآب، وفي نفس الوقت، لا يصدر متأخِّراً أو بعد زمـنٍ، أو أن يكون له طبيعة مختلفة، بل يصـدر الواحـد مـن الآخـر ويظلُّ كائناً معه ولا ينفصل عنه، بل لا يمكن لأيٍّ منهما أن يُوجَد بدون الآخر...](1).

صفة الولادة في الابن صفة جوهرية

ذاتية في الابن:

كمـا يجب أن نُـلاحِظ أنَّ نفس الطبيعة الإلهية توجَـد أزليّاً وفي كمالٍ متساوٍ في الآب كما في الابن، إلاَّ أنَّ صفة الولادة في الآب فقط دون الابن (المولود من الآب قبل كل الدهور). هذه الولادة، وهذه الوحدة في الطبيعة، تُحتِّم أن يكون الابن من نفس جوهر الآب. وبما أنَّ كلَّ شيء قد خُلِقَ بالابن من العدم: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَـانَ» (يو 1: 3)، وبما أنَّ الابـن في الآب؛ فكـلُّ ما يعمله الابـن يعمله الآب، وكـلُّ ما يعمله الآب يعمله الابـن. إلاَّ أنَّ الابن وحـده هو الذي تجسَّد وأعلن مجد الآب ومحبة الآب للعالم: «اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. الاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18).

إذن، فالأُبوَّة في ذات الله هي أُبوَّة جوهريـة قائمة في جوهر الآب منذ الأزل، وهي أصل كل أُبـوَّة؛ كما أنَّ البنـوَّة في ذات الله هي صـفة جوهريـة في الله وهي أصل كـل بنوَّة. كما أنَّ محبـة الآب للابـن هي المحبة التي تفيض على الخليقة كلها، وهي المحبة الأبويَّة للابـن الوحيد التي يحب بها الآب ابنه حُبّاً غير محدود، وأحبَّ بها العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.

«كما أن الآب له حياةٌ في ذاته، كذلك أعطى

الابن أن تكون له حياة في ذاته» (يو 5: 26):

الله واحـدٌ في ثالـوث: الآب والابن والروح القدس، وقد أَمَر المسيح تلاميذه بعد قيامته قائلاً: «اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْـنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُـمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (مت 28: 20،19).

فالروح القدس هـو الأقنوم الثالث وهو يُدعَى الروح المُحيي، والروح المُعزِّي، وروح الحياة، وروح الآب، وروح الابن. وهو في ذات جوهر الله، وهـو الحياة الذي ينبثق من الآب في الابن. وكما أنَّ الآب هو أصل كل أُبوَّة، والابن هو أصل كـل بنوَّة، كذلك الروح القدس هـو الروح الفعَّال في الخليقة أصل كـل الحياة فيها، وهـو الذي حـلَّ على العذراء القديسة مريم فولدت لنا مُخلِّص العالم المسيح إلهنا، وهـو الذي وُلِدنا منه في المعمودية بالماء والروح.

+ وفي هـذا يقـول القديـس أثناسيوس الرسولي:

[بسبب نعمة الروح القدس المُعطاة لنا، نصير نحن فيه وهـو فينا. وحيث إنه هـو روح الله، فبسبب كونـه فينا، نُعتَبَر بحقٍّ - إذ قـد اقتنينا الروح - أننا في الله وكذلك أنَّ الله فينا، غير أننا لا نكون في الآب بمثل ما يكون الابن في الآب؛ لأن الابن لا يشترك في الروح ليصير بواسطته في الآب، وهـو لا ينال الروح، بل بـالحري هـو الذي يُعطيه للجميع. والروح القدس لا يربط الكلمة بالآب، بـل بالحري الروح يأخذ مِمَّا للكلمة (ويُعطينا). والابـن في الآب لكونه كلمته الخاص وبهاءه، أمـا نحـن بدون الروح القدس نكون غرباء وبعيدين عـن الله. ولكننـا بشركـة الـروح القدس نتَّحـد بـاللاهـوت (نصير ”شـركاء الطبيعـة الإلهية“)، حتى أن وجودنـا في الآب أَمْرٌ لا يخصُّنا نحن، بـل يخصُّ الروح القدس الكائن فينا والثابت فينا](2).

ابن الله وُلد جسديّاً من العذراء

في ملء الزمان من أجل خلاصنا:

ابن الله المولود مـن الآب قبل كل الدهور، الذي هـو نور من نور، وإله حق من إله حق، ومولـود غير مخلوق، ومساوٍ للآب في الجوهر، والذي به كان كل شيء (قانون الإيمان)؛ هذا الابـن «الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَـلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقًّا» (يو 1: 14). فهو ”من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسَّد من الروح القدس ومـن مـريم العذراء وتأنَّـس...“ (قانون الإيمان).

+ وفي هذا يقول القديس إيرينيئوس:

[كيف كان يمكن للإنسان أن يذهب إلى الله، لو لم يكن الله قد جـاء أولاً إلى الإنسان؟ وكيف كـان يمكن للبشر أن ينعتقـوا مـن ميلادهم الأول المؤدِّي إلى المـوت، لـو لم يُولدوا من جديد بالإيمان بذلك الميلاد الجديد الإعجازي المُعطَى مـن الله كآيـة للخلاص (انظر إش 7: 14: «يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً»)، أعني الميلاد الذي صار من العذراء؟ بل، وكيف كان يمكن أن ينالوا التبنِّي لله وهم باقون في ميلادهم الأول الذي بحسب البشر في هذا العالم؟... من أجل ذلك صار الكلمة إنساناً وصار ابن الله ابناً للإنسان، لكي يتَّحد الإنسان بـالكلمة، فينـال التبنِّي ويصير ابناً لله](3).

«(الله) اختارنا فيه (في المسيح) قبل تأسيس العالم، لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة» (أف 1: 4):

فالله الذي خَلَقَ الإنسان على صورته ومثاله منذ بداية الخليقة، كان قد أضمر في نفسه أن يخلق الإنسان على صورتـه في البرِّ والقداسة والمعرفـة وحريـة الإرادة والسلطة، لعلمه أنَّ الإنسان رغم خلقته على صورة الله لـن يمكنه الثبات فيها إلاَّ بتوسُّط ابن الله المتجسِّد: «إِذْ سَبَقَ (الله) فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ» (أف 1: 5).

وهكذا نقول في التسبحة عـن دخول الخطية للعالم وتجسُّد المسيح لخلاص الإنسان:

[لأن آدم أبانـا المخلوق الأول بيـدَي الله الخالق، بمشورة حواء أُمِّنا الأولى، أَكَلَ مـن ثمرة الشجرة (المُحرَّمة)، فجـاء على جنسنا وكل الخليقة سلطان الموت والفساد. ومِن قِبَل مريم والدة الإله أُرجِعَ آدم إلى رئاسته دفعةً أخرى](4).

+ وفي هـذا يقـول القديـس أثناسيـوس الرسولي:

[ولهذا كـان مـن الصواب، إذ أراد منفعة البشر، أن يأتي إلينا (ابن الله الكلمة) كإنسانٍ آخِذاً لنفسه جسداً شبيهاً بجسدهم مـن أسفل، حتى يستطيع الذين لا يُريدون أن يعترفوا به، مـن خلال أعمال عنايته وسلطانـه على كلِّ الأشياء، أن يُبصـروا الأعمـال التي عملها بجسده - هنا على الأرض - ويعرفـوا كلمة الله الحـالَّ في الجسد، ومـن خلال الكلمة المُتجسِّد يعرفون الآب](5).

وهكذا جـاء ابـن الله مُتجسِّـداً، وتنازَل إلى المنتهى ووُلِدَ طفلاً رضيعاً محمولاً على الأيـدي ومُضجعاً في مذود. وكما يقول الأب متى المسكين:

[هكذا نزل إلى القاع لكي إذا ارتفع يضمن أن يحمل على منكبيه كـل المُذَلّـِين والمنبوذيـن والذين هم خارج السياجات إلى أعلى السموات].

والأعجب من ذلك أنه جعل مجيئه آيـةً بأن يُولَد من عذراء ويحفظ بتوليتها مختومة، ليتمَّ قول النبي إشعياء: «هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (الذي تفسيره: ”الله معنا“)» (إش 7: 14؛ مت 1: 23).

والكنيسة تهتف مُسبِّحةً لميلاده البتولي قائلة بتهليلٍ عظيم:

[الميلاد البتولي والطلقات الروحانية

عجبٌ عجيب،

كالأخبار النبويَّة](6).

وكذلك تقول الكنيسة هذا اللحن اليوناني:

[اليومَ تلدُ البتول الفائق الجوهر.

والأرض تقرب المغارة لغير المُقتَرَب إليه.

الملائكة مع الرعاة يُمجِّدون.

والمجوس مع النَّجْم في الطريق سائرون.

لأن من أجلنا وُلِدَ صبيٌّ جديدٌ:

الإله الذي قبل الدهور](7).

والأب متى المسكين يُشـاركنا في التسـبيح مُنادياً لنا:

[أحنوا رؤوسكم، يـا مُختاري الله، لتستطيعوا أن تدخلـوا مغـارة البهائـم، لأن فيهـا خـلاصكم، ومِـن هنـاك تبـدأ سـيرتكم العطرة برائحة التواضع].

(يتبع)

(1) ”شرح إنجيل يوحنا“، الجزء الأول، ص 44،43 (مؤسَّسة القديس أنطونيوس، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية).
(2) Against the Arians, Discourse III, 24 (NPNF, 2nd Ser., Vol. IV, p. 407).
(3) A. H., IV,33,4; III,19,1 (ANF I, p. 507,448).
(4) اللُّبش آدام على ”ثيئوتوكية الاثنين“: 5،4،3،2.
(5) ”تجسُّد الكلمة“ - 14: 8.
(6) لحن: ”Pijinmici“. وتكرَّرت كلمة: ”الطلقات“ (يا للطلقات الإلهية) في ثيئوتوكية الخميس، القطعة الخامسة.
(7) لحن: ”+ ++++++++“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis