من تعاليم الآباء


معمودية المسيح
للقديس يوحنا ذهبي الفم
(354-407م)

مُقدِّمة:

+ حينما نرجع إلى ما كتبه الإنجيليون(1) عن معمودية المسيح على يدَي يوحنا المعمدان، نرى هناك اتِّفاقـاً على الملامح العامة لهـذه الواقعة الإنجيلية؛ وهي: مجيء المسيح إليها كواحدٍ مـن أفراد الشعب، انفتاح السموات عند صعوده مـن الأردن، نـزول الروح القدس عليه بهيئة حمامة مع شهادة الآب من السماء بصوتٍ مسموع عن مسرَّته بابنه الوحيد الذي أطاع وخضع للمشورة الأزلية لخلاص جنس البشر.

+ ولكـن القديس لوقـا في إنجيله زاد فذَكَر صلاة المسيح عقب معموديته، بينما متى البشير يُسجِّل حواراً دار بين المسيح ويوحنا المعمدان قبيل النزول إلى مياه الأردن. ولا شكَّ أنَّ لهذا الحوار أهمية لاهوتية بسبب العبارة العميقة ذات المغزى والتي خَتَمَ بها المسيح الحوار: «هكـذا يليق بنا أن نُكمِّل كـلَّ برٍّ» (مت 3: 15)، لأنها تشرح علاقتـه بالبرِّ الذي عجـز الإنسان عـن تكميله، فاستحقَّ لعنة الناموس. ولكن الابن الذي لَبِسَ طبيعتنا أكمله عنَّا، فـاستحقَّ رضـا الآب ومسرَّته، وصار سبب تبرير لكلِّ مَـن يؤمن به كقول بولس المغبوط: «أَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ،  بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» (رو 3: 21-22).

+ الحقيقة الأولى لـدى القديس يوحنا ذهبي الفم(2)، أنَّ معمودية المسيح وما تحمله من تنازُل واتِّضاع ودِعَة هي امتدادٌ لتجسُّده:

[السيد مع العبيد والديَّان مع الأَثَمَة، هكـذا جاء ليعتمد. ولكـن بهـذا الاتِّضاع تُضيء عظمته. فالذي أجاز لنفسه أن يُحمَل به في بطن عذراء ويُولَد بطبيعتنا، وأن يُضرَب بالعِصِي ويُصلَب، وأن يحتمل كل ما تألَّم به؛ لماذا تتعجَّب، إذن، عندما تراه يتعطَّف ويأتي مع الباقين ليعتمد من خادمه؟!... لك أن تنذهل مـن أَمْـرٍ واحد: إنه وهو الإله قد صار إنساناً. وما بعد ذلك يتمشَّى مع المنطق].

تواضُعه لم يُخْفِ حقيقته:

[دعوني أُضيف أيضاً، أنَّ يوحنا (المعمدان) سبق الزمن وتكلَّم كثيراً عن المسيح (قبل أن يراه)، وكيف أنـه ليس أهلاً أن يحـلَّ سيور حذائه، وأنـه سيأتي ليُجازي كل واحد حسب أعماله، وأنـه سيَهَب الروح القدس بغـزارةٍ وغِنًى. كـل هـذا قاله مُسْبَقاً حتى لا ترتاب عندما تـراه آتياً ليعتمد... ولمَّا رأى يسوع قادماً إليه، امتنع قائلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!»، لأن يوحنا كان يُعمِّد ”للتوبة“، أي يقـود الناس ليدينوا أنفسهم عن تعدِّياتهم. فلئلا يظُنَّ أحدٌ أن يسوع جاء إلى الأردن بنفس هذه الفكرة، مَنَعه].

جواب المسيح على امتناع يوحنا:

[ماذا فعل المسيح؟ تماماً مثلما فعل مع بطرس فيما بعد، لمَّا رفض أن يغسل المسيح قدميه. فلما أجابه يسوع: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلكِنَّـكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ... إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَـكَ مَعِي نَصِيبٌ» (يو 13: 8،7)، وفي الحـال تنـازَل بطـرس عـن تصميمه؛ وهكـذا هنـا أيضاً أطـاع يوحنا للوقت].

+ هـذا الربط المُدهش بين الإصـرار على قبول المعمودية من يـد الأصغر والأقـل، وبين التصميم على غَسْل أرجـل التلاميذ، ”يكشف لنا عن مدى أهمية وخطورة ممارسة سـرِّ الاتِّضاع والخضـوع في الخدمـة والكهنـوت والحيـاة المسيحية عامةً كمدخلٍ أساسي للبرِّ“؛ ومِـن جهةٍ أخرى، ”طاعة وخضوع يوحنا المعمدان لأَمْر الرب وقيامـه بـالتعميد، سهَّل على المسيح أن يُمارِس من داخل طقس سرِّ العماد سرَّ الانحناء وسرَّ الاتِّضاع المُذهـل الذي أسماه "سر تكميل البرِّ". وهنا في الأردن - كما حدث عند غَسْل الأرجل - يُمارس السيِّد خضوعه كعبدٍ تحت يد يوحنا، وذلك ليُزيـل العار عـن الإنسان الذي رَفَضَ الخضوع تحت يد الله“(3).

«هكذا يليق بنا أن نُكمِّل كلَّ برٍّ»:

[ما هذا الذي كان يليق بالمسيح أن يُكمِّله كله؟ أي يُكمِّل الناموس كله، لأن البرَّ هو تكميل الوصايا. وكأن المسيح يقول: ”حيث إننا كمَّلنا كل شيء خلا هـذه وحدها (أي المعمودية)، فينبغي أن نُمارسها. لأنني جئتُ لأرفع اللعنة التي وضعها الناموس على كـلِّ مَن يتعدَّاه. لـذلك ينبغي أولاً أن أُكمِّل كـل شيء حتى أُخلِّصكم مـن حُكْم النامـوس، وبهـذا أُنهي عليه... هذا هـو هدف تجسُّدي ومجيئي إلى هنا“].

+ فتكميل البرِّ عند القديس يوحنا ذهبي الفم، يعني تتميم وصايا الناموس التي عجز عن إتمامها الإنسان، فـاستحقَّ اللعنة. ويمكـن الاتِّساع بدائرة البرِّ والامتداد بـه إلى طاعـة المسيح للبرِّ المُعلَن من السماء لكلِّ مَن يقبل معمودية يوحنا: ”فالخاطئ المنسحق إذ يعتبرها من السماء، يتبرَّر بها كفعل توبـةٍ واغتسـال. والبار إذ يعتبرها من السماء، بإطاعتها، يُحقِّق برَّه ويُكمِّله... فـالمسيح بمجيئه إلى الأردن، ليعتمد مـن يوحنا... كـان يدفعـه اتِّضاعـه وخضوعـه لدعـوةٍ سماويـة لائقة: «مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا، مِنْ أَيْنَ كَانَتْ؟ مِـنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟» (مت 21: 25)، لأنه كـان لا يزال محصوراً منذ صبَّوتـه المُبكِّرة، منذ أن كان ابن اثنتي عشرة سنة، في شعورٍ غامر، بأنه ينبغي أن يكون دائماً فيما لأبيه "يسمع ويُجيب"!! ولقد سبق فوجد في طاعته "لأبويه" وخضوعه لهما، تكميلاً ضمنياً لبرِّ الناموس القائل بذلك... وبعماده من تحت يد يوحنا، أكمل المسيح، في الحقيقة، كل نعمة وكل بر الخضوع والطاعة للناس وللدعوة السمائية...“. والتواضُع إخـلاء، و”كـل إخلاء لاهوتي هو برٌّ بحسب الناسوت“(4).

انفتاح السماء وقت معموديته:

+ نـزل المسيح إلى مياه الأردن وأَكمَل برَّ الاتضاع. فماذا كـان جـواب السماء على هذا؟ انفتحت في علانيةٍ واضحة، وانحدر الروح القدس بهيئة جسمية مع صوت الآب يُعلِن مسرَّته بكمال بـرِّ المسيح وخضوعـه وطاعتـه. ويبدأ القديس يوحنا ذهبي الفم شرحه لهذا الجزء، بـأنَّ نزول الروح القدس على المسيح هـو ضـرورة تُحتِّمها ظروف الحادثة نفسها، أي للتمييز بين الشخصيتين (المسيح ويوحنا المعمدان): إحداهما ذات ماضٍ عريض في النُّسْك والشُّهرة والمُجاهرة بالحقِّ، هذه هي شخصيـة يوحنا؛ والثانية شخصية عاديـة لم تحسَّ بها الجموع لأن دورها لم يُستَعلَن بعد، وهي شخصية الرب يسوع:

[... لأن كثيريـن كانـوا يُفكِّرون أنَّ يوحنا أعظم من المسيح. فيوحنا قضى أيام حياته في البريَّة، وكان ابن كاهنٍ عظيم ووُلِدَ من امرأة عاقر مُتقدِّمة في السِّنِّ، يتمنطَّق بمنطقة مـن جلدٍ على حَقَوَيه، ويلبس وَبَـر الإبل، ويكرز للجميع بالتوبة؛ هذا كله بينما المسيح ابن فتاةٍ بسيطة - لأن الميلاد البتولي لم يكن معروفاً للجميع - وتـربَّى في بيتٍ عادي، وخالَط الناس، حتى بَـدَا أمـام الجميع أنـه أقلَّ من يوحنا. وفي النهاية، جاء ليعتمد مـن يوحنا، وهـو الأمـر الذي فاق كـل ما سبق. فحتى لا تشيع هـذه الفكـرة بـين الجميع، انفتحت السماء وقت معموديته، ونزل الروح (القدس) مثل حمامة مـع صوتٍ يُعلِن كرامة الابـن الوحيد. فالروح، بنزوله، اجتذب الصوت إلى المسيح مُعلناً أنَّ ”هذا“ ليس من أجل يوحنا الذي يُعمِّد، بل (من أجل) يسوع الذي يتعمَّد].

+ وبعد قليل يمتدُّ ذهبي الفم بالشرح ليشملنا نحن أيضاً في هذه الحادثة الإنجيلية، ويطرح هذا التساؤل:

[لمـاذا انفتحت السموات؟ ليُعرِّفـك أنَّ هـذا مـا يحدث أيضاً وقـت معموديتك! إنَّ الله يدعـوك إلى وطنـك السـماوي ويحثُّك ألاَّ تلتصق بالأرض. وإن كنتَ لا تُعاين هذا فلا ترتـاب. فهـذا شـأن المُعامـلات الروحية العجيبة، في بدايتها تصحبها ظواهـر مرئية لأجـل بطيئي الفهم وأغبيـاء القلب الذيـن يحتاجـون إلى رؤيـة العين ويعجزون عن إدراك الطبائع غير الجسدانية. ولكن ما أُعلِنَ مرَّةً واحـدة للجميع في الأول، ينبغي قبوله بالإيمان بعد ذلك...

ففي حالة الرسل مثلاً، كان هناك صوت هبوب ريح عاصف وألسنة نارية مُنقسمة. لم يكُن ذلك من أجل الرسل، بل من أجل اليهود الحاضرين. ورغم عـدم وجـود علامات أو آيـات محسوسـة، لكننا ننال نفس القوة التي قبلوها مرَّةً بظواهر مرئية. لذلك كان انفتاح السموات وظهور حمامة الروح لأجل اليهود ولأجل يوحنا، كإصبع تُشير إلى يسوع الابن الحبيب؛ بـل ولك أنت أيضاً لتتيقَّن أنَّ الروح يحـلُّ عليك بنفس القـوَّة أثناء المعمودية ولا حاجة لأنْ تُعاينـه، لأن الإيمـان هنا يكفي. فـالآيات ليست للمؤمنين بـل لغير المؤمنين (1كو 14: 22)].

ولماذا حلَّ الروح بهيئة حمامة؟

[لأنها تُذكِّرنا بالتاريخ القديم، لمَّا حدث انهيار عام للبشرية كلها حتى صارت تحت خطر الإبادة والهلاك، ظهرت الحمامة مُعلنة النجاة من العاصفة حاملة غُصن الزيتون (تك 8)، تُذيع الأخبار السارة عـن عودة السلام والهدوء ثانيةً إلى العالم. كان هذا مثالاً لهذه الأمور العتيدة أن تحدث. كانت أحوال الناس وقتذاك سيِّئة تستحقُّ الهـلاك، فحتى لا تيأس، لذلك يُذكِّـرك بهذا التاريخ. كـانت الأمور تُنذر باليأس والخراب، ومع ذلك بَقِيَ نـوعٌ مـن الخلاص والإصلاح بإنزل العقاب حينذاك؛ أمـا الآن فبنزول النعمة والموهبة التي لا يُعبَّر عنها.

هكذا ظهور الحمامـة، أي الروح القدس، تُشير إلى الـذي سيُخلِّصنا مـن كـل أنواع الشرور، وتدلُّنا على رجـاء النعمـة. حمامة نوح جاءت تُبشِّر الإنسان ليخرج مـن الفُلك؛ وحمامـة الروح تقود العالم الآن إلى السماء بظهورها، وعِوَض غُصن الزيتون تحمل لنا التبنِّي لكلِّ جنس البشر].

+ ويختم ذهبي الفم شرحـه بهـذه القاعدة التقليدية في تأسيس الأسرار الإلهية:

[... وعلى هـذا الاعتبـار أُبطِلَت معمودية اليهود وبَـدَأَت معموديتنا. ومـا فعله الرب بالنسبة للفصح اليهودي هو هو نفسه ما جرى هنـا في المعموديـة. هنـاك أبطـل الفصح اليهودي ليؤسِّـس الفصـح المسيحي (بسـرِّ الإفخارستيا). وهكذا أَكمل المعمودية اليهودية ليفتح في نفس الوقـت الباب أمـام الكنيسة. هناك على مائـدةٍ واحـدة، انتهى الأول ليبدأ الثاني؛ وهنـا في نفس ميـاه النهر، رَسَم في البدايـة الظلال الأولى للمعموديـة، ثم الآن بمعموديته أَكمَل الحقيقة.

هـذه وحدها هي التي تَهَب نعمة الروح؛ أمَّـا تلك التي ليوحنا فبلا عطية إطلاقـاً، فلم يحدث أيُّ شيء للذين نالوهـا. ولكن بمجيء المسيح ليعتمد، سلَّم لنا عطية الروح القدس.

في الأول لم تنفتح السموات ولم يـنزل الروح، وأمَّا من الآن فصاعداً فسيقودنا مـن الوطن العتيق إلى الجديـد، فاتحاً لنا باب السماء، مُرسِلاً لنا الروح القدس يدعونـا إلى وطننا العلوي. وليس يدعونـا فقط، بل في دعوته لنا علامة التكريم الأعظم. إذ لم يجعلنا ملائكة ولا رؤساء مـلائكة؛ بـل بواسطتها صرنا ”أبناء الله“ فيه، و”أحبَّاء الله“ فيه، الله الذي نادَى بصوتٍ من السماء: «هذا هو ابني الحبيب»].

والمجد لله في كلِّ شيء، آمين.

(1) راجع: مت 3: 13-17؛ مر 1: 9-11؛ لو 3: 21-22. أمَّا مـا جاء في (يو 1: 29-34)، فهو ما قاله يوحنا المعمدان في اليوم التالي لمعمودية المسيح.
(2) من الموعظة الثانية عشرة لتفسير إنجيل متى البشير.
(3) الأب متى المسكين، كتـاب: ”أعيـاد الظهـور الإلهي“، الطبعة الرابعة: 2011، ص 400،399.
(4) الأب متى المسـكين، كتاب: ”أعيـاد الظهـور الإلهي“، الطبعة الرابعة: 2011، ص 342،341،340.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis