قصة رمزية 


المذود

+ قصة رمزية عن ميلاد المسيح كما وردت في الإنجيل.

غادرا منزلهما، يوسف والعذراء مريم، بينما المذود الجديد كان لا يزال يتأرجح، مُعلَّقاً في سقف المنزل وسط العوارض الخشبية. وليلة من بعد ليلة، ورائحة قطع الخشب الخام تملأ الغرفة، بينما كان يوسف - وبصبرٍ كثير - يصوغ المذود الصغير للوليد المنتَظَر، وذلـك بـاستخدام نفس الأزميل والمنشار اللذيـن تعوَّد على استخدامهما. وها قـد وضعهما على طاولة النجارة، ليُغادرا البيت - هـو ومريم العذراء - للسَّفَر إلى بيت لحم.

وبدأ يوسف يكفكف الدموع من على وجه مريم، ثم أغلق باب المنزل وراءهما. وقال لها، بينما كان يجمع أمتعتهما ويضعها على الحمار: ”كل شيء على ما يُرام“.

وقالت له مريم: ”يا يوسف، أَلا يمكن أن ننتظر بضعة أيام؟ فالمولود قد يأتي في أيِّ وقت“، لأنها لم تكن تُريد مغادرة المنزل في هذا الوقت.

وأضافت: ”لقد انتظرنـا المولـود على قَدْر مـا أمكننا“. أمَّا يوسف فكـان على أُهْبَة السَّفَر. وقـال لها: ”لابـد لنا مـن المغادرة اليوم، وإلاَّ فسوف يُلقَى القبض عليَّ لعـدم وصولي إلى بيت لحم للاشتراك في التعداد“.

فترجَّته مريم قائلة: ”على الأقل، أَحْضِر معنا المذود، يا يوسف، لأني أُريد أن يكون للمولود المنتَظَر مكانٌ جميل ينام فيه“.

أجابها يوسف: ”لا، سأكـون مُحتَضِناً لـه. ولا شكَّ سوف يستريح فيه قريباً بما فيه الكفاية“.

وبصعوبة كبيرة وضع يوسف مهامه على ظهـر الحمـار. وصاح يـوسف: ”هيَّا، أيهـا الحيوان“. وبدأ يُربِّت على ظهر الحمار ليستحثَّه على التحرُّك. وعلى مضض استجاب الحمار.

وكان يوسف يقود الحمار بيد، وباليد الأخرى كان يسند مريم وهي على ظهر الحيوان، صاعداً على الطُّرُق الصخرية المرتفعة. وببطء بما فيه الكفاية كانت القافلة تتقدَّم بصعوبة على الطريق المُتعرِّج الذي يؤدِّي إلى مرتفعات الناصرة. أمَّا في البيت الـذي غـادروه، فقـد تركـوا المذود ما يزال مُعلَّقاً إلى حين رجوعهما.

وبعد خمسة أيام من السَّفَر، وسيرهم تسعين ميلاً، بَدَأَتْ عظامهما تحتكُّ بعضها بالبعض، من طـول الإنهاك في السَّفَر. وأخيراً، وجدا مُستَقَرّاً صغيراً لهما في بيت لحم، في أحـد ضواحيها المزدحمة. ولكن اكتشفا أنَّ وقت مريم لتَلِد قد اقترب الآن. وكـان يوسف حـريصاً على إبقاء ضوء لهما مشتعلاً من القشِّ القديم.

وأخيراً، عثرا على مذود قديم من الحجر لنوم الطفل المولود، وكان قد قُطِعَ من جدار كهف من الحجر الجيري الذي يأوي الماشية. ودخل يوسف ومريم إلى هناك ليسبقا غيرهما في جمع البقايا الأخيرة من القشِّ القديم، لاستخدامها في فَرْش المذود الشديد الرطوبة.

وتمتم يوسف: ”هذا ما سوف نقوم به“. وبدأ في ملء جوف المذود بملء ذراعين من العَلَف الطازج، ثم غطَّاه ببطانة مطويَّة سميكة للحيلولة دون الحيوانات لئلا تقترب من المذود.

وكان الموعد قد قارَبَ بعد منتصف الليل، حيث كانت مريم قد قارَبَت على الانتهاء من حميم وليدها وتغطيته بما استطاعت مـن أرديـة، لحفظه من الصقيع الشديـد في هذا الوقت من الشتاء القارص في بيت لحم. وبلُطف وحِرص شديـدَيْن، حملته وأَضجعته في المذود، فراشه الجديد. وكـان يوسف يلفُّ ذراعيها وفوق كتفيها بشاله الصوفي، بينما كانا يُحدِّقان في الطفل النائم.

ولمست مريم أصابع الوليد الصغيرة، وقالت ليوسف: ”هذا المهد الذي أنت قضيتَ الكثير من الوقت لإعداده، قد صار بالحقِّ بهيجاً سارّاً، يـا يوسف“. ونظـرت مـريم إلى سقف الكهف المنخفض، وقالت ليوسف: ”لا أظنُّ أنه يوجد طفل رضيع له مَهْدٌ مثل هذا المذود. إنه عرشٌ يصلح لمَلِك!“.

وابتسم يوسف ابتسامة عريضة وقال: ”ليس كلُّ فتًى لديه أب نجَّار“. لكنه تساءل في نفسه: لماذا لم يكن مُمكناً ليسوع الطفل الوليد أن يكون له منزل غير هـذا المكان؟ لماذا هذا الطفل ذو الوضع الخاص الذي قال الملاك لمريم ولي إنه على وشك ان يُولَد وَلَد في مثل هذا المكان الذي تفوح منه رائحة الماشية؟ وهل ينزل نجَّار في كهف سيِّئ جداً على تلة مدينة؟ لماذا هنا؟ ولماذا في بيت لحم؟

(+( (

ولم يتأخَّر الردُّ على هذا الخاطر طويلاً، إذ أتى هذا الرد في وسط الهدوء التام، وذلك من صبي صغير السن صار يقرع على باب الكهف، وكان هذا أمراً مُذهلاً لأَبوَيِّ الوليد الجديد. وتمتم الصبيُّ مُعتذراً: ”هل ههنا يوجد طفل وليد“؟ ولما دخل، رأى الصبيُّ الطفلَ الوليد الصغير. وأخذت مريم وليدَها تُخبِّئه في حضنها مـن هـذا الزائر الغريب؟

وعَكَسَت نظرات مريم قلق يوسف الذي توجَّه لبوَّابة الكهف، إذ حينما فَتَحَ البوَّابة، سمع حديثاً خافتاً آتياً من بعيد: ”ههنا، لقد وَجَدَ يعقوبُ مَن يبحث عنه!“. وفي الظلام، استطاع يوسف أن يسمع خطوات حفنة من الأشخاص قادمين نحوه، ووقف بحزم مُستعِدّاً عند الباب.

وحَمْلَق يوسف في مريم، وقد شَعَرا كلاهما برعشة، وكان هذا أكثر من مجرَّد صُدفة. إنَّ كل الأحداث الرائعـة هي أكثر بكثير مـن مجرَّد صُدفة. وأومـأ يوسف برأسه وتراجَع قليلاً إلى داخل الاسطبل. وأجاب السائل: ”نعم، تفضَّلوا. أهلاً وسهلاً بكم“.

وجرَّ الرُّعاة أقدامهم داخلين إلى هذا الكهف الضيِّق. ووقف الفتى الأصغر إلى جانب الحمار للحصول على رؤيـا أفضل. ثم سجدوا جميعـاً للطفل الذي تحمله مريم. وصرخوا جميعاً: ”ليكُن اسم الرب مُبارَكاً!“.

وتحدَّث الراعي الشيخ بأعمق مشاعر الخشوع قائلاً: ”إنَّ الأمر مثلما قال الملاك لنا“. وتمتم آخر همساً في رهبة: ”إنه قال لنا: «ها أنا أُبشِّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب»، هكذا قال لنا الملاك“.

وأردف الشيخ مُتكلِّماً برهبة: ”تخيَّل! مـلاك يتكلَّم معنا!“. وأَخَذَ الشيخ يُواصل الحديث قائلاً بتعجُّبٍ شديد: ”أيُّ واحد من المغرورين من سُكَّان هذه المدينة يأنف من أن يقف ليتحدَّث معنا نحن الرعـاة لئلا يُهين نفسه“. وأضاف: ”لكـن ملاكاً تحدَّث معنا! وحقّاً إنَّ هذا الطفل هو هنا في اسطبل، لذلك فقد تمكَّنَّا من أن نأتي ونراه“. وانهمرت أنهار مـن الدموع تسيل ببطء على وجوه هؤلاء الرُّعاة.

وفي نهاية المطاف حدَّق يوسف في وجه هذا العجوز وسأله: ”وكيف عثرتَ علينا“؟

وأجـاب الصبي الذي كـان قـد دخل أولاً الكهفَ: ”لقد قال الملاك لنا: «... أنه وُلد لكم اليوم»“. وأردف: ”نعم، لنا“! أمَّـا الرجل المتقدِّم في العمر فقد كان مُبتهِجاً ولم يستطع أن يتمالك نفسه من السرور.

أمَّا الصبي فقد تحدَّث بتأنٍّ، كما لو كان يتذكَّر الكلمات بالضبط: ”لقد سمعناه يقول: «... أنه وُلِدَ لكم اليوم في مدينـة داود مُخلِّص...»“. وأردف الصبي: ”هـا هنا في بيت لحم مسقط رأس الملك داود“. ونَفَخَ صدره بافتخارٍ قائلاً: ”وكما تعلمون كـان الملك داود راعياً أيضاً“! واستمر الولد في الحديث: ”«... مُخلِّص هو المسيح الرب»“.

وأشار الرجـل العجوز بأصبعه نحـو الطفل الوليد قائلاً: ”المسيح، المسيَّا... إنه هو“!

وكـرَّر الصبي كلامـه قائلاً: ”الملاك كان مُحدَّداً للغاية: «وهـذه لكم العلامة: تجدون طفلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً في مـذود»“. وابتسم ابتسامـة عريضة قائـلاً: ”كيف لا يمكننا أن نُخطئ في العثور على هـذا الطفل؟ لقـد ركضنا للتوِّ في المدينـة، وفحصنا كـل المذاود حتى وجدنـاكم أنتم... لقد وجدناه“.

توقَّف الصبي بُرهة ثم أردف قائلاً: ”كم كان عدد المواليد الجُدُد في بيت لحم في هـذه الليلة؟ ولكن ولا واحد منهم وجدناه في مذود، إلاَّ هنا“!

وذُهِلَ يوسف مِمَّـا قيل عـن الوليد يسوع. والآب السماوي نفسه هـو الذي دبَّر هذا المذود للطفل المولـود. والله هـو الذي اعتنى بهـؤلاء الرُّعاة أيضاً.

وسَجَدَ يوسف ومريم للطفل يسوع!

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis