دراسة الكتاب المقدس


مقدِّمات الأسفار
- 23 -



ثانياً: الأسفار التاريخية

5 - سِفْر صموئيل الثاني (2)

أقوال آبائية عن السِّفْر:

1. [الطبيعة، إذن، حينما تمتنع عن أن تُعطي خيراتها لتلك الأماكن التي كانت شاهدة لجريمة قتلٍ، وحينما تُتَّهم تلك الأرض البريئة؛ تُبيِّن لنا جليّاً مقدار صرامة العقوبة على هذا الجُرْم. فـإنَّ العناصر نفسها، إذن، تُدان بسبب جريمة البشر. لذلك أدان داود الجبال التي ذُبِحَ عليها يوناثان وأبوه (وذلك في قصيدة رثائه لهما)، لكي تُعاقَب بعُقْمٍ سرمدي، إذ دعـا عليها قائـلاً: «يـا جبال جِلْبوع لا يكُن طَـلٌّ ولا مطرٌ عليكُنَّ (يـا جبال الموت)» (2صم 1: 21)](1) - القديس أمبروسيوس.

2. [رغم أنَّ شاول كـان مَلِكاً، فهو يُعَدُّ مُخطئاً إذا قتل إنساناً بريئاً. وأخيراً، حتى داود، عندما صارت المملكة في حوزته وسمع عن شخصٍ بريء، يُدعَى أَبنَيْر قد قتله يوآب قائد جيش داود، قال: «إني بريءٌ أنا ومملكتي لدى الربِّ إلى الأبد من دم أَبنَيْر بن نَيْر» (2صم 3: 28)، وصام حُزناً عليه. هذه الأمور كتبتُها، ليس لكي أُحبطكم، ولكن لكي يكون هذا المَثَل من الملوك سبباً في نزع هذا الإثم من مملكتكم، لكي تُزيلوها باتضاع روحكم أمام الله (وقد كان هذا الكلام مُوجَّهاً للإمبراطور ثيئودوسيوس سنة 390م، لتشجيعه على التوبة بسبب مذبحة حدثت في تسالونيكي). إنك إنسانٌ، وقـد واجهتَ تجربـةً، فتغلَّب عليها. الخطية لا تُمحَى إلاَّ بالدموع والتوبة. فلا ملاك ولا رئيس ملائكة يُزيلها؛ إنه الله نفسه، وهو القادر أن يقول: «أنا معك» (مت 28: 20). فإذا أخطأنا، فهو لن يغفر لنا إلاَّ إذا تُبنا](2) - القديس أمبروسيوس.

3. [ماذا ينبغي عليَّ أن أقول أكثر من ذلك؟ إنه (أي داود النبي) لم يفتح فاه تجاه أولئك الذين خطَّطوا لخداعه، كما لو كان كأنه لم يسمع شيئاً، ولم يُفكِّر في أن يَرُدَّ بكلمة، ولا أن يُجيب على لومهم. وحينما كانوا يتكلَّمون عليه بالشرِّ، كان يُصلِّي. وحينما لعنوه، باركهم. لقد سار ببساطة قلبه وهرب من الكبرياء. وكان تابعاً لأولئك الذين لم يتلطَّخوا (بشهوات) العالم، خالطاً طعامه بالرماد حينما يتذكَّر خطاياه، ومازجاً شرابه بدموعه وبُكائه. فصار مستحقّاً حقّاً أن يُدعَى (ليصير مَلِكاً) من جميع الشعب. فكلُّ أسباط إسرائيل جاءت إليه قائلة: «هوذا عظمُكَ ولحمُكَ نحن. ومنذ أمس وما قبله حين كان شاول (حيّاً) مَلِكاً علينا، قد كنتَ أنت تُخْرِج وتُدْخِل إسرائيل. وقد قال لك الربُّ: أنت ترعى شعبي إسرائيل» (2صم 5: 2،1). ولماذا أقول أكثر عنه، وهو الذي جاءت بخصوصه كلمة الرب قائلة: «وجدتُ داود رجُلاً حسب قلبي» (أع 13: 23). فمَن سواه سار دائماً في قداسة القلب والعدل مثله، لكي يُتمِّم مشيئة الله. فمِن أجله أُنْعِمَ بالغفران على أولاده حينما أخطأوا، وحُفِظَت حقوقهم في أن يرثوا مُلْكه؟](3) - القديس أمبروسيوس.

4. [حينما كان تابوت الرب يُنقَل إلى أورشليم، وانشمصت (تعثَّرت) الثيران ومالت المركبة إلى أحد الجوانب، فمدَّ عُزَّة اللاوي يده ليسند التابوت الذي كان قد مال جانباً! وتبع ذلك مُباشرة هذه الكلمات: «فحَمِيَ غضبُ الربِّ على عُزَّة، وضربه الله هناك لأجل غَفَلِهِ، فمات هناك لدى تابوت الله. فاغتاظ داود، لأن الربَّ اقتحم عُزَّة اقتحاماً... وخاف داود من الربِّ في ذلك اليوم، وقال: ”كيف يأتي إليَّ تابوت الرب؟“» (2صم 6: 7-9). عندما رأى داود، الذي كان رجُلاً بارّاً ونبيّاً، وكان قد مُسِحَ مَلِكاً، اختاره الرب رجُلاً حسب قلبه لكي يعمل كل شيء حسب مشيئته؛ لما رأى أنَّ الجهالة عوقبت بغضبٍ إلهي، خاف وحَزِنَ، ولم يسأل الرب عن سبب ضربه رجُلاً بسبب جهله، ولكنه خاف من وقوع حُكم كهذا عليه](4) - القديس جيروم.

5. [ولكننا وجدنا أيضاً رقصاً ممدوحاً تكريماً لله، لأن داود رَقَصَ أمام تابوت الرب، إلاَّ أنَّ ميكال ابنة شاول، رأته يرقص ويقرع الطبول في حضرة الرب، فسألته بعد أن قبلته في بيته: «”ما أَكرم ملك إسرائيل اليوم وهو يرقص عارياً في حضرة إماء عبيده؟“». فأجاب داود ميكال في حضرة الرب: «”مُبارك الرب الذي اختارني دون أبيك ودون كل بيته، ليُقيمني رئيساً على شعبه إسرائيل. إني سأُعلِن فرحي في حضرة الرب، وأكون كأَرعن أمامه؛ وأمَّا عند الإماء الذين تقولين إني أتعرَّى أمامهم، فإني أتمجَّد“. ولم يكُن لميكال ابنة شاول ولدٌ إلى يوم موتها» (2صم 6: 20-23 حسب السبعينية). وهكذا، فهذا هو درسٌ واضح أنَّ النبي الذي قرع الطبول ورقص أمام تابوت الرب قد تبرَّر، بينما تلك التي عيَّرته ودانته حُكِمَ عليها بالعُقْم](5)- القديس أمبروسيوس.

6. [كون المسيح ينبغي أن يكون هو بيت الله وهيكله (هيكل قُدْسه)؛ فالهيكل القديم يلزم أن ينتهي ويضمحل، وأمَّا الجديد فهو الذي يجب أن يبدأ. فقد جاء في سِفْر صموئيل الثاني: «كان كلام الرب إلى ناثان النبي قائلاً: ”اذهبْ وقُلْ لعبدي داود، هكذا قال الرب: أنت لن تبني لي هيكلاً لسُكناي... متى كملت أيامك واضطجعتَ مع آبائك، أُقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأُثبِّت مملكته، هو يبني بيتاً لاسمي، وأنا أُثبِّت كرسي مملكته إلى الأبد. وأنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً، وبيته سيكون آمِناً، ومملكته ستكون إلى الأبد أمام عينيَّ“» (2صم 7: 5،4، 12-16 حسب النص). وأيضاً في الإنجيل يقول الرب: «إنه لا يُترَك ههنا (في الهيكل القديم) حجرٌ على حجرٍ لا يُنقَض» (مت 24: 2)، وأيضاً: «وبعـد ثلاثـة أيـام يُقـام آخـر غير مصنوع بأيـادٍ» (انظر مر 14: 58؛ يو 2: 19)](6) - القديس كبريانوس.

7. [العهد الجديد الذي تأسَّس على المسيح، الآن، سوف يتبرهن على أنه هو ما وعد به الخالق حينذاك تحت مُسمَّى «مراحم داود الصادقة» (إش 55: 3)، التي هي مراحم المسيح، حيث إنَّ المسيح خرج مـن نسل داود، أو بالحري فإنَّ جسده الخاص كان هو ”مراحم داود الصادقة“، الذي تقدَّس لخدمته، وصار مؤكَّداً بعد قيامته. ومِن ثمَّ فإنَّ ناثان النبي في سِفْر صموئيل الثاني وَعَدَ داود عن نسله الذي سوف يأتي بعده قائلاً: «الذي يخرج من أحشائك». والآن، إذا فسَّرتَ هذا ببساطة بأنه يقصد سليمان، فإنك سوف تضطرني أن أدخل في نوبة ضحكٍ! لأنه إن كان من الواضح أنَّ داود قد وَلَدَ سليمان، ولكن أليس المسيح هو المشار إليه هنا أنه من نسل داود، أي أنه من تلك البطن التي جاءت من نسل داود، أي من مريم (العذراء)؟ والآن، فإنه لكون المسيح، وليس آخر غيره، الذي كان مزمعاً أن يبني هيكل الله، الذي يعني بناء بشرية مقدَّسة يسكن فيها روح الله كما في هيكلٍ أفضل؛ إذن، فالمسيح وليس سليمان هو المقصود أنه ابن داود، فهو هو بالحقيقة ابن الله. كذلك أيضاً، فإنَّ العُرْس الدائم إلى الأبد والمملكة الباقية إلى الأبد هي التي تُناسب بالأكثر المسيح وليس سليمان الملك الوقتي] (7) - العلاَّمة ترتليان.

8. [إنه لَمِن الأفضل أن ينطفئ نور الشمس من أن تُنسى كلمات داود ولا تُنقل للآخرين. لقد سقط داود في الزنا والحسد، لأنه رأى - كما قال - امرأة جميلة وصار مُتيَّماً ب‍ها، وبعد ذلك ظفر بكل ما كان يتخيَّله. ووُجِدَ النبي ساقطاً في الزنا، وانطمرت الماسة في الطين. ومع ذلك، فإنه لم يَعِ أنه قد أخطأ، فقد أَعمته الشهوة إلى هذا الحدِّ الجسيم، لأنه لما شرب قائد المركبة من المُسكر، انحرفت المركبة انحرافاً شديداً غير منضبط. وما علاقة قائد المركبة بالمركبة؟ إنه الروح بالنسبة للجسد. فإذا أظْلَم الروح، انحدر الجسد في الوحل.

أمَّا إذا ثبت قائد المركبة وتمسَّك بيقظته، فإنَّ المركبة تسير بثبات وسلاسة. وهكذا، فإنه عندما صار مُنهكاً وغير قادر على الإمساك بلجام نفسه بحزم، فإنك ترى هذه المركبة ذاتها في خطرٍ داهم. هذا هو ما يحدث تماماً مع البشر. فطالما الروح رصينة ويقظة، فإنَّ الجسد نفسه أيضاً يبقى في نقائه. أمَّا إذا أظْلَم الروح، ينحدر الجسد ذاته في الوحل وفي الشهوات. وبالتالي، ماذا فعل داود بعد ذلك؟ لقد اقترف الزنا، ومع ذلك، فلم يكن يَعي ما فعل ولا لامَه أحدٌ. وقد حدث هذا الأَمر في أكثر سني حياته توقيراً وتكريماً. وهكذا عليك أن تتعلَّم أنه حتى لو كنتَ غافلاً، فلا السن المتقدِّمة تنفعك، ولا إن كنتَ جادّاً، فإنَّ سني الشباب يمكنها أن تضرَّك كثيراً. فالسلوك لا يعتمد على العمر، وعليك أن تتذكَّر أن داود كان في سني حياته الموقَّرة حينما سقط في الزنا واقترف القتل، ووصل إلى مثل هذه الحالة المثيرة للشفقة؛ كان غير مُدرِكٍ أنـه قـد سقط في خطية الزنا، لأن عقله - الذي هو قائد المركبة - قـد سَكَرَ من الزنا](8) - القديس يوحنا ذهبي الفم.

9. [إنَّ داود الذي كان رجلاً بارّاً حسب قلب الله، الذي بسبب فضائله وُجِدَ مستحقّاً أن يولد من نسله الموعود به الذي قيل عنه للآباء، وأن يُشرق منه المسيح الذي جاء من أجل خلاص العالم كله؛ أَلم يُعاقَب بسبب الزنا مع امرأة عندما تعلَّق بجمالها بنَظَرِه إليها، واخترقت سهامها روحه؟ فإنه لهذا السبب أقام الله ضده حرباً في وسط بيته، وهذا الذي جاء من صُلبه قام ضدُّه. هذه الأمور حلَّتْ عليه حتى بعد أن قدَّم توبة حارة، ذارفاً دموعاً غزيرة بلَّل بها فراشه من كثرة بكائه، وبعد أن قال له الله بواسطة النبي: «الرب قد نقل عنك خطيتك» (2صم 12: 13)](9) - القديس مار إسحق أسقف نينوى.

10. [تشابُهٌ في الكلمات، وعدم تشابُهٍ في القلوب. قـد نسمع تشابُهاً في الكلمات بآذاننا، ولكننا لا نقدر أن نعرف عدم التشابُه في القلوب إلاَّ بواسطة إعلان الملائكة. فداود أخطأ، وعندما وُبِّخ بواسطة النبي، قال: «أخطأتُ إلى الرب» (2صم 12: 13)، وفي الحال بُلِّغ: ”غُفِرَت خطيتك“. وشاول أخطأ، وعندا وبِّخ من النبي، قال: ”أخطأتُ“ (1صم 15: 24)، ولكن خطيته لم تُغفَر له، بل غضب الله حلَّ عليه. فماذا يمكن أن يعني هذا الأَمر إلاَّ أنه تشابُه في الكلمات وعدم تشابُه في القلوب؟ فالبشر يمكنهم سماع الكلمات؛ أمَّا الله فهو فاحص القلوب](10) - القديس أوغسطينوس.

11. [وهكذا عرف الرب كيف يُبطِل مشورة الأُمم. ونحن قد تعلَّمنا في أيام أخيتوفل كيف نبذ مشورة الأُمراء، عندما صلَّى داود قائلاً: «أبطِل مشورة أخيتوفل» (انظر 2صم 15: 34). وهكذا، عندما تسمع شخصاً ينطق بتهديدات كبيرة، ويُعلن أنه سوف يجلب عليكم كل أنواع المعاملات الرديئة والخسائر والضربات، أو حتى الموت؛ ارفعوا أعينكم إلى الرب لكي يُبطِل مشورة الأُمم ويُبيد مكايد الناس (الأشرار)](11) - القديس باسيليوس الكبير.

12. [بعد تمرُّد أبشالوم، عندما كان داود هارباً، وأمامه سُبل كثيرة للسير فيها، اختار أن يهرب عن طريق جبل الزيتون، مُستحسِناً في ذهنه الخاص التشبُّه بالمخلِّص الذي من خلال هذا الطريق كان مُزمعاً أن يصعد إلى السماء. وعندما لعنه شمعي بكلام لاذع، قال: «دعوه (يسبُّ لأن الرب قال له)» (2صم 16: 11). لأنه كان يعلم أن العفو هو لأولئك الذين يغفرون... وهكذا، إذن، يا إخوتي، هوذا عندكم أمثلة كثيرة من البشر الذين أخطأوا ثم تابوا وخلصوا، فهل تعملون أيضاً مثلهم وتعترفون للرب من كل قلبكم؛ لكي تنالوا صَفْحاً وغُفراناً لكل آثامكم الماضية، وتصيروا أهلاً للنِّعَم السماوية وميراث الملكوت السماوي مع جميع القدِّيسين في المسيح يسوع الذي له المجد إلى أبد الدهور، آمين](12) - القديس كيرلس أسقف أورشليم.

13. [جيِّد، إذن، هو الاتضاع. إنه يُنجِّي أولئك الذين في خطرٍ ويرفع أولئك الذين سقطوا. هذا الاتضاع كان مألوفاً لدى هذا الذي قال: «ها أنا أخطأتُ، وأنا الراعي قد أذنبتُ، وأمَّا هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟ فلتكن يدك عليَّ وعلى بيت أبي» (2صم 24: 17 حسب النص). حسنٌ، فهل قال داود هذا الذي أقام مملكته خاضعة لله، وقدَّم توبة معترفاً بذنبه، طالباً صَفْحاً؟ لقد تحقَّق له الخلاص من خلال الاتضاع. وهوذا المسيح قد اتضع لكي يرفعنا جميعاً، وكل من يتبع تواضُع المسيح ينال راحة المسيح](13) - القديس أمبروسيوس.

(يتبع)

(1) St. Ambrose, Cain and Abel 2.8,26 (FC 42: 427).
(2) St. Ambrose, Letter 51.10-11 (FC 26: 23-25).
(3) St. Ambrose, Duties of the Clergy 2.7,35 (NPNF, 2, 10:49).
(4) St. Jerome, Defence Against the Pelagians (FC 53: 289-90).
(5) St. Ambrose, On Psalm 118 (CSEL 62: 143).
(6) St. Cyprion, To Quirinus, Testimonies Against the Jews (ANF, 5: 511).
(7) Tertullian, Against Marcion 3.20 (ANF, 3: 339).
(8) St. Chrysostom, Homilies on Repentance & Almsgiving 2.2.4-7 (FC 96: 18-19).
(9) St. Isaac of Nineveh, Ascetical Homilies 10 (AHSIS 75).
(10) St. Augustine, Sermon 291.5 (FC 3: 62-63).
(11) St. Basil the Great, Homilies on the Psalms 32.6 (FC 46: 240).
(12) St. Cyril of Jerusalem, Catechetical Letters 2.12,20 (LCC 4: 88-89). (13) St. Ambrose, On the Death of Theodosius 27 (FC 22: 319).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis