قصة ميلادية 


هدية عيد الميلاد

في كثيرٍ من الأحيان تكون أكثر الهدايا أهمية تلك التي تأتي بطريقةٍ غير مُرتَّبة.

فأنا أقصد آخِر رحلة طيران قمتُ بها في أحد الأيام. فقد كانت رحلة قصيرة مـن ولاية إلى ولاية (داخل الولايات المتحدة الأمريكية)، وذلك ليلة عيد الميلاد. ولكن بـدلاً مـن إسراعي إلى وليمة عيد الميلاد، انشغلتُ في نقل أُناس آخرين إلى مدنهم، ليكونوا وسط عائلاتهم في بيوتهم ليلة عيد الميلاد.

ووسط همسات المسافريـن، وهـم يتكلَّمون داخل الطائرة، سمعتُ همهمة بجانبي. وأَدَرْتُ كتفيَّ إلى الخلف، وخارج كابينة القيادة حيث يجلس الطيَّارون (حيث إنني كنتُ طيَّاراً)، فإذا هناك عند الباب صبيٌّ صغير بوجهه الغضِّ، يبلغ عمره حوالي التسع سنوات، وكان يُحملق باهتمامٍ في لوحة قيادة الطائرة. وعند نظري إليه، بدأ يتراجع ويُدير وجهه خجلاً.

لكنني ناديته: ”انتظر! تعالَ هنا، ادخُل!“.

فلقد كنتُ في مثل عمره حينما رأيتُ لأول مرة في حياتي جدول مواعيد إقلاع الطائرات مُضاءً مثل شجرة الميلاد، وانتظرتُ كثيراً لأحصل على شارة الطيَّارين على هيئة جناحين!

والآن، ها قـد بلغتُ الرابعة والعشرين مـن عمري وأعمل كطيَّار أول، في وظيفة تبديل قيادة الطائرات في شركة الطيران التي أعمل بها.

وأظنُّ أن اختياري لمهنة الطيران كان اختياراً موفَّقاً. واليوم أقضي أول عيد ميلاد بعيداً عن بيتي. وهذا هو حظِّي في الحياة في هذا العالم!

تقدَّم الصبي بعض الخطوات بحرصٍ شديد إلى كابينة قيادة الطائـرة. فقلتُ له بينما أنـا أمدُّ يدي إليه: ”أنـا اسمي "تشاد"“.

وبابتسامـة خجولة وضع الصبي يـده على يدي. وقال لي: ”أنا "سام"“.

ثم التفت الصبي إلى الكرسي الشاغر الـذي بجانبي وسـألني: ”هـل هـذا الكرسي خـاص بالكابتن قائد الطائرة؟“.

وأجبته: ”تماماً، إنه هكذا. فهنا يجلس "جيم"“، في الوقت الذي كنتُ أُرَبِّتُ على كتِفِه. وكان الصبي يلبس قميصاً رثّاً.

ومضيتُ أقول له: ”هل تحب أن تحاول أنت الجلوس عليه؟“. وكان ”سام“ يُمعن النظر إليَّ من تحت قبعة لاعبي الكرة التي يلبسها على رأسه.

وردَّ قائلاً: ”لا أعرف! أنا أقصد...! حسناً، نعم، أنا أريد أن أجلس عليه إذا كان ذلك مُمكناً“.

فـأخفضتُ له الكرسي حتى يستطيع القفز عليه. ولكن ما الذي كان يُفكِّر فيه هذا الصبي الصغير من وراء جلوسه على المقعد؟ ربما لأن اليوم ليلة عيد الميلاد! هذا كان تفكيري!

وتطلَّعتُ خارجـاً إلى المركبات التي كـانت تحمل حقائب المُسافريـن، وهي تتَّجـه نحـو الطائرة، بينما كنتُ أُفكِّر في الهدايـا التي لـن أستطيع تقديمها لكلٍّ مـن والـديَّ وأصدقائي في اليوم التالي.

وحينئذ قال لي الصبي ”سام“: إنه هو وعائلته قد سافروا من ولاية ”ممفيس“.

وفي هذه اللحظة نظرتُ إلى ساعتي، إذ كان الكابتن قائد الطائرة على وشك الحضور في أيِّ وقت. أما سام فكان في سعادةٍ غامرة. ولم أُرِدْ أن أقطع عليه حَبْل تفكيره. فأَدَرتُ مِقْوَد الطائرة، بينما كنتُ أُخبر سام بعمل كل مفتاح وكل رافعة في كابينة القيادة.

وأخيراً، حضر الكابـتن ”جيم“، وصعـد إلى داخل الطائرة. وقال الكابتن ”جيم“ للصبي سام وهو يبتسم ابتسامة عريضة: ”يا مرحباً بك!“.

وأردف قائـلاً: ”هـل تعلم، يا بُنيَّ، أنك إنْ بقيتَ معنا قليلاً، وإذا أنـت أردتَ، فمعي هـذا المفتاح!...“. ولكن سام تـرك الكرسي للكابتن، أما أنـا فبدأتُ بتشغيل مفتاح انطلاق الطائرة.

ثم قمنا، الكابتن وأنا، بمراجعة خطوات إقلاع الطائرة. وكنتُ أظنُّ أن الكابتن قد يصرف سام مـن كـابينة قيادة الطائـرة. ولكن الصبي كان ما يزال جالساً على قدميَّ، بينما موظف اللاسلكي يسألنا ما إذا كُنَّا جاهزين لإدارة مفاتيح الخطوة الأولى للبدء في المرحلة الثانية لإقلاع الطائرة؟

وأعدتُ ترديد سؤال موظف اللاسلكي للكابتن الذي كان يدرس التقارير الخاصة بحالة الجو. فردَّ عليَّ: ”حسناً، فلنبدأ!“. وكان إصبعي على المفتاح، ثم أدرتُ المفتاح الذي كنتُ ألمسه مرتين متسائلاً: ”ماذا تقول؟“. فردَّ عليَّ الكابتن: ”هَلُمَّ فلنبدأ“!

ثم التفتُّ إلى رفيقي، ونظرتُ إلى الكابتن، ثم رجعتُ مـرة أخرى إلى لوحـة مفاتيح كابينة الطائـرة، وأعطيتُ إشارة إلى موظف اللاسلكي ليُعلِن بداية الإقلاع.

وعندما التفتُّ إلى رفيقي الجديد (الصبي)، سألته: ”هل سبق لك أن قُدْتَ طائـرة مـن قبل يـا سام؟“. فنظر إليَّ بعينيه الواسعتين، وفَـرَكَ فروة رأسه، ثم أنصتَ لتعليماتي له.

فجعلته يُدير أول مفتاح. فأدار بمهارة مفتاح الإشعال، ثم ضغط على مفتاحٍ كبير يُماثِل قبضة يده الصغيرة ليبدأ مُحرِّك الطائرة في التشغيل حتى تُقلِع الطائـرة.

وأخـيراً، وبكلتا يـديـه الصغيرتين، حرَّك ذراعاً للأمام للتزوُّد بالوقود. وهكذا بـدأ المُحرِّك يُصدر صـوت همهمة إشارةً إلى بدئه في التحرُّك.

وهكذا استطاع سام أن يُحرِّك الذراع، ثم تراجع إلى الخلف وهو ممتلئٌ دهشةً. فقد جعل الطائرة تتحرَّك!

وفي أثناء ذلك، قال لي: ”أنا لا أُصدِّق نفسي بأني فعلتُ ذلك، وأنا في هذه السِّنِّ!“.

فشكرتُ سام لأنه ساعدنا في إقلاع الطائرة! وردَّ سام: ”لا، شكراً، يا سيدي، إنه حقّاً لعملٍ عظيم!“.

وإذ اقترب الصبي من باب كابينة القيادة، بدأ يسمع صوت أزيز الطائرة مع صوت المُحرِّك الذي جعله يبدأ في الحركـة.

وحينئذ قـال له الكابتن: ”عيد ميلاد سعيد، يـا ابني، هل تسمع صوت أزيز الطائرة؟“.

وردَّ سام: ”شكراً، تماماً تماماً!“.

وبدا على سام كما لو كان يُريد أن يصرخ من السعادة. وبينما هو يُلقي النظرة الأخيرة على كـابينة القيادة، أدار وجهه وخرج إلى قاعـة المسافرين.

أما نحن، فقد أدرنا باقي أذرع التشغيل لباقي المُحرِّكـات، وانطلقت الطائـرة في اتجاههـا، ووصلنا إلى ”ماكون“ في خلال 40 دقيقة.

+ + +

وفي صبيحة عيد الميلاد، وبعد أن استرحنا قليلاً في مضيفة الطيَّارين لحين الرجوع إلى ”أطلانتا“ مـرةً أخرى؛ إذا بواحدٍ مـن موظفي الطيران يأتي إلينا ويقول: ”هاي، يا جماعة، إنَّ والدة أحد الأطفال من رُكَّاب الطائرة أتت هذا الصباح، وأرادت أن تشكركم من أجل أنكم قد شرحتم لابنها، الليلة الماضية، أشياء كثيرة. وقد تركت لكم هـذه الرسالة“.

قـال ذلك وهـو يضع علبـة حمراء على المائدة في الوسط.

وقـال له الكابتن: ”شكراً“. ثم مدَّ يـده وأَخَذَ قطعة من الشيكولاتة من العلبة الحمراء. ثم فتح الرسالة وقرأها في صمت.

ثم تنهَّد عميقاً والتفت إليَّ وقال: ”إن هذا الصبي "سام" مُصاب بالسرطان!“، ثم قرأ الرسالة بصوتٍ عالٍ:

- ”أيها السادة،

شكراً لكم لأنكم سمحتم لسام أن يراكم وأنتم تعملون ليلة عيد الميلاد. سام مُصاب بالسرطان، وهو يخضع للعلاج الكيماوي في "ممفيس". وهذه هي أول مرَّة يعود إلى البيت منذ بداية العلاج. وقد أخذنا سام إلى المستشفى. ولكن لأنه كان يحب الطائرات، قرَّرنا أن نُسافر به على متن طائرة وهو راجعٌ إلى بيته.

ولستُ متأكِّدة ما إذا كان سيركب الطائرة مرة أخرى أم لا! لأن طبيبه أعلمنا أنَّ سام ليس أمامه سوى عدَّة أشهر قليلة. وكان سام يحلم دائماً أن يصير ملاَّح طائرات. والرحلة التي جئنا بها من ممفيس إلى أطلانتا كانت مُنعشة ومُبهجة.

ولم يكن سام يحلم بأن يركب طائرة صغيرة من طائراتكم، ما جعله هكذا سعيداً في هذا اليوم.

ولكنكما، أيها الرجلان المحترمان، قد قدَّمتما له أكبر هدية في عيد الميلاد، لم يكن يظنُّ أنه سينالها في حياتـه. وفي دقائـق قليلة تحقَّقت أحلامه. فشكراً لكما“.

+ + +

ونظرتُ إلى ممر الطائرات أمامنا، الذي كان يتلألأ بأنوار عيد الميلاد؛ بينما الشمس تُرسل أشعَّتها المُبهجة أمامنا. وحينما رجعتُ إلى الكابتن ”جيم“، وجدته لا يزال يتأمَّل في هذه الرسالة.

ثم أتت إلينا إحدى المُضيفات على الطائرة ونـادت: إنَّ الرُّكَّاب جاهـزون للسفر. فتنحنح الكابتن ”جيم“، ثم نادى: ”نبدأ بالرقم 4...“.

+ + +

وكنتُ أُريد أن أكون في بيتي مع أحبَّائي، نتبادَل سويّاً الهدايـا بمناسبة عيد الميلاد. ولكن ذلك الصبي أظهر لي بأنه أحياناً تكون أثمن وأهم الهدايا التي نُقدِّمها، هي تلك التي نُقدِّمها بدون أن نقصد تقديمهـا. ومعظم الأشخاص الأعـزَّاء هم الذين يكونون غرباء عنَّا.

إنه يُمكنني أن أخدم المقاصد الإلهية دون أن أهتمَّ أين أكون! طالما أنا أترك الروح القدس هو الذي يُحرِّكني نحو ذلك. ويا ليته يُحرِّكني دائماً!!

+ + +

+ «لأن كلَّ الذين ينقادون بروح الله، فأُولئك هم أبناء الله» (رو 8: 14).

+ «والقادر أن يفعل فوق كـل شيء، أكثر جـدّاً مِمَّا نطلب أو نفتكر، بحسب القـوَّة التي تعمل فينا، له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيـال دهـر الدهور، آمين» (أف 3: 21،20).

+ «لأن الله هـو العامل فيكم أن تُريـدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة» (في 2: 13).

+ «وإله السلام الذي أقام من الأموات راعي الخراف العظيم، ربنـا يسوع، بـدم العهد الأبدي، ليُكمِّلكم في كلِّ عملٍ صالح لتصنعوا مشيئته، عامـلاً فيكم مـا يُرضي أمامـه بيسوع المسيح، الذي لـه المجد إلى أبـد الآبدين، آمين» (عب 13: 21،20).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis