الكنيسة هذا الشهر



نياحة الأنبا يوساب الأَبحّ الأسقف القديس
(17 طوبة / 26 يناير)

نشأته:

وُلِدَ الطفل يـوسف سنة 1735م في قريـة ”النخيلة“ بمحافظة أسيوط، من أبوين بارَّين أمام الله. وكان والده مـن أغنياء القرية، ومشهوداً له بالتقوى والعطف على المساكين والفقراء. وكانت الأسرة تُلقَّب بأسرة ”الأَبحِّ“. ويظنُّ البعض أنه دُعِيَ ”الأَبحَّ“، لأنه كان مُصاباً ببحَّة في صوته. لكن كثيرين يرفضون ذلك، لأنه لو كان كذلك لما استطاع رثاء المعلِّم إبراهيم الجوهري يوم نياحته في 31 مايو سنة 1795م بكنيسة العذراء بحارة الروم، أمام ألوف من وُجهاء البلاد والأراخنة، وعلى رأسهم حـاكم مصر آنـذاك إبراهيم بك. كـذلك قـام بتأبين البابـا يـؤانس الثامن عشر البطريرك الـ 107 في يوم نياحته.

تعلَّم الطفل يوسف مبادئ القراءة والكتابة واللغة القبطية وحِفْظ المزامير، وصار يتلوها في كـل وقت في خشوعٍ ووقـار، كما درس الكتاب المقدس. بالإضافة إلى التعليم، كان يوسف يُساعد والده في أعمال الزراعة. وكان يتَّصف بالمحبة والبساطة والتواضُع. وكان مواظباً على حضور الكنيسة والتناول من الأسرار المقدَّسة، حتى امتلأ قلبه بمحبة التكريس وزُهد العالم. ثم أَخَذ يُجاهد في الأصوام وفي النُّسك، وكان يقوم في منتصف الليل مُصلِّياً وساهراً على خلاص نفسه.

ولما بلغ يـوسف الخامسة والعشريـن مـن عمره، أراد والداه أن يُزوِّجاه؛ لكنه رفض، إذ كـان يشتاق لحياة الرهبنة. ففرح أبواه وباركا اختياره الصالح.

رهبنته:

اتَّجه يوسف إلى دير القديس أنبا أنطونيوس، وذهب إلى الأب إبراهيم الأنطوني رئيس الدير، الذي رحَّب به وباركه، ثم طلب من الآباء الشيوخ أن يختبروه فترة من الزمن. بعدها زكَّاه كل الشيوخ بفرح. فعاش يوسف بينهم في ابتهاج قلب، وكان يخدمهم بحبٍّ، حتى اكتسب محبتهم وثقتهم. وبعد فترة اختبار، صلَّى عليه شيوخ الرهبان، وألبسوه ثياب الرهبنة ودعوه باسم ”يوسف الأنطوني“.

عكف الراهب يوسف على دراسة المخطوطات الموجودة بالدير، والبحث في علوم الكنيسة وعلوم اللاهوت، حتى اكتسب قَدْراً وافراً من الثقافة الدينية والعلم الغزير والمعلومات العامة.

وبجانب جهاده الروحي من أصوام وصلوات ونُسكيات، كان يخدم جميع الآباء الشيوخ بالدير بكلِّ حبٍّ وبذل حتى زكُّوه لنعمة الكهنوت، فرُسِمَ قسّاً ثم قمصاً. ومِن ثمَّ أَخَذَ يقوم بخدمة المذبح وتقديس الأسرار بكل تواضُع وانسحاق قلب، فامتلأ من النعمة الإلهية وذاع صيته.

معاصرته لبابوات كنيسة الإسكندرية:

عاصر القديس خمسـة بطاركة جلسوا على كرسي القديس مار مرقس:

1. وُلِدَ في عهد البابـا يـؤانس السابع عشر البطريرك الـ 105 (1727-1745م).

2. دخل دير القديس أنبا أنطونيوس في عهد البابا مرقس السابع الـ 106 (1745-1769م).

3. قام بسيامته أسقفاً البابا يؤانس الثامن عشر الـ 107 (1769-1796م).

4. اشترك في اختيار البابا مرقس الثامن الـ 108 (1796-1809م) وسيامتـه. وكـان على رأس الأساقفة الذين اشتركوا في تجنيزه، وقدَّم مرثاة عدَّد فيها فضائل البابا الراحل.

5. اشترك في اختيار البابا بطرس الجاولي (السابـع) الـ 109 (1809-1852م) وسيامته بطريركاً.

مع البابا يؤانس الثامن عشر:

سمع البابـا يؤانس الثامن عشر البطريـرك الـ 107 عـن سيرة الراهب يوسف وفضائلـه، ورغب في مقابلته. فاستدعاه، ودار بينهما حديث في مواضيع شتَّى. فأدرك البطريرك من خلال حديثه مع الراهب يوسف، مدى عمق بصيرته الروحية واتساع مداركه العقلية. فأحبه، وأسند إليه بعض أمور البطريـركية، فقام بها خير قيام. وكـانت علاقته بالبابا قوية وتتَّسم بالحبِّ. فكلاهما كان يحب الذهاب إلى دير القديس الأنبا أنطونيوس، والاهتمام برهبان الدير، وحياة النُّسك والعبادة.

اتَّسم القديس بالفضائـل الروحية مـع العلم الغزير والعُمق اللاهوتي والغيرة على الإيمان الأرثوذكسي. فكان البابا يؤانس الثامن عشر مُعجباً به جداً؛ لذا أسند إليه الكثير من شئون الكنيسـة، خاصةً التعليم وتثبيت المؤمنين في إيمانهم الأرثوذكسي.

وفي مرثاته للبابا يؤانس الثامن عشر بعد نياحته، قال: ”جلس البابا يؤانس فوق الكرسي خجلاً ويستحي مـن الشيخ، ويخجل أن يُكلِّم الصبي. يخشى الفقير، ويستحي مـن الغَني. ويخاف أن يُكلِّم أحداً، قائلاً في نفسه: "أنت تعرف، يا رب، أني إنسانٌ حقير، ولستُ مستحقّاً أن أُدعى لأحقر الناس عبداً. فكيف أسمع من كافة الناس أني أبٌ وسيِّدٌ لهم... يا رب، أنت جعلتني رئيساً على هـذا الشعب، ولستُ أنـا بمستحقٍّ أن أكون راعياً؛ لكن أنت، يا رب، ارْعَهُم وسُسْهُم، لأنهم شعبك وغنم رعيتك"“.

ويستطرد القديس في رثائه للبابا يؤانس الثامن عشر قائلاً: ”كان هذا البار متواضعاً للغاية، ولمَّا رأى الإله الرؤوف تواضُعه ووداعته، أعانه بنعمة الباراقليط، وملأه من الفضائل، حتى أنه صار مُترجماً لكل الكُتُب المقدَّسة، مُفسِّراً لكامل ألفاظها، مُتشبِّهاً بنوح البار، بالسهر في أيام عمل السفينة. وهكذا صار البابا مُنذراً لنا في كل أيام رئاسته“.

سيامته أسقفاً على كرسي جرجا وأخميم:

بعد نياحـة أسقف كرسي جرجـا وأخميم، استدعى البابـا يؤانس الثامـن عشر الراهب يوسف، وأبلغه برغبته في سيامته أسقفاً. فاعتذر لكثرة أعبائه وزُهده في المناصب، إلاَّ أنَّ البابا قـام برسامته رغماً عـن إرادته بـاسم ”الأنبا يوساب“، وذلك في سنة 1791م.

وعندما وصل الأنبا يوساب إلى مقرِّ كرسيه في مدينة جرجا، قام بافتقاد شعبه وأَخَذَ يطوف البلاد شرقاً وغرباً، لمواجهة الأفكار الغريبة التي بلبلت عقول الكثيرين من البسطاء، نتيجة عمل الإرساليات البابوية الرومانية.

وكـان يدخـل القرى والنجوع يشرح حقائق الإيمان الأرثوذكسي، ويُثبِّت الشعب على الإيمان القويم. فاستقرَّت الأرثوذكسية في قلوب المؤمنين، وتمكَّن من إبطال بعض العادات الرديئة خاصة أثناء الصلاة، فأحبه الجميع، وصار سبب بركة للكثيرين.

كان الأنبا يوساب رحوماً بالفقراء، وما كان يَفْضُل منه يُـرسله إلى ديـر القديس الأنبـا أنطونيوس، مـن أجل تعمير الديـر، وإعاشة الرهبان. ولم يكن هذا البار يملك إلاَّ ما يستر به جسمه، وما يحتاج إليه ليومه.

وقـام القديس أنبا يوساب الأَبحُّ بتشييد كنيسة كبيرة في مقرِّ كرسيه، إلى جانب رسامته لعدد مـن الآبـاء الكهنة المُباركين لرعايـة الشعب والسهر على خدمته.

رسالة من بابا روما:

عندما أرسل بابا روما رسالة إلى البابا يؤانس الثامن عشر يدعوه فيها لاتحاد الكنيسة القبطية مع كنيسة روما تحت لواء بابا روما؛ استدعى البابا القديس الأنبا يوساب وطلب منه كتابة ردٍّ قوي على ادِّعاءات كنيسة روما، وتفنيد دعواها بالأدلة والبراهين. فقام الأنبا يوساب بكتابة ردٍّ مُفصَّل، ناقش فيه أهم القضايا الإيمانية المُختَلَف عليها.

ثم طلب البابا منه أن يقوم بحملة تعليمية في الأقاليم المصرية لتثبيت المؤمنين على الإيمان الأرثوذكسي القويم. فقام بجولات تعليمية في أغلب الإيبارشيات. وقد وضع كتاباً ثميناً اسمه: ”سلاح المؤمنين“، يحتوي على مقـالات تُعالـج القضايـا الإيمانيـة المتنوعة، كمـا وضع كتابـاً آخر اسمه: ”الدَّرَج“ نَسَبَه إلى البابا يؤانس الثامن عشر، وذلك تقديراً منه للبابا الجليل وإنكاراً لذاته.

نياحته:

إذ قد تقدَّم الأنبا يوساب في الأيام، وأدركته متاعب الشيخوخـة، وقـد بلغ من العمر واحداً وتسعين عاماً، قضى معظمها في خدمة الكنيسة التي أحبها؛ لذا لَزِمَ دار البطريركية بالقاهرة في ضيافة البابا بطرس الجاولي. واشتاق أن ينطلق إلى السماء وهو في ديره الذي ترهَّب فيه. فاتَّجه إلى دير القديس أنبا أنطونيوس، وبعد أن أقام فيه عدَّة أيام، فاضت روحه الطاهرة في يدَي الرب، في 17 طوبة سنة 1543 الموافق 24 يناير (في ذلك الحين) سنة 1826م. فقام الرهبان بتجنيزه ودفنه في الدير.

وبعد عـدَّة سنوات مـن دفنه، وجدوا جسده سليماً، لم يَرَ فساداً. فقاموا بإخراجه من المقبرة، ووضعوه في مقصورة في كنيسة الديـر. وقـد كرَّمت الكنيسة القبطية هـذا الأب الجليل والعالِم اللاهوتي البار، فذكرت سيرتـه العطـرة في السنكسار في يوم نياحته (17 طوبة).

بركة صلواته تكون معنا، آمين.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis