الكنيسة الأرثوذكسية في العالم



الكنيسة الأرمينية الرسولية
- 1 -

+ ورَدَنا السؤال التالي مـن أحد القُرَّاء: ”أقرأ في المجلة، في كثير مـن المقالات، عن الكنائس الشرقية، والبيزنطية، واللاتينية؛ ولا أعرف أن أُميِّز بين تلك الكنائس وأوطانها“؟ وإجابـة لهذا السؤال، فسنُقدِّم هنا سلسلة من المقالات عن هذه الكنائس وتاريخها منذ قيامها وإلى الآن.

هنـاك الآلاف مـن القبائـل والشعوب كتبت صفحات عن تاريخ العالم. ومعظم هؤلاء كانوا من الغُزاة أو المستوطنين، لكنهم عبروا من المشهد تاركين وراءهم تراثهم، إما ألواحاً مكتوبة، أو آثار تدمير، أو صيتاً إما حسناً أو سيِّئاً أو شهرة.

والشعب الأرمني الـذي يشمل وطنـه القديم الآن: شرق تركيا والقوقاز، وشمال غرب إيران؛ عانَى 3000 عام من الشقاء والعذاب، بالرغم من تحدِّيات الحياة وسط المراحل المصيرية بين الشرق والغرب. وإذ حُشِروا بين آسيا وأوروبا، فقد عاشوا ما بين جيران أكثر قوة، الذين حاولوا أن يُخضعوهم مراراً وتكراراً وبلا هوادة.

كيف عاش الأرمن وسط شعوب قوية جداً؟

الرومـان، والبارثينيون (الإيـرانيون الآن)، والبيزنطيون (وهم شعوب القسم الشرقي مـن روما القديمة)، وإمبراطوريـة الساسانيين (وهم ورثة البارثينيين - الإيرانيين القدماء - من سنة 224-651م)، كلهم تبدَّدوا؛ أما الأرمن فقد ظلُّوا على قيد الحياة. ويُرجِع معظم المؤرِّخين الفضل في ذلك إلى صدق عزيمـة الأرمـن وكنيستهم، وإلى حكمتهم في مواجهة المخاطر والآلام. وهذا الكيان القوي هو الذي حدَّد كل عوامل التأثير في المجتمع الأرمني وثقافتهم.

كيف دخلت المسيحية إلى الأرمن؟

ما تبقَّى في أُفق التاريخ القديم، وفـوق كل السُّحُب المُلبَّدة لبركـانٍ منقرض، تحدَّد مكان الموضع حيث تَجدَّد شرقي شعب الكرة الأرضية من نسل إبراهيم (اليهود) والمسيحيين والمسلمين، الذين من المعتَقَد أنَّ البشرية تجدَّدت فيه بعد حادثة الطوفان العظيم الذي تحدَّثت عنه الكُتُب القديمة المقدَّسة لدى الأديان الثلاثة المعروفة. فبحسب ما وَرَدَ في سِفْر التكوين، فهناك على جبـل أرارات استقرَّ فُلْك نـوح. وعلى هـذه المنحدرات المقدَّسة، وَعَدَ الله نوحاً أنه لن يعود يُهلِك الخليقة مرة أخرى بالمياه (تك 8: 21).

وفي ظلال ”أرارات“، وعلى تلَّة أصغر، قُطِعَت من الجبل ويُحيطها سلك شائك، تقوم كنيسة صغيرة فوق برج مُحَصَّن قديم. وفي حُفرة عمقها 23 قدماً، عـاش قديس أرمينيا لمدة 13 عامـاً المُسمَّى ”غريغوريوس المنوِّر“، الذي أنـار الأرمن (بنور الإيمان المسيحي) وصنع تاريخهم. وهـو ابن أحد النبلاء البارثينيين، الذي اغتال ملك الأرمن، وقد انضم ”غريغوريوس“ إلى الأرمن في جهادهم ضد البارثينيين الجبابرة كنوع من التعويض عن قتل ملكهم. وقد قام الملك الجديد ابن الملك المقتول، واسمه ”تيريدادس“، بوضع ”غريغوريوس“ في حفرة عميقة، وتركـه هناك بدون طعام وشراب؛ ولكن غريغوريوس - وبمعونة أرملة تقيَّة - عاش.

منحدر جبل أراجتس حيث اعتُقِلَ القديس غريغوريوس،

وتظهر في الصورة كنيسة أرمينية

وقد أُصيب ”تيريدادس“ بحالة قنوط ويأس بعد أن قَتَلَ اثنتين مـن العـذارى الرومانيـات المسيحيات: ”غيانا“ و”إربسيما“، اللتين مع رفيقاتهما لجأتا إلى ”أرمينيا“ (”إربسيما“، وهي ذات جمال باهر، رفضت محاولات غير طاهرة من الملك). ولما استدعى الملك ”تيريدادس“ - الذي كان ذا سلوك غير سويٍّ، ما أدَّى إلى تزعزُع المملكة – غريغوريوس، وَعَظَ الملك وحاشيته الملكية أن ”يرعَوْا خالق كل إنسان، ويلقوا عن كاهلهم نِير الشرير... ويعترفوا بالله، ويرفضوا عبادة الأوثان، حتى يُسامحهم الله طويل الأناة، ويغفر لهم ويتعهَّدهم برحمته؛ فإنَّ الله هو الذي يرعى الكل“.

وقـد رَبَحَ غريغوريـوس، ليس فقط إطلاق سراحه، بل وأيضاً الدولة المسيحية الأرمينية. ففي عام 301م، قـام القديس غريغوريوس بتعميد الملك وكـل أهـل بلاطه الملكي. وأعلن الملك المسيحية كدين الدولة، مؤسِّساً دولة أرمينيا المسيحية.

وقد سجَّل أحد الكَتَبَة الرومان، واسمه ”أغاثا أنجيلوس“، هـذه الأحداث بعد قـرن مـن قتل المسئولين، بناءً على مصادر مُعاصرة.

أمَّـا أصل المسيحية في أرمينيا، فهو ليس مدعومـاً بوثـائـق. وحتى في زمـان القديس غريغوريوس، فالأرمن المسيحيون أظهروا اعتياداً بعادات المسيحيين السريان في الشرق الأوسط، وكذلك بالتعبيرات المسيحية اليونانية لدى المسيحيين في آسيا الصغرى، سواء باليونانية أو بالسريانية، واستخدموها في الاحتفال بسرِّ الإفخارستيا. ويُرجع التقليد القديم مصـدر المسيحيـة في أرمينيا إلى الرسولَيْن برثولماوس وتدَّاوس.

تاريخ التقليد المسيحي في أرمينيا:

ابتدأت الكنيسة تنمو، ويُسجِّل المؤرِّخ ”أغاثا أنجيلوس“ بأنَّ القديس غريغوريوس وهو يُعلِّم الملك وحاشية قصره، رأى في حُلم، شخص المسيح الذي أوصاه ببناء كنائس، وأن يحتفظ برفات العذارى الشهيدات ”غيانا“ و”إربسيما“ في الموقع الذي استشهدتا فيه، ولكي يبني كنيسة في ”مكان ظهور المسيح له“، وهو الاسم الذي يُترجم بالأرمينية بهذه الكلمة ”إتشميادزين“.

ويُعتَبَر موضع إتشميادزين ”هو قلب الأُمَّة الأرمينية“، حسب تعبير الشاعر الأرمني ”بيرج بروشيان“ في القرن التاسع عشر، الذي قـال: ”ادْخُل إلى الداخل، وقَبِّل موضع الظهور، وبذلك تكون قـد قبَّلْتَ كـل الأُمَّة الأرمينية المطرودة، والمُشتَّتة في أرجاء الأرض كلها“. وبحسب التقليد الأرمني، فهناك مجموعة من الكنائس والمزارات التي شُيِّدت بحجارة منحوتة مـن جبل ”أرارات“. وقـد أصبحت مدينـة ”إتشميادزيـن“ هي مركز البطريـرك الأرمني المُلقَّب باسم ”الكاثوليكوس“، أي الأسقف المُتقدِّم في الكنيسة الأرمينية. ومنذ نياحة الكاثوليكوس ”ساحـاق الكـبير“ في عـام 438م، وكـل الكاثـوليكوسيين يتعاقبون مباشـرة مـن القديس غريغوريوس المنوِّر.

تقسيم المملكة الفارسية والبيزنطية:

كان جيران أرمينيا: الرومان الشرقيون (أي البيزنطيون) والفرس، على خلافٍ دائم. لكنهما سرعان ما اتَّفقا عام 387م على تقسيم المملكة وإقامة منطقة عازلة بينهما. وبالرغم من انقضاء المملكة الأرمينية، إلاَّ أنَّ الإيمان المسيحي قد ازدهر بين الأرمن البيزنطيين. لكن أرمن الفرس أُجبِروا، للأسف، بالإكراه، على اعتناق الديانة الزَّرَدَشتية.

بدء اللغة الأرمينية:

ومـن أجـل أن يُقوِّي الكاثوليكوس ”ساحاق“ الإيمـان المسيحي بـين رعيتـه المحاصرة، ومعظمهم يعيشون في بلاد الفرس؛ كلَّف الراهب ”مسروب ماستوك“ أن يؤلِّف أبجدية أرمينية، لكي يُقدِّم مبادئ الإيمان المسيحي بـاللغة العاميـة الأرمينية. وفي عام 405م، تمَّ إنـزال الكلمات الأولى في اللغـة الأرمينيـة، بواسطة الراهب ”مسروب“، بآية مـن سِفْر الأمثال: ”لكي يُرحِّب الناس بالحكمة والترتيب، لعلهم يفهمون كلمات الفهم“ (انظر أم 2: 1-6؛ 23: 23).

ترجمة الكتاب المقدس وكتابات آباء الكنيسة:

وإذ كُلِّف ”مسروب“ بترجمة الكتاب المقدس، وكتابات آباء الكنيسة، والكتابات اليونانية واللاتينية؛ قام مسروب وتلاميذه بشدِّ الرِّحال إلى المراكز الأساسـية للعلم: وأولها الإسكندريـة، وأثينـا، والقسطنطينيـة، وإديسَّا. وهكـذا قـدَّموا للكنيسة الأرمينية نصوص المجادلات اللاهوتية الكبرى في المسيحية المُبكِّرة، وعلى الأخص، المسائل المختصَّة بشخص وطبيعة المسيح وعلاقته بـالآب، تلك المجادلات التي لم يستطع الأرمن حضورها بسبب الحـروب ضد الفرس؛ وعلى الأخص، تـلك المجادلات التي قامت في مجمع خلقيدونية (عام 451م)، التي حاوَلَت التوفيق بين الخلافات التي ظهرت بين المدارس اللاهوتية المتنازعة في كلٍّ من الإسكندرية وأنطاكية.

محاولة إجبار الأرمن

على جَحْد إيمانهم المسيحي:

وفي عام 448م، طلب الإمبراطور الفارسي مـن رعيته مـن الأرمن أن يجحدوا الإيمان المسيحي، الـذي وصفه بأنـه رمـزٌ لولائهم لخصومه من البيزنطيين.

وقد اجتمع بالقرب من مدينة ”خور فيراب“ مجمع كنسي وطني للردِّ على هذا الطلب، وكان ذلك في تلك المدينة التي شهدت المخبأ الـذي اعتُقِلَ فيه القديس غريغوريوس.

ومع إعلان المجتمعين الطاعـة للإمبراطور الفارسي، إلاَّ أنَّ المجمـع أعلـن ولاءه للمسيح: ”لا أحد يقدر أن يفصلنا عن إيماننا، لا ملائكة، ولا ناس، ولا سيف، ولا نار، ولا مياه، ولا محاكمة، ولا تعذيب؛ لأن عندنا عهد إيمان، ليس مع بشر... بل هو عهد مع الله. من المستحيل أن ننفصل عنه، لا الآن، ولا غداً، ولا إلى أبد الآبدين“.

وبينما كان آخر سليل للقديس غريغوريوس، هـو القديس فارتان، الذي بَذَلَ حياتـه على يد الفرس دفاعاً عـن الكنيسة الأرمينية عام 451م؛ إلاَّ أنه بعد 33 عاماً عُقِدَت معاهدة سلام، أعطت لأرمن الفرس الحرية لممارسة إيمانهم المسيحي.

تماسُك الكنيسة الأرمينية ضد

قرارات مجمع خلقيدونية:

في عام 551م، وفي مدينة ”دفين“، رفضت الكنيسة الأرمينية قـرارات مجمع خلقيدونيـة، وأكَّـدت على ولائـها لصيغة الإيمان الخاصة بشخصيـة المسيح التي أعلنها القديس كيرلس الإسكندري عمود الدين. وبهذا قطعت الشركة مع كنيسة القسطنطينية، وبالتالي قطعت رُبُط الشركة مع كنيسة روما.

إلاَّ أنَّ المجمع لم يقطع العلاقات التجارية ولا الثقافية مـع الإمبراطورية البيزنطية، بمـا فيها الكنيسة الإمبراطورية، كنيسة ”آجيا صوفيا“.

وعلى مدى 400 عام، ازدهرت التجارة بين البلدين. وقد استخدم الأباطرة البيزنطيون الكَتَبَة والنُّسَّاخ الأرمن الذين توافدوا على القسطنطينية. كما قـام الرعايـا البيزنطيون بخدمـة الأساقفة الأرمن، وكذلك طبقة النبلاء الأرمن.

وقد عَمِلَ المهندسون الأرمن في بناء نُظُم الدفاع عن البلاد، ورمَّموا قبة كاتدرائية ”آجيا صوفيا“ البيزنطية، وهي أكبر كاتدرائية للكنيسة البيزنطية (للأسف الآن هي في حوزة الأتراك الجُدُد). بل إنَّ الأرمن ارتقوا في بعض العصور إلى العـرش البيزنطي، وكوَّنـوا سـلالات إمبراطورية حاكمة دعمت إعادة فكرة أرمينيا المستقلة، الأمر الذي خفَّف من العوائق التي بين البيزنطيين المسيحيين والعالم الإسلامي العربي.

أما مدينة ”آني“ التي كانت عاصمة الأرمن في العصور الوسطى، فقد صارت الآن خراباً تسكنها الأشباح. وقـد كانت حدود تركيا مع أرمينيا صورة رائعة لفن المعمار، والثروة الفنية لأرمينيا في العصور الوسطى. وقد جاء وصف ذلك في التاريخ المعاصر لهذه الفترة بأنها مدينة ”الألف وواحد كنيسة“، وما زالت بعض هذه الكنائس قائمة إلى الآن، تُعلِن عن العجائب الفنية الرائعـة، والتي ظهرت في الأدوات الهندسـية للبناء، مثل الأقواس المقنطرة والأقبية المُضلَّعة، والتي انتقلت - فيمـا بعـد - إلى كاتـدرائيات أوروبـا باسم Gothio ”الفن المعماري القوطي“ (مـن القرن الثاني عشر إلى القرن السـادس عشر)، وكـذلك اللوحـات الجدارية واللوحات الفنية والتماثيل المنحوتة، التي تُصوِّر الملـوك والقديسـين والملائكـة والطيـور والصـلبان، والتي تعكس التأثـيرات البيزنطيـة والكلاسيكيـة والعربيـة والفارسية.

(يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis