-134-


الكنيسة القبطية في القرن الثامن عشر
البابا مرقس (يؤانس) الثامن
البطريرك الثامن بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1796 - 1809م)
- 8 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تابع) أراخنة الأقباط في ذلك العصر

(تكملة) سيرة المعلِّم جرجس الجوهري:

ثالثاً: خدمته في مدة حُكْم الأتراك:

أَخْلَت الجيوش الفرنسية القاهرة في 14 يوليو عام 1801م، ودخلها الجنود الأتراك وبعض رجال الجيش الإنجليزي، ومعهم أُمراء مصر: إبراهيم بك الكبير، والألفي، والبرديسي، والسيد عمر مكرم، وغيرهم. وامتلأت قلوب الأُمَّة المصرية فرحاً لتخلُّصهم من الاحتلال الفرنسي. وتمَّ تعيين خسرو باشا والياً على مصر.

+ وفي سنة 1801م، حضر محمد علي باشا لأول مرة إلى مصر مع جيش القبطان حسين باشا الذي أوفدته الدولة العثمانية لمحاربة الفرنسيين في مصر، وبَقِيَ في القاهرة منذ ذلك الحين إلى أن صار والياً على مصر.

+ وفي سبتمبر سنة 1801م، قُرِأَت فرمانات (قرارات) كانت مع ”عثمان كتْخُدا“ (كتخُدا أو كتخداه، هو أمين أو وكيل الوالي) مُنوَّهٌ فيها بذِكْر أعيان الكَتَبَة الأقباط والتوصية عليهم، مثل: جرجس الجوهري، وواصف ملطي، لمقدرتهم على حفظ وتحصيل الأموال الأميرية. وعند مجيء الوزير والعثمانيين قدَّموا المعلِّم جرجس وأجلسوه، بسبب ما كان يُقدِّم لهم من الهدايا حتى كانوا يُطلقون عليه اسم ولقب ”جرجس أفندي“. وقد رآه المؤرِّخ المعروف في تلك الحقبة ”الجبرتي“ يجلس بجانب الوالي ”محمد خسرو“، وبجانب ”شريف أفندي الدفتردار“، وكان يشرب في حضرتهم الدخان وغيره، وكانوا يُراعون حضوره ويشاورونه في كل الأمور(1).

+ وعندمـا حضرت حـرم الباشـا (الوالي خسرو باشا) وحاشيتها وسراريـه مـن الديـار الروميـة في يونيـة 1802م، أَسْكَنهُنَّ المعلِّم جرجس بيت خليل باشـا البكري بعد إعـداده وزخرفتـه وفَرْشـه بالأثـاث الفاخـر. وقـام ”المحروقي“ بفَرْش المكان، وكذلك قـام المعلِّم جرجس كذلك بفرشه، وكذلك أحمد بـن محرم، واعتنوا بـذلك اعتناءً زائـداً، حتى أن المعلِّم جـرجس فَرَشَ بُساطـاً مـن الكشمير، وغـير ذلك(2).

+ وفي سنة 1803م، ثارت العساكر التركية في شهر مايـو على الوالي (خسرو باشـا)، ثم زحفوا على حـارة النصارى ونهبوا بيت السيد المحروقي، ونهبوا كـذلك بيت المعلِّم جـرجس الجوهري، وأخذوا منه أشياءَ نفيسةً وفرواً ثميناً. وأراد قائـد فرقة الألبانيين ”طاهر باشا“ مساعدة الوالي، فلم يفلح؛ بل وانضمَّ للعصاة(3)!

ولما لم يجد خسرو باشا الوالي جُنداً تحميه، ولَّى هارباً إلى دمياط، وبَقِيَ فيها ينتظر فرصة يستمدُّ بها ما فقده. وبعد فراره، جَمَعَ طاهر باشا كبار العلماء وأشراف العاصمة، ونادوا به حاكماً على مصر، إلى أن يُقيم الباب العالي (الأستانـة بتركيا) خَلَفَاً لخسرو باشا (الوالي الهارب). ولكن لم يُكمِّل طاهر باشا شهراً واحداً حتى تألَّب عليه الجُند بسبب عدم دفع الرواتب، ثم اغتاله أحد الضباط.

+ ظهور محمد علي باشا: وأصبح بعد ذلك محمد علي، الذي يلي طاهر باشا في الرُّتبة في الجيش، رئيساً للجنود، إذ خلا له الطريق بهروب خسرو باشا وقَتْل طاهر باشا؛ فانضمَّ إلى عثمان البرديسي، وتحالفا معاً، ونصَّبا إبراهيم بك الكبير نائباً عـن الوالي العثماني، وطردوا الإنكشارية، وكذلك أحمد باشا والي المدينة، و”ينبع“ الذي كان مُقيماً في مصر في ذلك الحين(4).

+ وبعد ذلك بزمنٍ يسير، تمكَّن محمد علي من التخلُّص من البرديسي الذي فرَّ مع محمد بك الألفي إلى الصعيد. وعـيَّن الباب العالي أحمد خورشيد باشا والياً جديداً على مصر(5).

+ وفي 21 مارس سنة 1803م، وصل أحمد خورشيد باشـا إلى منوف، فقـام السيد أحمد المحروقي والمعلِّم جرجس الجوهـري بتجديـد عمارة بيت إبراهيم بك بالداودية، وفَرَشاه. وفي 26 من نفس الشهر، وصل إلى القاهرة وأقام في هذا القصر بالداودية، إلى أن انتقل منه إلى بيت ”البكري“ بالأزبكية(6).

+ وفي 23 مارس سنة 1804م، أَنعم الوالي الجديد على السيد أحمد المحروقي وثبَّته في منصب أمانة الضربخانة (حيث تُضرب وتُسَكُّ النقود)، وكـذلك شاهبندرية التُّجَّار. وكذلك أَنعم الوالي على جرجس الجوهـري وأقرَّه في وظيفة رئاسة المباشرين(7).

+ وفي 8 مايـو سنة 1804م، كـان الشيخ الشرقـاوي ينوي السَّفَر إلى مُـولد السيد البدوي بطنطا، واعتزم السفر معه المعلِّم جرجس الجوهري والسيد أحمد المحروقي، واستأذَنَا الباشا؛ فسمح لهما. ولكنهما، إذ علما بقدوم الأُمراء المماليك من الصعيد للإغارة على القاهرة، امتنعا عـن السَّفَر مع الشيخ الشرقاوي، وتولَّى محمد علي رئاسة الجيش الذي أعدَّه لمحاربتهم(8).

حَبْس المعلِّم جرجس ثم الإفراج عنه: وفي 29 يونية سنة 1804م، استدعى الباشا (الوالي) إلى مجلسه المعلِّم جرجس الجوهـري وكبار الكَتَبَـة وعددهم 22 قبطياً، ولم تجرِ العادة بإحضارهم مـن قبل؛ ثم نزلوا إلى بيت المحروقي، فتناولوا طعام الغذاء عنده، ثم حَجَزَهم إلى العصر. وبعد ذلـك، طلبهم الباشـا مرة أخرى إلى القلعة، وحبسهم هناك تلك الليلة، واستمر يُلاججهم حتى طلب منهم ألف كيس؛ ثم أفرج عنهم في 5 يوليو سنة 1804م بعد أن قرَّر عليهم ألف كيس خلاف ”البرَّاني“ وقـدره 250 كيساً، ونزلوا إلى بيوتهم بعد العشاء(9).

+ وفي 6 يناير سنة 1805م، سافر السيد محمد ابن المحروقي والمعلِّم جرجس الجوهـري ومعهما جملة من العسكر إلى القليوبية بسبب قافلة منهوبة، ورجعا منها في 23 مـن نفس الشهر، وأحضرا معهما بعض أحمال قليلة بعدما صرفا أضعافها في مصالح وشراء كساوي للعرب وغير ذلك(10).

العلماء والوجهاء يُقيمون محمد علي والياً: وقد كان خورشيد باشا ضعيف الإرادة، وعَجَزَ كأسلافه عـن دفع رواتب الجُند الأتراك، فعاد أولئك إلى السَّلْب والنهب. فاغتنم محمد علي ورجاله الألبانيين (إذ كان محمد علي مـن بلاد ألبانيا) هذه الفرصة لحماية الأهالي واكتساب رضاهم، وحاصر خورشيد باشـا ورجاله في القلعة وأطلق عليهم المدافع في مايـو سنة 1805م. وحينـذاك اجتمع علماء البلد ووجهاؤها، وأقاموا محمد علي والياً على مصر.

وقد وافق الباب العالي في الأستانة في تركيا على رغبة الأهالي، وعيَّن محمد علي والياً على مصر في مايو سنة 1805م. وحينذاك تخلَّى خورشيد باشا عن القلعة وسلَّمها إليه(11).

رابعاً: خدمته في مدة حُكْم محمد علي باشا:

ظـلَّ المعلِّم جرجس الجوهري في رئـاسة المباشرين بعد زوال حُكْم الولاة العثمانيين (وآخرهم خورشيد باشا)، وكذلك عندما بدأ محمد علي باشا بالعمل على تعزيز مركزه وتثبيت سُلطانه، إلى أن قام بأعباء الحُكْم في مصر منذ مايو سنة 1805م.

+ وفي أول مايو سنة 1805م، طلب محمد علي من ابن المحروقي وجرجس الجوهري ألفي كيس. وفي ليلة 12 يونيـة سنة 1805م، حضر كتخُدا محمد علي والمعلم جرجس الجوهري إلى بيت السيد عمر، وحضر أيضاً الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير والقاضي، وتشاوروا فيما عرضه عليهم محمد علي مـن الشئون والآراء. وفي أول يوليـو، طلب محمـد علي قرضـاً مـن التُّجَّـار المسيحيين(12).

محمد علي باشا يقترض من الأقباط: ولمَّا استقرَّت الولايـة بمحمد علي باشـا، عمل على استرضاء الجنود بصَرْف المتأخِّر من مرتباتهم. لذلك، طلب من أقباط مصر في 18 يوليو سنة 1805م قرضاً، وقسَّمه على كبارهم. وكان ذلك أول قرض عَقَده بعد ولايته، وكانت قيمته كبيرة.

+ وفي 3 أغسطس سنة 1805م، قبض على المعلِّم جرجس الجوهري ومعه جماعة من الأقباط وحَبَسهم في بيت كتخُدا (أمين الوالي أو وكيله)، وطلب الحساب ابتداءً من سنة 1800م (سنة 1215 هجرية)، وأحضر المعلِّم غالي الذي كـان كـاتب الألفي بالصعيد وأقامه في منصب رئاسة الكُتَّاب المباشرين بدلاً من المعلِّم جرجس الجوهري، وكلَّفه بعمل حساب ”التزامه“ (أي عهده) عن الخمس السنوات السابقة. وبعد 7 أيـام، أفرج عـن المعلِّم جرجس الجوهري والذين معه، على شرط أن يدفع 4800 كيس، وأن يبقى كما كان رئيس المباشرين!

+ فقام المعلِّم جرجس بدَفْع مبلغ كبير من المطلوب، ووزَّع الباقي على الكُتَّاب والصيارفة، مـا عـدا المعلِّم غالي والمعلم فلتاؤس لأسباب اختلفت فيها الأقاويل.

وحصـل له وللأقباط، بعد ذلك، مضايقـات شديدة، اضطرتـه إلى التنازُل عن أفخر أملاكه، ولاسيما التي كـانت في منطقة ”بِرْكة الأزبكية“ و”قنطرة الدِّكَّة“. وظلَّت هذه الأملاك التي تنازَل عنها للوالي، ضمن أوقاف أُمراء العائلة العَلَوية حتى تملَّك الملك فاروق الأول مُلْك مصر، الذي نُحِّيَ مـن على عرشه بأَمر قادة الثورة المصرية (1952م). ومـن ذلك الحين، أخذ نجم المعلِّم جرجس الجوهري في الأُفول(13).

كثرة معارضته لمحمد علي، ثم هروبـه إلى الصعيد: لما كثرت معارضـة المعلِّم جـرجس الجوهـري لمحمد علي باشـا، وتوقُّف المعلِّم جـرجس عـن تحصيل الأمـوال مـن الشعب المصري رحمـةً بهم! خاف مـن سوء العاقبة، وخشي غضب الوالي عليه، فلم يَسَعْه إلاَّ الهروب مـن أمامـه إلى الصعيد. فركب يوم 9 سبتمبر 1805م من أمام دير مصر القديمة متوجِّهاً إلى الأُمراء المماليك بالوجه القبلي، كما قيل إنَّ محمد علي قد نفاه إلى الصعيد(14).

+ ولما شاع خبر اختفائه في 11 سبتمبر 1805، دعا محمد علي المعلِّمين فلتاؤس وغالي وجرجس الطويل، وتحدَّث معهم في هـذا الشأن. وفي يوم 15 سبتمبر، نزع البلاد التي كانت ضمن التزام المعلِّم جرجس الجوهري لتحصيل الأموال من أهاليها، وطرحها في المزاد؛ فاشتراها القادرون والراغبون! على أن يقوم أولئـك بتحصيل المبالـغ مـن أهاليها(15).

(يتبع)

(1) الجبرتي، جزء 3، ص 207،204؛ وجزء 4، ص 134؛ عن كامل صالح نخلة، ”سلسة تاريخ البابوات“، الحلقة الخامسة، ص 99.
(2) الجبرتي، جزء 3، ص 239؛ المرجع السابق، ص 100،99.
(3) الجبرتي، جزء 3، ص 256؛ المرجع السابق.
(4) الجبرتي، جزء 3، ص 261،259، 263،262؛ المرجع السابق، ص 100.
(5) الجبرتي، جزء 3، ص 305؛ المرجع السابق.
(6) الجبرتي، المرجع السابق، ص 345،305.
(7) الجبرتي، ص 310؛ المرجع السابق، ص 101.
(8) الجبرتي، ص 311؛ المرجع السابق، ص 101.
(9) الجبرتي، جزء 3، ص 320،319؛ المرجع السابق، ص 102،101.
(10) نفس المرجع السابق، ص 102.
(11) ”التوفيقات الإلهامية“، ص 610، والجبرتي، ص 357،350، جزء 3؛ نفس المرجع السابق، ص 102.
(12) الجـبرتي، جـزء 3، ص 359،354؛ المرجـع السابق، ص 103.
(13) الجبرتي، ص 364،362؛ المرجع السابق.
(14) المرجع السابق، ص 104.
(15) المرجع السابق، ص 104.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis