مقدِّمات الأسفار
- 13 -

سِفْر التثنية: السفر الخامس لموسى النبي

مقدِّمــة:

يتضمن سِفْر التثنية مجموعة مـن التوصيات الوداعية التي قالها موسى لشعب إسرائيل في خلال الأيام الأخيرة من حياته على الأرض التي امتدَّت إلى 120 عاماً. وهناك ما يُفيد في نفس السِّفْر أنه «عندما كَمَّلَ موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتابٍ إلى تمامها، أَمَرَ موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً: ”خذوا كتاب التوراة هذا وضَعُوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهداً عليكم“» (تث 31: 24-26). فقد كانت هذه التوصيات موجَّهة للجيل الجديد الذي سيرث أرض الموعد، الجيل الذي وُلد في البرية ولم تَرَ عيناه مصر ولا المصريين، فيما عدا يشوع بن نون وكالب بن يَفُنَّة.

كان الرب قد أَعْلَم موسى بقُرب انتقاله (تث 31: 2)، وكان الشعب مُعَسْكِراً في عربات موآب شرقي نهر الأردن مقابل أريحا (عد 35: 1؛ 36: 13) على استعداد الدخول إلى أرض كنعان، تلك الأرض التي وعدهم الرب بها قبل خروجهم من أرض مصر. ولم يكن موسى هو المزمع أن يُملِّكهم هذه الأرض، بل يشوع بن نون، حسب ما أَمَرَ به الرب. ولكن كان على موسى أن يُسلِّم الجيل الجديد - قبل موته - كل الوصايا والشرائع والأحكام الخاصة بعهد الله مع شعبه، وضرورة طاعتهم لها وعملهم بها، لكي يرثوا هذه الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً ويثبتوا فيها.

فسِفْر التثنية هو السِّفْر المُكمِّل لأسفار موسى الخمسة، ويُعتبر أنه خلاصتها وزُبدتها. فقد صبَّ فيه موسى كل خبرة سِنِي حياته، ووضع فيه عُصارة الناموس وخُلاصته في قوله: «اسْمَعْ يا إسرائيل. الربُّ إلهنا ربٌّ واحدٌ. فتُحِبُّ الربَّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوَّتك. ولتكُن هذه الكلمات التي أنا أُوصيك بها اليوم على قلبك، وقُصَّها على أولادك، وتكلَّم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تقوم. واربطها علامةً على يدك، ولتكُن عصائبَ بين عينيك، واكتُبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك» (تث 6: 4-9).

وهكذا يتضح أنَّ هذا السِّفْر هو خُلاصة توراة موسى، وواحد من أعظم أسفار العهد القديم، وقد اقتبس منه العهد الجديد ما لا يقل عن ثمانين اقتباساً. كما اقتبس منه الرب يسوع ردَّه على إبليس في تجربته على الجبل في قوله: «مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله» (تث 8: 3؛ مت 4: 4)، وكذلك في قوله: «مكتوب أيضاً: لا تُجرِّب الرب إلهك» (تث 6: 16؛ مت 4: 7)، وكذلك أيضاً في قوله: «لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإيَّاه وحده تعبد» (تث 6: 13؛ 10: 20؛ مت 4: 10). كما أشار إلى هذا السِّفْر بكثرة آباء الكنيسة الأوائل في كتاباتهم، وكان من أهم مصادر إلهامهم ودراساتهم.

السِّمَة المُميِّزة للسفر:

يمكن القول بأنَّ أحكام هذا السِّفْر مدنية اجتماعية أكثر منها طقسية شعائرية، وشخصية أخلاقية أكثر منها مختصَّة بالسياسة العامة للأُمَّة والنظرة القانونية للناموس الذي بُنِيَ عليها.

وعموماً، فإنَّ هذا السِّفْر ليس سفراً تاريخياً بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا هو سفر قانوني يتضمن قوانين محدَّدة، إلاَّ أنه بنوعٍ ما يشمل سرداً تاريخياً، وبعضاً من الأحكام والفرائض والقوانين. ولكنه بكل تأكيد سفر وعظي، يحثُّ الشعب ويُحرِّضه بكل حرارة على حِفْظ وصايا الرب وفرائضه وأحكامه بكل أمانة وإخلاص بدافع حبِّه للرب وولائه الكامل له بصفته شعب الله المختار من بين جميع الشعوب، ليصير الخميرة التي يتبارَك بها العالم كله.

فالسِّمَة المُميِّزة لهذا السفر، إذن، هي أنه رسالة أبوية ونبويَّة مُخلِصة مُوجَّهة إلى السامع بهدف تغيير عقله وإرادته وختانة قلبه وأُذنيه، لكي يُقرِّر أن يتبع الرب ويحبه بكل كيانه ويعمل ما يُوصيه الرب به، لكي يحيا ويرث البركة ويسكن الأرض التي حلف الرب لآبائه أن يُعطيهم إيَّاها (انظر تث 10: 13،12؛ 10: 16؛ 30: 6؛ 30: 15-20).

عنوان السِّفْر:

الاسم العبري لهذا السِّفْر ”إليه – هاديباريم“ ~yrbdh©hla = ومعناه: ”هذه هي الكلمات“، وهي الكلمات الافتتاحية للسِّفْر باللغة العبرية (حسب الأصل العبري).

كما يدعونه أيضاً: ”خُمْس أخماس الناموس“=qzxhm-twyXymx-yXymx. ويوجد اسم آخر بالعبرية أُطلِقَ على هذا السِّفْر عند اليهود اليونانيين، وهو ”مِشنة التوراة“، أي: ”تكرار التوراة“، وهو مشتق خطأ من الآية التي وردت في (تث 17: 18) القائلة: «... يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة». ومنها جاءت أيضاً التسمية اليونانية: Deuteron?mion، حيث Deutero تعني ”ثانية“، وnomiun تعني ”ناموس“؛ والتسمية اللاتينية في الفولجاتا: Deuteronomium؛ وكذلك التسمية العربية: ”التثنية“، أو ”تثنية الاشتراع“، أي إعادة الشريعة.

فقد يُفهم خطأً أن هذا السفر هو تكرار لشريعة موسى التي ذُكِرَت سابقاً في أسفار الخروج واللاويين والعدد، أو إعادة صياغة الأحكام التي قيلت قبلاً. ولكنه، في الواقع، خُلاصة الناموس بأسلوب وعظي يتعلَّق بما يجب أن يضعه الشعب نصب أعينهم، وكل ما يلزم أن يراعوه ويعملوه من أجل إرضاء ربِّهم الذي سيُورِّثهم أرض الموعد لكي يمتلكوها ويثبتوا فيها.

فكرة عامة عن مضمون سِفْر التثنية:

سفر التثنية، مثل سفر اللاويين، لا يأخذك معه عَبْر مراحل تاريخية في حياة بني إسرائيل، كما هو الحال في سفر الخروج وسفر العدد؛ بل كل ما ذُكِرَ فيه قاله موسى في مكانٍ مُحدَّد في سهول موآب في شرق الأردن مقابل أريحا.

ولم تستغرق كل أحاديثه هذه أكثر من شهر من الزمان، في نهاية الأربعين سنة التي أمضاها الشعب تائهاً في برية سيناء. وكان ذلك في حوالي سنة 1405 ق.م، عندما كان الجيل الجديد من بني إسرائيل الذي وُلد في البرية يتأهَّب لدخول أرض الميعاد.

وفي نظرة إجمالية استعراضية متَّسعة لهذا السِّفْر، نستطيع أن نقول عنه: إنه سِجِل لتجديد العهد المُبرم مع شعب إسرائيل عند جبل سيناء. فهو بمثابة مراجعة للعهد، وامتداد له، وترسيخ لأحكامه، وفي النهاية إقرار وتوثيق لبنوده.

ولقد أكمل موسى كـل ذلك في ثلاثة أحاديث تبدأ باستعادة الأحداث الماضية والتأمُّل فيها واستخراج العِبَر منها، ثم ينتقل إلى الأحكام والوصايا المختصَّة بفحص النفس. وفي النهاية، يختتم أحاديثه بنظرة نبويَّة عمَّا يمكن أن يعمله الله لشعبه إذا أطاعه، وما سيفعله إذا خالفه.

فالحديث الأول، يُمثِّل أرضية العهد الذي أبرمه الله مع شعبه، بالتأكيد على ما فعله الله لبني إسرائيل منذ خروجهم من مصر. فهو يُلقي ضوءاً شديداً على مدى العناية الإلهية والحماية التي شمل الله بها شعبه، مع العقوبة الإلهية الصارمة التي كانت تتبع كل عصيان ومُخالفة (تث 1: 1-4: 43).

أما الحديث الثاني، فهو يُغطِّي متطلبات العهد الأساسية، مُطبِّقاً القوانين والأحكام التي وردت في سِفْر الخروج لكي يتناسب مع الوضع الجديد الذي سوف يسود على الجماعة بعد دخولهم أرض الموعد. لذلك فهو يُعطي اهتماماً خاصاً للتحريم والتحذير الشديدَيْن من عبادة الأصنام وسائر الممارسات الوثنية، وإقامة المقْدِس الرئيسي، والإعداد لإنشاء مملكة ثيئوقراطية لإسرائيل يحكمها الله (تث 4: 44-26: 19).

أما الحديث الثالث، ففيه يتنبَّأ موسى عن سقوط إسرائيل في المستقبل القريب، حيث يذكر البركات واللعنات. ثم يذكر ما سيتم في المستقبل البعيد من تشتُّتهم بين الأُمم ثم عودتهم. ثم يضع موسى شروط العهد الذي يجب أن يُقرَّه الشعب. وفي النهاية، يُعيِّن موسى خليفته يشوع الذي عيَّنه الرب لكي يقودهم ويدخل بهم أرض الموعد، حيث لم يسمح الله لموسى أن يدخلها. وهنا يُخاطب موسى الشعب كله بكلمة الوداع الأخيرة بعد أن أوصى يشوع بأن يتشدَّد ويتشجَّع. ثم نطق بكلمات نشيد مُمتلئ حكمة وكله نبوَّات تكشف عن أعماق موسى ورؤيته للمستقبل.

ثم يختم النشيد بنُطقه بالبركة لأسباط إسرائيل التي تُعبِّر عن مدى أُبوَّته الفاحصة لكل واحد من أبنائه (تث 27: 1-34: 12). ثم ينتهي السِّفْر بالأصحاح 34 الذي يحكي عن موت موسى، ويُظَن أن يشوع بن نون هو كاتب هذه الخاتمة.

ويمكن وضع تصوُّر لمحتويات السِّفر في الجدول الآتي:

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis