تأملات عابرة



تجسُّد ابن الله
وحلول الروح القدس فينا



حينما تجسَّد ابن الله الكلمة الأزلي، عاش حياة الطاعة الكاملة لله الآب، ما أدَّى به في النهاية إلى الصليب الذي كان الطريق إلى تمجيده بالقيامة من بين الأموات، ثم صعوده إلى السموات ليجلس عن يمين الآب بعد 40 يوماً من قيامته، ثم إرساله الروح القدس للبشرية مـن أجـل تكويـن الكنيسة، وبالتالي من أجل تفعيل الخلاص في المؤمنين.

+ وقبل صعوده إلى السموات، قال الرب يسوع لتلاميذه: «ومتى جاء المُعزِّي الذي سأُرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق، الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي» (يو 15: 26). وهذا يعني أنَّ المسيح بصعوده إلى السموات، إلى الآب، كـان يحمل في جسده الروح القدس. وهكـذا ارتفع مـن على الأرض، مُقاوِمـاً الجاذبية الأرضية؛ إذ هكذا كان التلاميذ ينظرونه، ثم أخذته سحابة عن أعينهم. وبعد ذلك لم يَعُدْ جسده منظوراً من أحد، ولكنه بالروح القدس الذي أرسله من عند الآب، تغلغل في قلوب وحياة كل مَن يؤمن به.

+ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم نفس هذا الوضع:

[مـن أجل طبيعتنا البشريـة... صَعِدَ إلى العرش الملكي، وأَرسـل الـروح القدس إلى طبيعتنا... وذلك ليُظهِر أنه قد صالَح الآب مع طبيعتنا البشرية. ولذلك أَرسل، بواسطته، هدايا المصالحة، أي مواهب الروح القدس. وأمَّا نحن فقد قدَّمنا الإيمان بابن الله المتجسِّد؛ وهكـذا نلنا مـع الروح القدس المواهـب الممنوحة منه حسب تدبير الله. نحن قدَّمنا لله طاعة الإيمان، وبذلك نلنا البرَّ](1).

+ وهذا يعني أنه من خلال إيماننا بابن الله المتجسِّد، دخلنا في حميميـة محبـة الله غير المحدودة، تلك المحبة التي صارت تُشرق فينا من خلال شخص (أقنوم) الروح القدس.

+ وبهذا، لم يَعُدْ الابن ولا محبته البنويَّة بعيدَيْن عنَّا، وذلك بسبب حلول الروح القدس فينا. ومواهب الروح المُرسَلَة للمؤمنين، ليست بعيدة عن جسد المسيح، ولكنها صارت تأتينا من مِلء وغِنَى تجسُّده وصعوده إلى السموات.

+ الروح القدس يحلُّ فينا حاملاً محبة الآب غير المحدودة للابن، ومن خلال الابن صارت هـذه المحبة اللامحدودة التي للآب، تُحيط بنـا وتُعانقنا، وذلك من خلال جسد المسيح الجالس عن يمين الآب.

+ ومن خلال جسد المسيح غير المنظور لنا، أشرقـت علينا محبة الآب في المسيح، وبـالتالي صرنا تحت نظر الآب أيضاً في السماء.

+ إنَّ الروح القدس هو الذي يجعل حضور المسيح فينا بأقوى تأثير مـن خلال عمله فينا، ما يجعلنا نحسُّ به بأكثر قوة في أرواحنا.

+ وكما أنَّ الشمس تُشرق مخترقة السُّحُب، ليس من أجل ذاتها، بل لتجعل الأشياء المنظورة أكثر وضوحـاً؛ هكذا يظلُّ المسيح حاضراً فينا بعمل الروح القدس.

+ الروح القدس يحلُّ فينا من خلال الجسد المُمجَّد للمسيح الذي في السماء. ومن خلال جسد المسيح هذا، تُشرق فينا محبة المسيح لتُحقِّق لنا الشركة الدائمة معه في باطننا.

+ المسيح قال لتلاميذه عن الروح القدس: «ذاك سيُمجِّدني، لأنه يأخذ كلامي ويقوله لكم» (يـو 16: 4 - الترجمة العربية الجديدة). إنَّ الروح القدس يأخذ من المسيح، لا كأنه بعيدٌ عنَّا، ولا كأنه يأخذ من مصدر غير شخصي ليُعطينا؛ بل من شخص المسيح يأخذ، المسيح الذي يظل يعمل مع الروح القدس، ليُعطينا النِّعَم الإلهية من خلال جسده في السماء.

+ الروح القدس، لأنـه حاضرٌ ومتَّحدٌ بجسد المسيح في السماء، هو حاضرٌ فينـا بشخصه الممتلئ بالمحبة، لأنـه متَّحدٌ بالمسيح ابـن الله الأزلي المتجسِّد.

+ والروح القدس، مـن خـلال عمله هـذا كشخص، يجعل شخص المسيح حاضراً ساكناً فينا كشخص، وأيضاً يجعل قوة المسيح نفسه تصل إلينا بكل ملئها.

+ الروح القدس يسكن فينا بملء حضوره الشخصي، بسبب جسد الرب الـذي هـو حلقة الوصل مع بشريتنا نحن على الأرض.

الروح القدس وعمله مع المسيح

أثناء خدمته على الأرض:

الروح القدس كان يعمل مع المسيح أثناء خدمته على الأرض. ففي بدء خدمته وعمله، قيل في الإنجيل: «ثم أُصعِدَ يسوع إلى البرية من الروح ليُجرَّب من إبليس» (مت 4: 1). وكان يعمل معه في المعجزات: «إن كنتُ أنا بروح الله أُخرِج الشياطين، فقد أَقبل عليكم ملكوت الله» (مت 12: 28). وهـذا بخلاف نـزول الروح القدس عليه مثل حمامة يوم معموديته على يد يوحنا المعمدان، وصوت من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ» (مت 3: 17).

وقـد أعطى الرب تحذيـراً عـن خطورة التجديف على الروح القدس (مستثنياً في هذا القانون التجديف على ابن الإنسان): «مَن جدَّف على الروح القدس فليس له مغفرةٌ إلى الأبد، بل هو مُستوجِبٌ دينونةً أبدية» (مر 3: 29). وفي تنقُّلاته بين المدن للكرازة: «رجع يسوع بقوَّة الروح إلى الجليل» (لو 4: 14).

الروح القدس يُعلِن أقنومية المسيح،

والمسيح يُعلِن أقنومية الروح القدس:

+ ومن هذا يظهر أنه قبل قيامة المسيح كان الروح القدس يعمل مع المسيح، ليُظهِر للناس أقنومية المسيح بأوضح بيان، من خلال التجسُّد والأعمال المعجزية التي كان يُجريها.

+ ولذلك يصحُّ القول بأنه على قَدْر ما كان المسيح يُظهِر أقنومية الروح القدس، كذلك كان أقنوم الروح القدس يُظهِر جليّاً أقنوم الابن.

+ وهذا ما جعل القديس كيرلس الكبير يقول عن الروح القدس:

[نحن نقتني، ليس نعمة فقط، بل الروح نفسه هو الذي يمكث فينا](2).

+ لذلك، فـالروح القدس يأتي إلينا كأقنوم (شخص)، لأنه استقرَّ بكل مِلْئه وكماله في جسد الرب الذي عاش على الأرض ثم صعد إلى السماء. والروح القدس، باعتباره أقنوماً، استطاع أن يُظهِرَ نفسه في جسد المسيح المُمجَّد.

+ بـل إنَّ هـذا الجسد المُمجَّد ظهـر واستُعلِن، بطريقـةٍ محـدودة، قبل صعوده إلى السموات، وحتى قبل قيامته من بين الأموات.

+ فقد كُتِبَ في الإنجيل: «مضى إليهم يسوع (إلى تلاميذه) ماشياً على البحر» (مت 14: 25). وفي إنجيل يوحنا يسرد هذه الحادثة: «ولما وجدوه (وجدوا يسوع) في عَبْر البحر، قالوا له: ”يا مُعلِّم، متى صرتَ هنا؟“»، لأن الإنجيل يُقرِّر: «لم تكن هناك سفينةٌ أخرى سوى واحدة، وهي تلك التي دخلها تلاميذه، وأنَّ يسوع لم يدخل السفينة مع تلاميذه بـل مضى تلاميذه وحـدهم» (يـو 6: 22-25). فكأن المسيح عَبَر البحر بدون سفينة!

+ ولا ننسى أيضاً حادثة تجلِّي المسيح على جبل طابور، حيث: «فيما هو يُصلِّي تغيَّرت هيئة وجهه، وصارت ثيابـه بيضاء لامعـة كالنور لا يقدر على مِثْله أيُّ قصَّار على الأرض» (مت 17: 1-13؛ مر 9: 2-7؛ لو 9: 28-36 - الترجمة العربية الجديدة).

+ ولكن بعد القيامة ظهرت صفة روحانية الجسد بلا توقُّف؛ إذ دخل المسيح العليَّة التي اجتمع فيها التلاميذ، بينما كانت الأبواب من داخلها مُغلَّقة (خوفاً من اليهود) (يو 20: 26،19).

+ وهكذا كان أقنوم الروح القدس قادراً على أن يُعلِن جسد الرب الـذي أصبح مُمجَّداً غير خاضعٍ لقوانين المادة الصلبة!

+ لذلك، ففي يوم الصعود، رأى التلاميذ المسيح وهو ”يرتفع“ عن الأرض (ضد الجاذبية الأرضية): «ارتفع وهم ينظرون. وأَخَذَتْه سحابةٌ عن أعينهم» (أع 1: 9).

الروح القدس في يوم الخمسين:

لقد استُعلِنَ الروح القدس في يوم الخمسين، وظهر جليّاً أنـه أقنوم، بطريقـةٍ محسوسة، وذلك لإقناع الرسل بحقيقة الروح القدس كأقنوم؛ وكذلك الحاضرون الذين لم يكونوا قد انضمُّوا بعد للكنيسة. وعلى الأخص، لأن المسيح - من جهةٍ أخرى - لم يكن قد استُعلِن بعد وهو في الجسد أنه أقنوم إلهي.

+ ولكن الكنيسة نالت وجودها الواقعي الأول من خلال الروح القدس الذي انسكب بوضوح وجلاء يـوم الخمسين. وفي نفس الوقت، يكون المسيح - بحلول الروح القدس - قـد حلَّ وسكن في قلوب الحاضرين لأول مرة.

+ ولكن الروح القدس سيبقى للأبد في هذه الإشراقة منذ يوم الخمسين.

+ وكذلك الرب يسوع نفسه، الذي بـالرغم من جلوسه عن يمين الآب، إلاَّ أنه في هذا اليوم وفي نفس لحظـة حلول الـروح القدس على المؤمنين يوم الخمسين، حلَّ في قلوب المؤمنين أيضاً من خلال شركة الكنيسة التي تأسَّست لأول مرَّة على الأرض.

+ وهكذا فالرب نفسه، وهو - كإنسان جالس عن يمين الآب في السماء - أتى ليسكن في قلوب المؤمنين بالروح القدس.

+ وهذا هو السبب في أنَّ الكنيسة يسكن فيها الروح القدس دائماً، مع أنها تداوم على طلب حلوله في وسطها. إنها تسأل الله دائماً من أجل حلول الروح القدس في وسطها، لأنه فعلاً حالٌّ فيها، وهو الذي يُعطيها الرغبة والقوة على أن تداوم الطلب من أجل الامتلاء منه.

ويُفسِّر القديس بولس سبب دوام الصلاة من أجل حلول الروح القدس في الكنيسة وفي المؤمنين بقوله: «كذلك الروح أيضاً يُعين ضعفاتنا، لأننـا لسنا نَعْلَم ما نُصلِّي لأجله كما ينبغي. ولكـن الروح نفسه يشفع فينا بأنَّاتٍ لا يُنطَق بها» (رو 8: 26). فدوام طلب الروح القدس هو ليُعين ضعفاتنا.

+ لذلك، فمِن خلال الروح القدس، كما أتت الكنيسة إلى الوجود، كذلك هي محفوظة بالروح القدس. والروح القدس يحلُّ فيها باستمرار، طالما هي تطلبه بالصلاة، ولكن مع تجنُّب الخطية؛ وكـذلك، بنفس الطريقة، فالمسيح بالرغم مـن وجوده في الكنيسة، فهو يبقى ويستمر في البقاء، أو بالحري فـإنَّ الكنيسة تنمو فيه مـن خلال الصلاة، ولكن مع تجنُّب الخطية.

الروح القدس ليس كائناً ساكناً

في حالة جمود:

مثلما أنَّ المسيح لم يكن في حالة سكون أو جمود، بل هو حيٌّ وعاملٌ في الكنيسة؛ هكذا الروح القدس لا يمكن أن يكون في حالة سكون أو جمود، بل هو حاضرٌ بكل حيويته في الكنيسة. ولا يمكننا أن نقول إنه حينما يحلُّ الروح القدس أو المسيح في الكنيسة، تظهر الحركة والحياة، وبنيان الكنيسة الروحي يرتفع من تلقاء نفسه؛ بل حيث يكون الروح القدس والمسيح، فهما يحثَّان القلوب البشرية على أن يطلبانهما.

الأقنومان ليسا في سكونٍ وجمود؛ بل إنه إذا لم تكن النفوس البشرية تحيا إيمانها، فحركة الـروح القدس والمسيح لا تجـد مـا يُكمِّل مهمتهما - أي مهمة المسيح والروح القدس - أَلا وهي أن يصل المؤمنون إلى قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 13).

المسيح والروح القدس

ليسا كائنَيْن لاشخصيَّيْن:

فالمسيح والروح اللذان يسكنان ويمكثان في الكنيسة وفي المؤمنين ليسا كائنَيْن لاشخصيَّيْن، أي ليسا مجرَّد قوَّة أو طاقة مثل الطاقة الكهربائية مثلاً التي يمكن أن يُطفئها الإنسان وينام! لكنهما شخصان. والشخص دائمـاً هـو في حركـة. فالروح القدس والمسيح يريدان أن يتواصلا مع المؤمنين كأشخاصٍ.

+ فمنذ البدء، هـذان الأقنومـان أتيا وحلاَّ وسكنا في المؤمنين بمحض رغبتهم وبـإيمانهم، ومن أجل رفعة الإنسان، ومن أجل حفظ وامتداد حياة الشركة بينهما وبين المؤمنين. لذلك، فالذين من أجلهم أتى المسيح وحلَّ الروح القدس، عليهم أن يُعِدُّوا أنفسهم بالصلاة وبرغبتهم لمجيء هذين الأقنومين والشركة معهما ومع الآب الذي هو واحدٌ معهما: «وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (بالروح القدس)» (1يو 1: 3).

+ إنَّ أول مجيء للروح القدس وحلوله على التلاميذ والرسل، كان بصورة منظورة من الجميع، وهـذا كـان بصفةٍ استثنائية. لكن تبع هذا الحلول مـا قـاله سِفْر أعمال الرسل: «هؤلاء كلُّهم كانوا يُواظبون بنفسٍ واحدة على الصلاة والطلبة، مـع النساء، ومريم أُم يسوع، ومع إخوته» (أع 1: 14).

الروح القدس حلَّ ليُعطي

الوجود للكنيسة ونموَّها:

لقد نزل الروح القدس يوم الخمسين ليؤسِّس الكنيسة، وظل ماكثاً في الكنيسة حسب وعد المسيح: «يمكث معكم إلى الأبد» (يو 14: 16). إنه يظل ماكثاً في الكنيسة ليحفظها ويُنميها بانضمام مؤمنين إليها، وبنمو إيمان الأعضاء السابقين وبائتمانهم على مواهب الروح القدس. وكل هذا بسبب أنَّ طبيعتنا البشرية قد صعدت مع المسيح في جلوسه عن يمين الآب: «أقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويَّات في المسيح يسوع» (أف 2: 6). بهذه النعمة امتلأت الكنيسة من أقنوم الروح القدس.

امتداد عمل الروح القدس

لكل الخليقة البشرية:

لقد نزل أقنوم الروح القدس في شكل ألسنة نار حلَّت على التلاميذ، مُظهِراً أنَّ مشيئة المسيح هي أن تمتدَّ - ألسنة النار - بـالقوة الإلهية والقداسة اللتين في طبيعته البشرية لتحلَّ فوق كل البشرية المخلوقة، كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: ”لكي يُصالِح معه كل العالم المنقسم، من خلال الروح القدس“(3).

+ إن الطبيعة البشرية التي اتَّخذها المسيح لم تكن لشخصٍ بشري سابق وجوده، حتى أنه كان يمكنه أن ينغلق على نفسه ويستخدم هذه الطبيعة فردياً؛ بل إنَّ الطبيعة البشرية التي للمسيح هي تخصُّ كلمة الله، ما يعني أنَّ المسيح هو المحور والمركز والأقنوم الأساسي لكل الخليقة البشرية. ونفس الأمـر بـالنسبة لأقنوم الـروح القدس، فباتحاده بالمسيح في طبيعته البشرية، صار يمتدُّ خلاصه إلى كل الجنس البشري.

+ لذلك، فالمسيح، من خلال طبيعته البشرية التي تجسَّدها، استطاع أن يحتوي كل الخليقة بعد قيامتـه وصعوده إلى السماء، إذ انفتحت بذاتها إلى هـذا الوضع الروحاني الذي صار في جسد المسيح. وهذا ما عبَّر عنه القديس بولس الرسول بقوله في رسالة أفسس: «وإيَّاه جعل رأساً فـوق كـل شيء للكنيسة، التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكلَّ في الكلِّ»، «لتدبير مـلء الأزمنة، ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السموات وما على الأرض، في ذاك» (أف 1: 10،23،22).

+ فالروح القدس يريد أن ينزل بمحبةٍ على وفي كلِّ واحد منَّا، ليجمعنا جميعاً في وحدانية مع المسيح ومع بعضنا البعض.

(1) St. John Chrysostom, Homily 1 on Holy Pentecost (PG 50: 456).
(2) PG 78: 75-77A.
(3) St. John Chrysostom, Homily 2 on Holy Pentecost (PG 50: 467).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis