بمناسبة عيد الميلاد المجيد
من تعاليم الآباء


بشارة الملاك للرعاة
(لو 2: 8-20)
للقديس كيرلس الإسكندري
(375-444م)



تسبيح الرب على تدبيره الإلهي:

+ اسمحوا لي أن أبدأ حديثي معكم بما هو مكتوبٌ في سِفْر المزامير: «تعالوا نُسبِّح الرب، ونُرتِّل لإلهنا ومُخلِّصنا» (مز 95: 1). فهو رأس عيدنا، لذا هَلمُّوا بنا نتحدَّث بأعماله المجيدة، ونُخبر بمحاسن تدبيره الإلهي الذي رسمه لخلاص العالم؛ وإذ قد وَضَعَ علينا نِير ملكوته، فهذا قد صار بحقٍّ موضع دهشتنا. وهـا المغبوط داود يتغنَّى بالمزامير قائـلاً: «يـا جميع الشعوب، صفِّقوا بأيـديكم»، ثم يردف قائلاً: «رنِّموا بفهم، لأنَّ الله قد مَلَكَ على كلِّ الأُمم» (مز 47: 7،1).

+ وهذا السر الإلهي، الذي دُبِّرَ بحكمةٍ فائقة، لا يليق إلاَّ بالمسيح، لأن هذا هو الحق الإلهي بكل يقين: إنَّ الرب مع كونه إلهاً، قد أَظْهَرَ نفسه لنا؛ ومع كونه في صورة الله الآب، يحوز تفوُّقاً شاملاً لا يُضاهَى؛ إلاَّ أنه أَخَذَ شكل العبد، ومع هذا فقد ظلَّ إلهاً وربّاً، لأنه ما انفكَّ أبداً أن يكون على ما هو كائنٌ عليه (أي لم يفقد، بتجسُّده، شيئاً من قدرته وسلطانه الإلهيَّيْن).

تجسُّد الرب وميلاده في الجسد:

+ وها جماعة الأنبياء القدِّيسين، يُعلنون مُسبقاً عن ميلاده في الجسد واتِّخاذه صورتنا، هذا الحدث المزمع أن يتمَّ في الوقت المناسب. وحالما تحقَّق هذا الرجـاء، جاءت القوات الناطقة السمائيـة حاملة الأخبار المُفرحة لاستعلانه وظهوره في العالم. أول الكل لرعاة بيت لحم، وهكذا كـان هؤلاء الرعاة باكورة مَن تقبَّلوا معرفة السر. وهنا يتطابق المثال مع الحقِّ: فالمسيح يُعلن نفسه للرعاة الروحيين، حتى يُبشِّروا هم الباقين، تماماً كما أُعْلِمَ الرعاة بسـرِّه بواسطـة الملائكة الأطهار، ولتوِّهم انطلقوا يحملـون الأخبـار المُفرحة لرفقائهم. فالملائكة هم أول مَـن بشَّروا به، وأعلنوا مجده كإلهٍ مولود في الجسد مـن عذراء بسرٍّ عجيب.

الله يستعلِن نفسه لنا في صورة منظورة:

+ ورُبَّ معترض على هذا بقوله: ”إنَّ هذا المولود ما زال بعد طفلاً مُقَمَّطاً بلفائف وموضوعاً في مذود، فكيف يسوغ للقوات العلوية أن تُمجِّده كإله“؟

+ ولمثل هذا نقول: تفهَّم، يا إنسان، عُمق هذا السر! لقد استعلَن الله نفسه لنا في صورة منظورة شبيهة بنا. رب الكل اتَّخذ شكل العبد، إلاَّ أنَّ مجد الربوبية هو غير منفصل عنه. لقد رَضِيَ أن يُولد من امرأة لأجلنا، ليرفع اللعنة التي حُكِمَ بها على المرأة الأولى (حواء)، فقد قيل لها: «بالأوجاع تلدين أولاداً» (تك 3: 16)، فكأنها كانت تلد للموت، إذ كانوا جميعاً يُصابون بلدغة الموت. ولكن لأن امرأة ولدت ”عمانوئيل“ في الجسد، وهو الحياة؛ فقد بطلت قوَّة اللعنة، وكفَّت آلام الموت التي كانت تُعانيها الأُمهات في ولادتهن (إذ كانت تُخيِّم عليهُنَّ رُعبة الموت في كل ولادة يلدنها، بسبب الخوف منه، وعدم الإيمان بحياةٍ أخرى بعده).

+ أَتَودُّ أن تعرف أيضاً علَّةً أخرى بشأن هذا الموضوع (أي التجسُّد الإلهي)؟ اذكُر ما قد كتبه عنه ذو الحكمة الفائقة بولس: «لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه، في ما كان ضعيفاً بالجسد، فالله إذ أَرسَلَ ابنه في شِبْه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد، لكي يتمَّ حُكْم الناموس فينا، نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح» (رو 8: 4،3).

+ فما هو، إذن، معنى قوله: إنَّ الابن أُرسِلَ «في شِبْه جسد الخطية»؟ يعني بذلك أنَّ ناموس الخطيـة يربض متربِّصاً في أعضائنـا الجسديـة، مُتحالِفاً مع الغرائز الطبيعية الناشطة، لينحرف بها انحرافاً مُشيناً؛ ولكن لمَّا صار كلمة الله جسداً، أي إنساناً، واتَّخذ شكلنا؛ كان جسده مُقدَّساً وكُلِّي الطُّهر. ومع أنه كان، في الواقع، في مثل جسدنا تماماً، ولكن لم يكن على نفس مستواه؛ إذ كان خالياً من كلِّ العيوب والانفعالات الطبيعية الخاطئة، والميول التي أدَّت بنا نحن البشر إلى كل ما هو مُخالِف للناموس.

تأمُّل مجد الرب الإلهي:

+ فعندما ترى الطفل ملفوفاً بأقماطٍ، لا تقتصر على مجرَّد رؤيته طفلاً وليداً؛ بل عليك أن تسمو إلى تأمُّل مجده الإلهي. فارتفِعْ بذهنك عالياً واصعَد به إلى السماء، وأنت تراه في جلالٍ عظيم ملتحفاً بمجدٍ فائق. إنك ستراه: «جالساً على كرسيٍّ عالٍ ومـرتفع» (إش 6: 1). إنـك تسمع الساروفيم يُسبِّحونه بأنـاشيد قـائلين: إنَّ السماء والأرض مملوءتان من مجده. وهذا ما حدث على الأرض تماماً، لأنَّ مجد الرب قد أشرق على الرعاة، وكانت هناك طغمة من الجنود السماوية تُعلِن عن مجد المسيح. وهـذا ما سبق فأُعلِنَ عنه بصوت موسى النبي: «افرحي أيتها السموات، وليسجد له كل بني الله» (تث 32: 43).

+ فإنَّ أنبياءَ كثيرين جداً قد وُلدوا بين الحين والآخر، ولكن لم يحدث لأيٍّ منهم أن مُجِّدَ يوم ميلاده بصوت أناشيد ملائكة؛ لأنهم كانوا بشراً مثلنا، وخُدَّاماً أمناء لله، وحاملين إلينا أقواله. أما المسيح فلم يكن كذلك: فهو الرب والإله، والباعث للأنبياء القدِّيسين، وكما يقول صاحب المزمور: «لأنه مَن في السماء يُعادِل الرب. مَـن يُشبه الرب بين أبناء الله» (مز 89: 6). لأن دعوة البنوَّة تُمنَح بواسطته كنعمةٍ لنا، نحن الواقعين تحت النِّير، والذين بالطبيعة عبيد؛ أما المسيح، فهو الابن الحقيقي، أي ابن الله الآب بالطبيعة. وحتى ولو أنه صار جسداً (إنساناً)، فإنه بَقِيَ على ما كان عليه - كما سبق وقلتُ - بالرغم من أنه أَخَذَ على نفسه ما لم يكن له.

+ وما أقوله هو حقٌّ، وهذا ما يؤكِّده لنا أيضاً النبي إشعياء: «ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وسيدعون اسمه عمانوئيل. زبداً وعسلاً يأكل. وقبل أن يعرف الصبي أن يُميِّز بين الخير والشر، سيختار الخير، غير مائل للشر» (راجع إش 7: 14). وهل يحتاج الأمر إلى توضيح: إنَّ طفلاً وليداً غضّاً، لا يمكنه أن يفهم شيئاً، وليس على مستوى التمييز بين الخير والشر؛ فهو لا يعرف شيئاً على الإطلاق! أما المسيح مُخلِّصنا، فكان معجزة عظيمة المقدار وفائقة للغاية: فقد أَكل(1)، وهو ما يزال بعد رضيعاً، زبداً وعسلاً. ولأنه كان إلهاً وصار جسداً (إنساناً) بسرٍّ فائق للوصف؛ فقد عرف الخير فقط، وكان معصوماً من الفساد الذي هو من شيمة الإنسان. وهذه أيضاً صفة مميَّزة للجوهر الإلهي، لأنَّ مـا هـو صالح بالطبيعة بثباتٍ ودون تغيير، هو مـن خاصيته هو وحده: «فليس أحدٌ صالحاً إلاَّ واحد وهو الله»، كما قال المُخلِّص نفسه (لو 18: 19).

الرب هو إلهٌ بالطبيعة ولكنه وُلِدَ جسدياً:

+ أتريد أن تعرف صفة إلهية أخرى للطفل المولود؟ أتودُّ أن تعرف أنه إله بالطبيعة مع أنه وُلد بالجسد من امرأة في الزمن؟ اسمع ماذا يقول عنه إشعياء النبي: «فاقتربتُ إلى النبيَّة، فحبلت وولدت ابناً. فقال لي الرب: ادعُ اسمه، عجِّلْ بالغنيمة، أسرع بالنهب (مهير شلال حاش بز). لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو أبي ويا أُمِّي، يأخذ غنيمة (ثروة) دمشق» (إش 8: 3). فعند ميلاد المسيح سُلِبَتْ قوَّة الشيطان، لأنه كان في دمشق موضوعاً للعبادة الوثنية، وكان له فيها هناك أتباعٌ كثيرون يتعبَّدون له؛ ولكن عندما ولدت العذراء مُخلِّص العالم، انخذل سلطان الطغيان، لأن الوثنيين فازوا بمعرفة الحقِّ، وكانت باكورات قادتهم هم المجوس، الذين أتوا من شرق أورشليم، تهديهم السماء ويُرشدهم النجم.

+ فلا نتطلَّع إلى المُضجع في المذود كمجرَّد طفلٍ رضيع؛ بل لنُبصره، في فقرنا، كإله مالك لكلِّ شيء. وفي ضعفنا، لننظر إليه، ذاك الذي يفوق كل الكائنات السماوية. لذلك مجَّدته طغمات الملائكة الأطهار.

+ وما أرفع هـذه الأنشودة التي ترنَّموا بها: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبين الناس (ذوي) المشيئة الصالحة» (ترجمة حرفية). فالملائكة ورؤساء الملائكة والعروش والسيادات، والشاروبيم والسيرافيم، وكل القوات العلوية، كلٌّ في رتبته؛ هم في سلام مع الله، لأنهم لا يتعدُّون - بأيِّ حالٍ من الأحوال - مسرَّته الصالحة، بل هم ثابتون تماماً في البرِّ والقداسة. أما نحن البؤساء، فإذا تركنا رغباتنا الخاصة في تعارُض مع مشيئة الرب، فقد وضعنا أنفسنا في موقف أعداء له. ولكن بالمسيح قد انقشعت هذه العداوة، لأنه هو سلامنا، فقد أَتْحدَنا به مع الله الآب، رافعاً من الوسط علَّة العداوة - أي الخطية - وهكذا إذ يُبرِّرنا بالإيمان يجعلنا قدِّيسين وبلا لوم، ويُقرِّب إلى نفسه أولئك البعيدين. وفضلاً عن هذا، فقد جَبَلَ من الشعبَيْن إنساناً واحداً جديداً.

+ وهكذا، إذ صنع سلاماً، صالَح كِلا الاثنين مع الآب في جسدٍ واحد، لأنه قد سُرَّ الله الآب أن يجمع، في وحدةٍ كاملة جديدة، كل الأشياء في نفسه؛ وأن يربط معاً السُّفليات بالعلويات؛ وأن يجعل من الذيـن في السماء ومـن هم على الأرض، رعيـة واحـدة.

+ المسيح، إذن، صار لنا سلاماً ومشيئة صالحة؛ به وله المجد والكرامة والقوة مع الله الآب ومع الروح القدس إلى أبد الآبدين، آمين.

(1) تُصرُّ بعض الكتابات الآبائية على تفسير هذه النبوَّة حرفياً، تأكيداً على بشرية المسيح الكاملة المتَّحدة مع كمال لاهوته.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis