الافتتاحية 



”الله يُخلِّصنا“ ”الله معنا“(1)



للأب متى المسكين

نقرأ من إنجيل متى 1: 20-23:

+ «... إذا ملاك الرب قد ظهر في حُلمٍ قائلاً: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبِلَ به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يُخلِّص شعبه من خطاياهم، وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره: الله معنا“».

هكذا ابتدأت حياة الرب يسوع باستعلان عمله الشخصي بالنسبة لنا: «يُخلِّص شعبه من خطاياهم».

لهذا نجد إنجيل القديس مرقس يُصمِّم أن يبدأ استعلان المسيح من نهر الأردن، وهو بدء استعلان الخلاص.

وكلمـة ”يسوع“ Joshua هي ”الله يُخلِّص“، وهكذا صار اسم الرب هـو موضوع عمله، وعمله يربط رباطاً محكماً بين الله وبيننا ”الله يُخلِّص“، أي أن الرب يسوع هو واسطة الخلاص بين الله وبيننا. وإمعاناً في توضيح اسم الرب يسوع الذي هو موضوع عمله، عاد إنجيل متى وفسَّره على ضوء نبوَّة إشعياء: «ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره: الله معنا».

ثم إذ نقرأ من إنجيل متى 28: 18-20:

+ «فتقدَّم يسوع وكلَّمهم قائلاً: دُفِعَ إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتَلْمِذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. آمين».

وهنا في آخـر روايـة إنجيل متى يكشف الوحي مـرَّة أخرى وبصورة واضحة ومختصرة وجامعة، كيفية الخلاص الذي سيُكمِّله الرب يسوع:

أولاً: بواسطة السرِّ: «عمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس».

ثانياً: بواسطة تعلُّم الوصية على أساس التلمذة الشخصية للرب يسوع، أي أن يأخذوا الوصية دائماً من فمه: «علِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به»، أي يحفظوها بالروح.

ثم بتأكيد أن المسيح نفسه هو الذي سيُعمِّد وهو الذي سيُعلِّم، ويتضح ذلك من قوله لهم: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر».

الخلاص بالتطهير:

على قارئ الإنجيل أن يلتفت إلى مضمون التعليم السرِّي الذي يقوم عليه الإنجيل. فالقديس متى يهتم بأن يذكر أن التعليم ابتدأ من فوق الجبل، إشارة إلى ناموس موسى الذي نزل على الجبل رمز التقرُّب من السماء. وذلك كتعبير سرِّي بأنَّ وصايا المسيح هي الناموس الجديد المنحدر من فوق لتكميل ما ابتدأه موسى.

كذلك يهتم القديس متى بأن يضع وصية العماد قبل حفظ الوصية، لأن العماد هو بمثابة فتح العينين الروحيتين والذهن لمعرفة الله. فكما أن الله أَمَرَ موسى بأن يغتسل الشعب قبل أن يقترب من الجبل لسماع صوت الله وتعاليمه؛ هكذا اهتم الإنجيل أن يضع الاغتسال بالمعمودية، الذي هـو مفهوم الاستنارة بالميلاد الجديد مـن الماء والروح، قبل التعمُّق في فهم الوصية وحفظها. أي أنَّ سرَّ الاغتسال والتطهير يتحتَّم أن يسبق الكلمة؛ كما أن الاغتسال والتطهير يتحتَّم أن يسبقا التقدُّم للاتحاد بالجسد والدم، كما أوضح السيد المسيح ذلك في إنجيل يوحنا.

أما العلاقة السرِّية القوية بين الناموس القديم والناموس الجديد، فيهتم بها الرب يسوع بصورة مُلحَّة في إنجيل متى؛ فنقرأ ما نطق به السيد المسيح في متى 5: 17-48:

+ «لا تظنُّوا أني جئتُ لأَنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئتُ لأَنقض بل لأُكمِّل».

وهكذا بدأ المسيح يوضِّح التجديد الحاصل لكل وصية لتُلائم الحياة الجديدة بالروح:

+ «قـد سمعتم أنـه قيل للقدماء: لا تقتل ... وأما أنـا فـأقول لكم (للشعب الجديد بالروح) ...».

وهكذا يستمر المسيح في جميع وصاياه مُكمِّلاً ومُجدِّداً ما عَتَقَ وشاخ من الوصايا التي كانت تُناسب الشعب القديم العائش بالجسد الذي كان معتمداً على الخيرات المادية. أما تكميل المسيح للوصايا فيُظهِر بوضوح عامل الروح لتجديد الإنسان من الداخل على مستوى الروح والضمير، والهادف إلى ميراث الحياة الأبدية وليس التخوم الأرضية.

ومعروف أن الشعب القديم أخفق في حفظ الوصية، وأن آذانه ثقلت عن سماع صوت الله، وكلمته صارت غير مفهومة لديهم، ولعل ذلك يعود بالدرجة الأُولى إلى أن الشعب انحلَّ انحلالاً خُلُقياً مريعاً، ولم يَعُد على مستوى الطهارة، لا الطهارة الجسدية ولا الروحية، التي تؤهِّله لتكريم الله.

فوصية الرب بالاغتسال قبل الاقتراب إلى الجبل المقدَّس الذي وقف الرب عليه في سيناء لم يحافظ عليها الشعب حتى على مستوى الجسد - وهي التي جاءت بعد ذلك على صورة نواميس للاغتسال والتطهير لكل شيء - ولذلك صارت كلمة الرب محتَقَرة عند الشعب بل والرؤساء، كما وبَّخهم الأنبياء على مدى الأسفار.

هنا نجد المسيح يأخذ مبادرة عجيبة، أولاً في نفسه، إذ يتبنَّى الشعب كله في نفسه ويجوز عنه المعمودية للتطهير والتقديس بمقتضى الجسد الذي اتَّخذه لنفسه من العذراء، فاعتمد المسيح مغتسلاً عن الشعب كله؛ وهنا نسمعه بكل وضوح يقول في هذا: «لأجلهم أُقدِّس أنا ذاتي» (يو 17: 19).

ونلاحظ أيضاً أن المسيح يُبادر بالعماد بنفسه، أي بالاغتسال والتطهير والتقديس عن الشعب قبل أن يبدأ في التعليم مباشرة، وذلك ليُعطي لكلمته سلطان الروح والنفاذ لدى الآذان الثقيلة وليهزَّ القلوب الميِّتة والضمائر المستهينة. وهذا الأَثَر حدث بالفعل ونسمعه من أفواه الشعب بوضوح: «فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بُهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يُعلِّمهم كمَن له سلطان وليس كالكتبة» (مت 7: 29،28).

إذن، هنا الوصية ليست فقط من نوع جديد، وعلى مستوى الروح والضمير؛ بل وأصبح لها سلطان قاهر على القلوب، لأن علاقة الرب يسوع بسامعيه بدأت بعد العماد تأخذ وضعاً جديداً، وليس كما كان يتكلَّم موسى ولا كما يتكلَّم الكتبة، كمَن يُعلنون كلمة الله بفمهم وحسب. بل هنا المسيح قـد تبنَّى الشعب واغتسل وتطهَّر وتقدَّس نيابةً عن الخطاة الذين يُخاطبهم، فأصبحت قلوبهم قريبةً منه دون أن يدروا، ومفتوحةً لسلطان كلمته تهتزُّ لها، إما رُعباً أو فرحاً، على قدر استعداد القلب للطاعة، لأن المسيح اقترب اقتراباً داخلياً من الشعب.

هنا نلمح أن سرَّ المسيح الفعَّال في العهد الجديد يعمل من خلال المعمودية سواء التي جازها المسيح عنا أو التي نجوزها نحن معه: «لأن كلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستُم المسيح» (غل 3: 27)، إذ أصبحت الوصايا ليست مجرَّد نصائح وأوامر وتوصيات تقف عند مجرد السماع عند الأُذن، بل أصبح لها سلطانُ النفاذ إلى القلوب وتحريك الضمائر بسرِّ قوَّة الروح القادر أن يخترق الآذان المسدودة والقلوب الميتة لتُقيمها للحياة بقوةٍ واقتدار حتى ولو كانت في القبور:

+ «الحق الحق أقول لكم: إن مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية (هنا الحياة والروح تنفذ إلى القلب من خلال سماع كلمات المسيح)، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع (حتى) الأموات صوت ابن الله، والسامعون يَحْيَوْن ... لا تتعجَّبوا من هذا، فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 24-29).

(ومَثَل لعازر - يو 11: 1-44 - واضح أمام عيوننا).

واضح أن وصايا المسيح للخلاص في العهد الجديد أصبحت تحمل قوَّة في ذاتها وفي المسيح وفي السامع، قوَّة روحية تخترق بها الآذان والقلوب والضمائر وتقيم الإنسان من موت الخطية بقوَّة فائقة لحياةٍ جديدة، وكأنها بميلاد جديد.

هذا هو أول مفعول للاقتراب الداخلي الفعلي المتبادَل بين المسيح والخطاة، وهو الذي عبَّر عنه النبي إشعياء قديماً باسم: ”عمانوئيل“، وأكَّده القديس متى في إنجيله أن اسمه ليس فقط يُدعى ”يسوع“ أي المخلِّص فحسب، بل أيضاً يُدعى: ”عمانوئيل“ أي ”الله معنا“ أو ”فينا“، وهـو نفسه يُنهي إنجيله بتقرير هذه الحقيقة بفم الرب: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20).

فالخلاص الذي دخل إلى العالم بميلاد المسيح، والذي يعمل في قلوب الخطاة للحياة حتى اليوم، هـو قوَّة سرِّية في الكلمة والوصية، قوة نفَّاذة تخرج مـن المسيح للسامع، وتغشى عقله الخاطئ وقلبه، وتوقظ ضميره، وتُحيي موتـه لتربطه بالله. والمسيح حتى هـذه الساعة يطلب آذانـاً مفتوحة: «مَنْ له أُذنان للسمع فليسمع» (مت 11: 15).

فطوبى للأُذن التي تنفتح للوصية مبكِّراً قبل أن تشيخ، وطوبى للقلب الذي يحفظ كلمة الخلاص بغِنى، لأن علاقة سرِّية عجيبة وقوية وفعَّالة للحياة تبدأ تعمل فيه لتربطه بالمسيح بشوق لا يُقهر وإخلاص لا يغلبه الموت: «ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر». طبعاً هذه المعيَّة قائمة بالإنجيل، أي بتكميل الوصية، ومن داخل الكلمة الحيَّة المحيية التي تُنير الذهن والقلب والحياة، وبفعل السرِّ غير المُدرَك يتم فيه تنازُل الله بالسرِّ وبالكلمة ليكون معنا حسب النبوَّة في تسمية المسيح ”عمانوئيل“، إنه عقد زيجة لا ينفصم!!

ولكن لكي يتم التقابُل الفعلي بين قوَّة الكلمة والوصية المقدَّسة وبين الآذان والقلوب الخاطئة، لم يكتفِ المسيح بأن يعتمد عن الشعب؛ بل أعاد الوصية الأُولى القديمة عينها بأن يغتسل الشعب ويتطهَّر قبل اقترابه إلى الله وسماعه الكلمة، كما في القديم. فأوصى بالمعمودية بسلطان إلهي فائق: «دُفِعَ إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتَلْمِذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس». هنا المسيح يبدو مَلِكاً حقيقياً يُقيم رعاياه ويختمهم، وهنا تحقيقٌ مُدهش لوعد الملاك للعذراء: «... ويُعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبـد، ولا يكون لمُلْكه نهايـة» (لو 1: 33،32). ولكن هنا الاغتسال لا يتم من الخارج؛ بل من الداخل وبالروح وباسم الآب والابن والروح القدس، حتى تتم خلقة جديدة للخاطئ، وتنفتح العيون وتستنير الأذهان لتكون على مستوى قداسة الكلمة، وبالتالي تكون على مستوى سلطانها في التقديس والتطهير.

لذلك فالكنيسة منذ عصر الرسل تُلقِّب المعمودية بسرِّ الاستنارة، وهي موهبة مُتعلِّقة تعلُّقاً مباشراً بالكلمة والفهم ورؤية الله بالروح لإدراك الحياة الأبدية وقبول الميراث السماوي.

فالخلاص الذي استعلنه الملاك من السماء للعالم في ميلاد الرب يسوع، وفي شخص المسيح المخلِّص، هو الذي قاد المسيح للمعمودية عن الشعب، لإعطاء الكلمة المُخلِّصة سلطان الروح الفعَّال في القلوب، وهو الذي جعل المسيح يُعطي أَمْر العماد للشعب كآخر وصية حتى يظل الشعب على مستوى قوَّة الكلمة للخلاص بحضور المسيح الدائم إلى الأبد. فكل مرَّة نقرأ الإنجيل نغترف مـن معمودية المسيح الشخصية ونستعيد اغتسالنا بالروح، لننال الاستنارة ونوثِّق صلتنا بالمسيح، «لأن كلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح» (غل 3: 27)، وهكذا صار التمسُّك بالكلمة وبسرِّ المسيح هو ضمان الكلمة: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر».

الخلاص بالغفران: مزيد من القوة للكلمة أي الوصية

في العهد الجديد ليكون فيها قدرة على مغفرة الخطايا:

لكي يكون المسيح هو المخلِّص، ولكي ترقَى كلمة المسيح - أي الوصية في العهد الجديد - إلى مستوى الخلاص الفعلي من الخطية، تحتَّم أن ينضح المسيح على الخاطئ بالدم، ليس مثل العهد القديم القائم على الرمز الذي كان ينضح عليه بدم خرافٍ وعجول مذبوحة تعبيراً عن استبدال موت حيوان عِوَض موت الخاطئ (عب 9: 15-26)؛ بل هنا بعدما أَكْمَل المسيح كل كلامه وتعاليمه، ذُبِحَ على الصليب، ليصبح الإنجيل والكلمة والوصية وكل تعاليمه حاملة لدمٍ قادر فعلاً على الفداء والتبرير.

فنحن حينما نقرأ كلمة المسيح الآن نعتبرها خارجة من فم المسيح المذبوح على الصليب حاملة دمه الفادي، أي تحمل قوَّة الموت عن الخطية وقوَّة القيامة من الموت معاً، وهذه هي قوَّة الفداء والتبرير القائمة الآن في الإنجيل، والتي ننالها من المسيح المخلِّص والفادي شخصيّاً. وكل مرَّة نسمع الإنجيل ننصبغ بدم المسيح بسرٍّ لا يُنطَق به.

(1984)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis