الكنيسة هذا الشهر


نياحة القديس سلفستروس
بابا رومية (روما )
(7 طوبة / 15 يناير)

[لقد ارتفع ذِكْرك جداً في زوايا الأرض، أيها القديس الطاهر سلفستروس، البابا المعظَّم لمدينة رومية] (دفنار 7 طوبة).

ويذكره السنكسار القبطي تحت يوم 7 طوبة، كما يلي:

[في مثل هذا اليوم تنيَّح القديس سلبطرس(1) بابا رومية. وقد وُلد هذا الأب برومية. ونظراً لفضائله ونُسكه وعلمه، فقد اختير لبطريركية رومية بعد انتقال ملطيانوس سَلَفه. وكانت تقدمته في السنة الحادية عشرة من مُلك قسطنطين الكبير، لأنه لم يكن إلى هذا الوقت قد تعمَّد لانشغاله بالحروب وهَدْم البرابي(2) وبناء الكنائس. أما سيرة هذا الأب فكانت مُضيئة جداً، لمداومته على تعليم الشعب، وإزالة الشكوك من نفوسهم، وتفسير ما يعسر عليهم فهمه، ومناقشة المبتدعين، حتى ردَّ كثيرين منهم إلى الإيمان بالسيد المسيح وعمَّدهم. وقد وضع كُتُباً كثيرة في معرفة الله وفي سرِّ التجسُّد. وفي سنة 325م كان اجتماع مجمع نيقية (وقد شارَك فيه بمندوبَيْن نيابةً عنه). وقد حَرَمَ آريوس وكل الذين يُشايعونه. ولمَّا أكمل سعيه الصالح، تنيَّح بسلام بعد أن أقام على الكرسي إحدى عشرة سنة. صلاته تكون معنا، ولربنا المجد دائماً أبدياً، آمين].

تمهيد:

كثر الكلام في الفترة الأخيرة من عصرنا الحاضر بالمطالبة بوحدة الكنائس، ونرى هنا نموذجاً لوحـدة الكنيسة الأولى في الاعتراف بالقدِّيسين، سواء كانوا من كنيسة الإسكندرية أو رومية أو القسطنطينية... إلخ، حيث تعترف الكنائس الرسولية في أنحاء العالم المسيحي بالقدِّيسين، الذين يرجع تاريخ نياحتهم أو استشهادهم إلى ما قبل مجمع خلقيدونية سنة 451م الذي قسم الكنيسة ما بين: كنائس خلقيدونية وكنائس لاخلقيدونية. وقديس يوم 7 من شهر طوبة هو البابا سلفستروس بابا رومية (روما)، وهو أحد الآباء القدِّيسين الذين تعترف بهم الكنائس قاطبة.

ميلاده ونشأته:

وُلد سلفستروس بمدينة رومية، وتوفِّي أبوه روفينوس وتركه طفلاً صغيراً، اعتنت به أُمه جيوستا المعروفة بكَرَم الأخلاق وسموِّ الفضائل. فاهتمَّت بتعليمه الفلسفة وقواعد الإيمان، وأَسْنَدَت مهمة تعليم ابنها لكاهنٍ فاضل اسمه ”كارينوس“ من أفاضل العلماء. فبرع سلفستروس في العلوم واكتساب الفضائل. ولنبوغه المُبكِّر، رُسِمَ شمَّاساً على الرغم من حداثة سنِّه. كما أهَّلته تربيته الحميدة ومحبة الجميع له وشغفه العظيم بالعلم والمعرفة، لأن يرسمه البابا مرشيالينوس كاهناً.

وفي عـام 303م، أَشعل الملكـان دقلديـانوس ومكسيميانوس (284-305م) نار الاضطهاد على المسيحيين، فاستُشهِد البابا مرشيالينوس؛ أما سلفستروس فذاق من العذاب ألواناً عديدة خلال هذا الاضطهاد.

البابا يواجه بدعة الدوسيتيين(3):

وُجِّهت للقديس سلفستروس الاتهامات بالخيانة من قِبَل الدوسيتيين (Docetism). لكن سيرة القديس سلفستروس كانت قد انتشرت وفاح عبير فضائله وتقواه بين الناس حتى تأصَّل حبه في قلوبهم، الأمر الذي وَحَّد جموع الشعب عليه لاختياره خليفة لملطيانوس سَلَفه، فسيم أُسقفاً على روما في 31 يناير عام 314م. وكان أول ما عَنِيَ به البابا سلفستروس هو ضم الدوسيتيين إلى الكنيسة وردهم عن ضلالهم بعدما حرمهم البابا ملطيانوس في مجمع عقده بمدينة رومية. وقد احتجَّ على قراراته المبتدعون المُشار إليهم، بدعوى قلة عدد الأساقفة الذين حضروا المجمع وضعف براهينهم!!

ودفعاً لهذه الدعوى، عَقَد البابا سلفستروس مجمعاً في مدينة ”بارلي“ بفرنسا، وضمَّ إليه أساقفة بلاد المغرب. وترأَّس المجمع نيابةً عنه فتيوس وكلاوديانوس الكاهنَيْن، وأوجانيوس وكيرياكوس الشمَّاسَيْن. وانعقد المجمع في شهر أغسطس عام 314م، وحَكَمَ برفض أفكار هؤلاء المبتدعين ومعاملة التائبين منهم بالرفق. كما اهتم بمباحثة اليهود واليونانيين. فاستطاع أن يردَّ الكثيريـن منهم إلى الإيمان بـالسيد المسيح وعمَّدهم. وكان اسم البابا سلفستروس مهيباً ومخوفاً عند علمائهم، ووضع أقوالاً كثيرة، وردَّ عليهم، وصنَّف كُتُباً عديدة(4).

الإمبراطور قسطنطين يدخل روما مظفراً

بعد انتصاره في الحرب:

انتصر الإمبراطور قسطنطين (285-337م) على مكسيمين، حيث ظهر له ملاك الرب في رؤيا وقال له: ”اعمل مثال العلامة التي رأيتها، وبها تغلب أعداءك“. ففي الصباح جهَّز الإمبراطور علماً كبيراً ورسم عليه علامة الصليب، كما رسمها أيضاً على جميع الأسلحة، واشتبك مع مكسيمين في حرب دارت رُحاها على الأخير، فارتدَّ هارباً. وعند عبوره جسر نهر التيبر، سقط به الجسر، فهلك هو وأغلب جنوده.

ودخل الإمبراطور قسطنطين روما، فاستقبله أهلها بالفرح والتهليل. وكان شعراؤها يمدحون الصليب، وينعتونه بأنه الذي خلَّص مدينتهم، ثم عيَّدوا للصليب سبعة أيام.

وقد أَمَرَ قسطنطين بإغلاق معابد الأوثان، وفَتْح أبواب الكنائس، ليس في روما فقط؛ بل في كل المدن.

وكان القديس سلفستروس بابا روما يُقدِّم للإمبراطور النُّصح الحسن ويُعلِّمه الأمانة النقية(5). وأصبح قسطنطين إمبراطوراً على الشرق والغرب، وأصـدر مـرسوم ميلان سنة 312م الذي بموجبه أَعلن التسامح مع الديانة المسيحية، وأعطى المسيحيين الحقَّ في حرية العبادة. وفي عهد سلفستروس الحَبْر الروماني، تمَّ بناء كنيستَيْن على قبرَي القدِّيسَيْن بطرس وبولس، ثم تمَّ بناء كنيسة القديس يوحنا اللاترانية المعروفة بالكنيسة الملكية بالقسطنطينية.

مَن الذي عمَّد الإمبراطور قسطنطين:

البابا سلفستروس أم يوسابيوس النيقوميدي

النصف آريوسي Semi Arian؟

تُشير بعض المصادر(6) إلى أنَّ البابا سلفستروس هو الذي عمَّد الإمبراطور قسطنطين بعدما ظهرت له علامة الصليب المقدس، وانتصر في الحرب ودخل مدينة روما، وقَبِل المعمودية من يد البابا سلفستروس اعترافاً بعمل الله معه.

ولكن يذكر يوسابيوس القيصري أبو التاريخ الكنسي، أنه لم يَنَل العماد إلاَّ في السنة الأخيرة مـن حياتـه في نيقوميديا وهـو على فراش الموت(7).

ويقول البعض إنـه تعمَّد على يدَي الأسقف النصف آريـوسي يـوسابيوس النيقوميـدي(8). وعموماً إذا كان من المؤكَّد نياحة البابا سلفستروس قبل معمودية الإمبراطور قسطنطين بثمانية عشر شهراً بما يطابِق رواية يوسابيوس القيصري، الذي أشار إلى أنَّ قسطنطين تعمَّد في أواخر حياته عام 337م، والبابا سلفستروس تنيَّح عام 335م، مما يؤكِّد أن قسطنطين لم يتعمَّد على يدَي البابا سلفستروس؛ إلاَّ أنَّ قسطنطين كان يتحدَّث عن نفسه كمسيحي غيور، أَمَرَ بحِفظ يوم الأحد، وأعفى رجال الدين المسيحي من الضرائب؛ لكنه تدخَّل - للأسف - في المشاكل الكنسية. ويُذكر له أنه هو الذي دعا إلى عقد أول مجمع مسكوني في العالم في نيقية عام 325م.

البابا سلفستروس يُرسِل مندوبَيْن عنه

لحضور مجمع نيقية:

بعدما تعقَّد الأمر وفاض الكيل بالبابا الإسكندري ألكسندروس الأول (312-328م) البطريرك الـ 19، لم يكن هناك أمامه سوى أن تتكاتف الكنيسة الجامعة في أقطار المسكونة لمواجهة آريوس المبتدع بعدما استفحلت شوكته وانتشرت هرطقته، فعُقِدَ مجمعٌ مسكوني في مدينة نيقية بحضور 318 أسقفاً يُمثِّلون الكنيسة في شتَّى بقاع الأرض.

أما الحبر الروماني، فنظراً لتقدُّمه في السنِّ، أناب عنه كاهنَيْن وهما: ويتن وويكنديوس. وإن كـان السنكسار الرومـاني يُشير إلى رئاسة سلفستروس لمجمع نيقية(9). لكـن القديس أثناسيوس الرسولي الذي حضر المجمع بصفته رئيس شمامسة الإسكندرية، لقَّب ”أوسيوس“ أسقف مدينة قُرطبة بأسبانيا: ”أوسيوس الكبير“، و”المعترف العظيم“، و”أبا الأساقفة“. وقال بصريح العبارة: ”إنه (أي أوسيوس) رئيس المجمع النيقاوي“(10).

وكان الأسقف أوسيوس رئيساً لمجمع نيقية بصفته أكبر الأساقفة سنّاً، كما كان الإمبراطور قسطنطين يعتبره أباً روحياً له.

نياحة البابا سلفستروس:

[ولما أكمل هذا القديس جهاده المقدَّس، تنيَّح بسلام، وأسلم روحه بيد المسيح، في اليوم السابع من شهر طوبة. بصلواته، يا رب، أَنعم لنا بغفران خطايانا] (دفنار 7 طوبة).

ظلَّ القديس سلفستروس على كرسيه لمدة عشرة أعوام بعد مجمع نيقية. ولم يذكر التاريخ شيئاً عن تلك الفترة من حياته. ورَقَدَ البابا سلفستروس في الرب في 7 طوبة الموافق 15 يناير عام 335م، ودُفِنَ في مقبرة ”بريسيل فيا سالاتريا“، ونُقِلَ بأَمر بابا روما بولس الأول (757-767م) إلى كنيسة القديس سلفستروس إين كابيت(11). وتُعيِّد له الكنيسة الغربية في 31 كانون الأول (31 ديسمبر)(12).

بركة صلواته تكون معنا، آمين.

(1) ”سلبطرس“: كلمة معناها ”خلاص أب“.
(2) من الكلمة القبطية ”piervei“ بمعنى: ”هيكل“، وحُرِّفَت إلى ”بربـا“، واستُخدِمَت دائماً لتُشير لهياكـل ومعابد الأوثان.
(3) ”الدوسيتيـة“، كما جـاءت في اليونـانية ”+++++++“ doketai، مـن الكلمـة ”+++++++“ dokesis و”+++++“ dokeo، والتي تعني: ”يبدو“، ”يظهر“، ”يُـرَى“. والكلمـة تعني: ”الخياليـة“ Phantomism، وهي هرطقة ظهرت في القرن الأول، على أيام رُسل المسيح وتلاميذه. وقد جاءت من خارج الكنيسة، وبعيداً عن الإعلان الإلهي. وقد خلطت بين الفكر الفلسفي اليوناني الوثني والمسيحية. وقد بَنَت أفكارها على أساس أنَّ المادة شرٌّ، وعلى أساس التضاد بين الروح وبين المادة التي هي شر، في نظر الهرطقة، ونادت بأنَّ الخلاص يتمُّ بالتحرُّر من عبودية وقيود المادة والعودة إلى الروح الخالص السامي. وقالت إنَّ الله غير مرئي وغير معروف، وهو متعالٍ وبعيد جداً عن العالم؛ ولما جاء المسيح الإله إلى العالم من عند هذا الإله السامي ومنه، وباعتباره إلهاً تاماً، لم يأخذ جسداً حقيقياً من المادة التي هي شر لكي لا يفسد كمال لاهوته، ولكنه جاء في شِبْه جسد. فجسد المسيح - في نظرهم - مجرد شَبَح أو خيال أو مجرد مظهر للجسد، وبالتالي ظهر للناس وكأنه يأكل ويشرب ويتعب ويتألَّم ويموت، لأن الطبيعة الإلهية بعيدة عن هذه الصفات البشرية.
(4) سنكسار رينيه باسيه، تحت يوم 7 طوبة، ص 519.
(5) د/ عمر صابر عبد الجليل، ”تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي“، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، بدون رقم للطبعة 2009، الباب 21، ص 101.
(6) العلاَّمة الأسقف إيسيذوروس، ”الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة“، الطبعة الثالثة، مطبعة عين شمس، 1923م، الكتاب الأول، ص 420.
(7) يوسابيوس القيصري، تعريب القمص مرقس داود، ”حياة قسطنطين العظيم“، الناشر: مكتبة المحبة، 1975، ك 4 ف 61، ص 155،154.
(8) د/ محمد محمد مرسي الشيخ (رئيس قسم التاريخ - كلية الآداب - جامعة الإسكندرية)، ”تاريخ الإمبراطورية البيزنطية“، دار المعرفة الجامعية، 1994م، ص 22؛ تشارلز ورث، ترجمة رمزي جرجس، ”الإمبراطورية الرومانية“، 1999م، ص 216.
(9) ويُعلِّق أنبا كيرلس مقار (كان بطريركاً للأقباط الكاثوليك، ثم استقال من كنيسة روما، وألَّف كتاباً يدحض فيه رئاسة بابا روما لكنائس العالم، اسمه: ”الوضع الإلهي في تأسيس الكنيسة“) على رئاسة البابا سلفستروس لمجمع نيقية قائلاً: ”يزعم لاهوتيوكم أن أوسيوس كان مُمثِّلاً للبابا سلفستروس بالاشتراك مع الكاهنَيْن الرومانيَّيْن ويتن وويكنديوس، يزعمون ذلك لأنَّ مـن عقائد الإيمان عندهم أن لا يلتئم مجمع إلاَّ برئاسة بابا روما“ (”الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة“، مرجع سابق، مجمع نيقية بقلم الأنبا كيرلس مقار، ص 315).
(10) المرجع السابق، ص 315.
(11) الراهب القس أفرام الديراني الماروني، ”العيشة الهنيَّة في الحياة النسكية“، المطبعة الأدبـية، بيروت، 1899م، ص 681.
(12) عن كتاب: ”مروج الأخيار في تراجم الأبرار“، الأب بطرس فرماج اليسوعي، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت، 1880م، تحت يوم 31 كانون الأول.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis