من تاريخ كنيستنا
- 124 -


الكنيسة القبطية في القرن الثامن عشر
البابا يؤانس الثامن عشر
البطريرك السابع بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1769 - 1796م)
- 2 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18) كبار الشخصيات القبطية في ذاك العصر:

1. ومن كبار الشخصيات في ذاك العصر ”المعلِّم رزق“ (أو رزق أغا). فهذا كان مُتضلِّعاً في علم الحساب وعلم الفَلَك بالإضافة إلى التعاليم الكنسية. وكان نزيهاً، صادق الوعود، خادماً لكل الناس. لذلك، اعتمد عليه ”على بك الكبير“، ورقَّاه إلى درجة ”مدير حسابات الضربخانة المصرية“ (أي إدارة سكِّ النقود). وقد زادت ثقته فيه، فجعله وزيره.

ولما كان المعلم رزق واسع القلب، فقد وضع معرفته الفلكية في خدمة رحَّالة إنجليزي اسمه ”بروس“، كان قد جاء إلى مصر في طريقه إلى إثيوبيا لدراسة مختلف الأقطار الأفريقية. وكان يحمل معه ما يستخدمه في دراسته من أدوات جغرافية وفلكية. فلما رَسَت الباخرة التي تُقِلُّه في ميناء الإسكندرية، ظنَّ المسئولون عن الميناء أنَّ هذه الأدوات عسكرية، فاحتجزوها عندهم. وحين عرف المعلم رزق بما جرى، أصدر أمره بالإفراج عن الأدوات المحتَجَزَة. فلما تسلَّمها مستر ”بروس“، اعتبر خدمة المعلم رزق له جميلاً وأراد أن يُعبِّر عن شكره، فأرسل له هدايا قيِّمة؛ ولكن القبطي الزاهد رفض الهدايا، وأعرب للرحَّالة الإنجليزي عن رغبته في رؤية الأدوات الفلكية ومعرفة كيفية استعمالها، فلبَّى طلبه. والطريف أنَّ المعلم رزق هو الذي قدَّم الهدايا للمستر ”بروس“، فقبلها منه، كما أنزله في منزل خاص يقع في بابليون (مصر القديمة)، حيث أدَّى له واجب الضيافة(1).

+ وكان المعلم رزق منوطاً به المحافظة على النظام في ”مديرية“ الشرقية. وكان الأشقياء بتلك المديرية قد اعتادوا السطو على قافلة ”المَحْمَل“ ذهاباً وإياباً، كما اعتادوا بقية السنة أن يُقلقوا أهالي القليوبية بسَلْبهم الأموال ونهبهم ما يستطيعون الاستيلاء عليه من ماشية أو حصاد. لكن المعلم رزق سَهَر على تأدية واجبه إلى أن نجح في القضاء على هؤلاء الأشرار وإقرار الأمن.

+ وبالإضافة إلى كل هذه الأعمال، فقد كان كاتباً للشيخ ”الحماقي“ (أحد أَئمة الإسلام الأربعة)، ”فبلغ من العظمة ما لم يبلغه قبطي فيما رأينا... ومِن مساعديه ظهر المعلم إبراهيم الجوهري فيما بعد“.

+ بل لقد قيل عنه: ”لمَّا انتهت رياسة مصر إلى على بك الكبير، ارتفع شأن المسيحيين في أيامه بسبب كاتبه المعلم رزق ومساعده المعلم إبراهيم الجوهري“(2). فخدم سنوات طويلة بأمانةٍ وتفانٍ؛ ولكن رغم خدماته الجليلة، اغتاله ”أبو الدهب“ الذي خان على بك الكبير. ولم يكْتفِ باغتياله، بل علَّقه على باب زويلة، حيث ظل مُعلَّقاً يومين قبل أن يجسر أحد أن يُنزله ويدفنه!

2. وقد برز إلى جانب هذا الأرخن الكبير، ”المعلِّم لُطف الله أبو شاكر“، الذي كان كاتباً لإسماعيل بك، خِصْم مراد بك وإبراهيم بك. وقد اشتهر بالصلاح وبحُبِّ الخير، فعيَّنه البابا يؤانس الثامن عشر ناظراً على دير كوكب البرية أنبا أنطونيوس. واستجاب المعلم لُطف الله لثقة أبيه الروحي، فبنى بالدير كنيسة الآباء الرسل، وكنيسة أنبا مرقس. ولما أَتمَّهما، ذهب البابا يؤانس إلى الدير، وأدَّى شعائر تكريسهما وسط جمهور من رهبانه وشعبه(3).

3. ”المعلِّم فرج“، كاشف (مراقب جمع الضرائب) منطقة دير مواس؛ و”المعلِّم تكلا سيداروس“ كاشف منطقة بهجورة؛ و”المعلِّم عبود“ كاتب الخزانة(4). غير أننا لا نعرف عن ثلاثتهم إلاَّ أسماءهم والوظائف التي كانوا يشغلونها.

4. كذلك نعرف اسم اثنين مِمَّن كانوا ”كَتَبَة“ في دواوين المماليك، وهما: ”المعلِّم ميخائيل فرحات“ الذي قيل عنه إنه قريب الشيخ ”الموهدي بن أبي فانوس“.

5. المعلِّم إبراهيم الجوهري كبير المباشرين:

+ نشأ هذا الرجل الكامل والعصامي الفاضل في القرن الثامن عشر من أبوين فقيرين متواضعين. وكان اسم والده ”يوسف الجوهري“، كانت صناعته ”الحياكة“ في بلدة قليوب. وقد كان أبواه مملوءين نعمةً وإيماناً، فربياه التربية الدينية في كُتَّاب البلدة، فتعلَّم الكتابة والحساب وأتقنهما. واشتهر منذ حداثته بنسخ الكُتُب الدينية وتقديمها إلى الكنائس على نفقته الخاصة. وكان عندما يُتمِّم نَسْخَه من الكتب، يـأتي بها إلى البابـا يؤانس الثامن عشر البطريرك الـ 107 الـذي جلس على الكرسي الإسكندري (مـن 1769-1796م).

وقد استرعى نظر البابا كثرة الكُتب التي قدَّمها المعلِّم إبراهيم الجوهري وكثرة ما تكبَّده من النفقات في سبيلها، فاستفسر منه عن مورد هـذه المصاريف الباهظة التي يُنفقها على نساخة وتجليد هذه الكتب العديدة؛ فكَشَفَ له المعلِّم إبراهيم عن خاله. فسُرَّ البابا مـن غيرته وتقواه، وقرَّبه إليه، وباركه قائلاً: ”ليرفع الربُّ اسمك، ويُبارك عملك، وليَقُم ذِكـرك إلى الأبد“. وتوثَّقت العلاقات بعد ذلك بينه وبين البابا.

+ والتحق إبراهيم في بدء أمره بوظيفة كاتب لأحد أُمراء المماليك. ثم توسَّط له البابا لدى المعلِّم رزق رئيس الكُتَّاب وقتذاك، فاتَّخذه كاتباً خاصاً له. واستمر في هذه الوظيفة إلى آخر أيام على بك الكبير الذي ألحقه بخدمته.

+ ولما تولَّى محمد بك أبو الدهب مشيخة البلاد، اعتزل المعلِّم رزق من رئاسة الديوان، وحلَّ المعلِّم إبراهيم الجوهري محلَّه في رئاسة كُتَّاب القطر المصري، وهي أَسْمَى الوظائف الحكومية في ذاك العصر، وهي تُعادِل رتبة ”رئاسة الوزراء“ في عصرنا الحاضر. ولم يؤثِّر هذا المنصب العظيم في أخلاق ”إبراهيم الجوهري“، بل زاده وداعةً وتواضعاً وسخاءً وكَرَماً وإحساناً، حتى جَذَب إليه القلوب. ومِن فرط حُبِّ إبراهيم بك (أحد أُمراء المماليك) له، أولاه ثقته حتى آخر نسمة في حياتـه، فأَخْلَص له إبراهيم الجوهري كـل الإخلاص.

تجاربه واحتماله وقوة إيمانه: وتزوَّج المعلِّم إبراهيم الجوهري من سيدة فاضلة تقية، فشاركتْه في أخلاقه الطيِّبة، ووقفت بجانبه في احتماله الشدائد، وكانت رفيقة قوة إيمانه، وعاونته في أعمال البر والإحسان. كما كانت تُشجِّعه في تعمير الكنائس. وقد رُزِق منها ولدٌ سمَّاه ”يوسف“، وابنة سمَّاها ”دميانة“. وكانت سكناه بجهة ”قنطرة الدكة“.

+ ولمَّا ترعرع ابنه ”يوسف“، عزم على تأهيله (أي تزويجه)، فأعدَّ له داراً خاصة به، جهَّزها بأفخر المفروشات والأواني والأدوات استعداداً لزفافه. ولكن شاءت إرادة الله أن تختار هذا الابن الوحيد وتضمُّه إلى الأحضان الأبوية قبل إتمام الاحتفال بزواجه. فحَزِنَ عليه والداه حُزناً شديداً، وأغلق المعلِّم إبراهيم دار ابنه على كل ما فيه، وكسر السُّلَّم الموصِّل إليه حتى لا يستعمله أحدٌ ما في الدار. ولكن كانت هذه التجربة سبباً في استمرار وازدياد المعلِّم إبراهيم الجوهري وزوجته في مساعدة الأرامل واليتامَى والمساكين، وتعزية الحزانى والمنكوبين؛ الأمر الذي أدهش جميع عارفيه من صَبْره العجيب على هذه المحنة.

ولما حاولت زوجته الاعتراض على أحكام الله، قيل إنَّ القديس أنطونيوس الكبير تراءى لها في حلم وعزَّاها قائلاً: ”اعلمي يا ابنتي أنَّ الله أحب وَلَدكِ كما أحب والده، ونقله إليه شاباً لحكمة قَصَدَها الله لحفظ اسم المعلِّم إبراهيم نقياً، إذ ربما كان ولدك سيُفسِد شهرة أبيه ويعيب اسمه، وهذا خير جزاء من الله لزوجك في برِّه وتقواه، فتعزَّيا وتشجَّعا واستأنفا أعمالكما المرضية“. وقد تراءى في الوقت نفسه للمعلِّم إبراهيم وعزَّاه وشجَّعه.

ولما استيقظت الزوجة، توجَّهت إلى حيث يُقيم زوجها، لأنه من فرط حزنه كان قد اعتزل مسكنهما؛ فقصَّت عليه الرؤيا. فأجابها بأنه قد رآها هو أيضاً في هذه الليلة، فوضعا رجاءهما في الله، واستبدلا ملابس الحداد باللباس العادي، وامتلأ قلباهما عزاءً، واستأنفا معاً أعماله الخيرية وصدقاته وأعمال برِّه حتى يوم وفاته. وقد توفِّيَت ابنتهما ”دميانة“ بعد ذلك بزمنٍ قليل وهي عذراء في ريعان الشباب.

+ واستمر المعلِّم إبراهيم في رئاسة الدواوين، حتى حدث انقلاب في هيئة الحُكَّام، إذ حضر لمصر حسن باشا قبطان مُوفداً من قِبَل الدولة العثمانية (في تركيا)، وبدأ يُقاتل إبراهيم بك أمير المماليك وشيخ البلد، ومراد بك أمير الحج، واضطرهما إلى الهرب إلى أعالي الصعيد، ومعهما إبراهيم الجوهري وبعض الأُمراء وكُتَّابهم. ودخل قبطان باشا القاهرة، فنهب بيوت البكوات والأُمراء والأعيان والمشايخ، وأنزل بالبلاد بلاءً وظُلماً، واضطهد المسيحيين اضطهاداً عظيماً، حتى لزموا بيوتهم، وكفُّوا عن الخروج أياماً. وأرسل قبطان باشا يطلب من قاضي القضاة إحصاءَ ما أوقفه المعلِّم إبراهيم الجوهري على الكنائس والأديرة من أطيان وأموال وأملاك وغيرها.

+ وبسبب هذه الظروف، اختفت زوجة المعلِّم إبراهيم الجوهري ولجأت إلى بيت ”حسن أغا“ كتخُدَا على بك أمين الحساب، وقد كان لزوجها عليه مآثر كثيرة. فبحث عنها أعوان السوء وعرفوا مكانها، ودلُّوا حسن باشا قبطان على مكان اختفائها. فأجبرها على الاعتراف ببعض الخبايا، فأخرجوا من جعبتها أمتعة وأواني ذهب وفضة وسروج (خيل) وغير ذلك، وباعوها بأثمانٍ غالية. كما عرف بعضهم مكان مَسْكن يوسف ابن المعلِّم إبراهيم الجوهري. فذهبوا إلى هناك وأخرجوا كلَّ ما فيه من مفروشات وأمتعة وأواني ذهب وفضة وصيني، وأتوا بها إلى حسن باشا، فباعها بين يديه بالمزاد، وكانت كثيرة بطريقة زائدة حتى استغرق بيعها عدة أيام.

+ واستمر حسن باشا في طغيانه إلى أن استُدعِيَ إلى الآستانة (مقر الخلافة العثمانية في تركيا)، فغادر مصر - غير مأسوفٍ عليه - بعد أن أقام ”إسماعيل بك“ شيخاً للبلاد؛ وهذا عَهَدَ بإمارة الحج إلى صديقه ”حسن بك جداوي“. وظل إسماعيل بك في الحُكْم إلى سنة 1791م، وهي السنة التي انتشر فيها وباء شديد مات بسببه معظم السكَّان، وكذلك مات ”إسماعيل بك“ وأهل بيته. ثم تولَّى بعده ”عثمان بك الطبل“، ولكن لم يَطُلْ وقته، إذ فشل في إدارة البلاد.

وعاد إبراهيم بك ومراد بك إلى منصبيهما: الأول في إدارة البلاد، والثاني في إمارة الحج؛ ودخلا القاهرة في 7 أغسطس سنة 1791م.

+ وفي ظل هذه الظروف الجديدة عاد المعلِّم إبراهيم الجوهري إلى القاهرة، واستأنف عمله، وعادت إليه وظيفته الأُولى وسلطته معها. ولكنه لم يتمتع بها أكثر من أربع سنوات. واستمر محبوباً من الجميع لآخر أيامه. وقد أَطلق عليه بعض الناس لقب ”سلطان القبط“. كما دلَّ على ذلك نقش قديم على حجاب أحد هياكل كنيسة في دير القديس الأنبا بولا بالجبل الشرقي، وكذلك الكتابة على كتاب ”القطمارس“ المحفوظ في ذلك الدير أيضاً.

+ وقال عنه الجبرتي المؤرِّخ الشهير: ”إنه أدرك بمصر من العظمة ونفاذ الكلمة، وعظيم الصيت والشهرة، مع طوال المدة بمصر؛ ما لم يسبق لمثله من أبناء جنسه. وكان هو الذي يستشيرونه في كافة الأمور: الكلِّيات والجزئيات. وكان من دهاقين العالم ودهاتهم، لا يغرب عن ذهنه شيء من دقائق الأمور، ويُداري كل إنسان بما يليق من المداراة، ويفعل بما يوجِب انجذاب القلوب إليه. وعند دخول شهر رمضان، كان يُرسل إلى غالب أرباب المظاهر ومَن دونهم الشموع والهدايا، وعمرت في أيامه الكنائس والديورة، وأَوقف عليها الأوقاف الجليلة والأطيان، ورتَّب لها المُرتَّبات العظيمة والأرزاق الدائرة، والغلال“.

+ وقال عنه الأنبا يوساب الشهير بـ ”ابن الأَبَحِّ“ أسقف جرجا وأخميم: ”إنه كان أكبر أهل زمانه، وكان مُحبّاً لله. يوزِّع كل ما يقتنيه على الفقراء والمساكين، مهتماً بعمارة الكنائس. وكان مُحبّاً لكافة الطوائف، يُسالِم الكل، ويحب الجميع، ويقضي حوائج كافة الناس، ولا يُميِّز واحداً عن الآخر في قضاء الحقِّ“.

خدمات المعلِّم إبراهيم الجوهري: اشتهر المعلِّم إبراهيم الجوهري بشغفه الشديد بتعمير الكنائس والأديرة، وإصلاح ما دمَّرته يد الظلم. فبواسطة نفوذه الحكومي، وما له من الأيادي البيضاء على الحُكَّام المسلمين؛ تمكَّن من استصدار الفتاوى الشرعية بالسماح للأقباط بإعادة ما تهدَّم من الكنائس والأديرة، وأوقف عليها أهم أراضيه وعقاراته وأمواله. فإنه كان يشتري الأملاك الكثيرة ويُوقفها، ليصرف ريعها على محلاَّت العبادة. وكثيراً ما أصلح ما تخرَّب منها.

وقد بلغت حُجج تلك الأملاك 238 حُجَّة، مُدوَّنة في كشف قديم محفوظ في الدار البطريركية. كما اشتهر بنسخ الكُتب الثمينة النادرة على نفقته، وإهدائها لجميع الكنائس والأديرة من أقاصي البلاد إلى أقاصيها. فلا تخلو كنيسة من كُتبه وآثاره.

وهو أول مَن سعى في إقامة الكنيسة الكبرى في الأزبكية (شارع الكنيسة المرقسية). فإنه كان مُحرَّماً على الأقباط، في الأزمنة الغابرة، أن يُشيِّدوا كنائس جديدة، أو يقوموا بإصلاح القديم منها إلاَّ بإذن من الهيئة الحاكمة التي يحصلون على تصريح منها بشقِّ الأَنفس!

(يتبع)

(1) ”المماليك في مصر“ ، أنور زقلمة، ص 111، ”تاريخ الأمة القبطية“، كامل صالح نخلة وفريد كامل، ص 40-140؛ عن كتاب: ”قصة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 159،158.
(2) ”عجائب الآثار“ ، للجبرتي، جزء 1، ص 381، وجزء 2، ص 91؛ عن كتاب: ”قصة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 159.
(3) كامل صالح نخلة، ”سلسلة تاريخ البطاركة“، الحلقة الخامسة، ص 40،39.
(4) ”تاريخ الأمة المصرية“ (بالفرنسية)، جزء 5، ص 81؛ عن كتاب: ”قصة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 160.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis