بحث كتابي علمي


مَن هم المجوس؟
وما هي قيمة هداياهم؟

«ملوك شَبَا وسبأ يُقدِّمون هديةً. ويسجد له كل الملوك، كل الأمم تتعبَّد له» (مز 72: 11،10).

أولاً: مَن هم المجوس(1)؟

كلمـة ”مجوسي“ باليونـانية ?????، و”مجوس“ بالجمع ?????، وقد جاءت تسميتهم في (مت 2: 1) في بعض ترجمات الكتاب: «مجوس من المشرق»، وفي ترجمات أخرى: ”حكماء من المشرق“.

ومعظم معلوماتنا عن المجوس في العالم القديم مبنية على أساس ما جاء في كتابات ”هيرودوت“ (484-425 ق.م، وهـو مؤرِّخ ورحَّالة يوناني، مُلقَّب بـ ”أبي التاريخ“. وقد زار العالم القديم آنذاك، لاسيما العراق وفينيقيا ومصر). فقد ذَكَرَ أنهم كانوا من طائفة مُغلقة على نفسها، وعلى ذلك فربما كانوا من طائفة الكهنة الذين يستعملون السِّحْر لعلاج المرضى وكَشْف المُخبَّأ والسيطرة على الأحداث. كما ذَكَرَ أنهم كانوا مُتخصِّصين في تفسير الأحلام. وذَكَرَ أيضاً أنَّ في أيامه كان يوجد كهنة من بلاد فارس، وحيث إنَّ ديانة بلاد فارس كانت هي الزرادشتية (من اسم النبي الفارسي ”زرادشت“)؛ فالمجوس، إذن، كانوا كهنة هذه الديانة.

ويذكر سفر الأعمال (8: 9-24) سمعان الساحر في السامرة، وأيضاً عليم الساحر magus (13: 6-11) في جزيرة قبرص؛ مِمَّا يدلُّ على أنَّ المجوس أو السَّحَرَة أو المُنجِّمين كانوا معروفين حتى في بلاد البحر المتوسط. وبناءً على ذلك، فإنَّ كلمة ”مجوس“ تُشير إلى وظيفتهم دون أن تشمل جنسيتهم أو وطنهم. وقال المؤرِّخون إنه لا يمكن لأيِّ فارسي أن يصير مَلِكاً إنْ لم يكن قد مَلَكَ ناصية علوم المجوس. ومِن الواضح أيضاً أنَّ كلمة ”مجوس“، بصفة عامة، تُشير إلى أُناس لهم خبرات في السِّحْر بأنواعه المختلفة.

وكلمة magic الإنجليزية ربما جاءت من الكلمة اللاتينية magus أو اليونانية ?????. وقد ذُكِرَ المجوس في سفر دانيال (1: 20؛ 2: 27،10،2 وغيرها). وهي ترجمة للكلمة العبرية التي تفيد معنى سَحَرَة أو مشعوذين أو مستحضري أرواح، كما أنها قد تعني أحياناً ”مُفسِّري الأحلام“. ولكن شتَّان بين هؤلاء وبين الآباء والأنبياء، مثل يوسف الصدِّيق ودانيال النبي، الذين فسَّروا الأحلام بوحي إلهي. كما أنَّ كلمة ”مجوسي“ قد تعني أنَّ روحاً شريراً يسكنه، وبواسطته يعمل أعمال السِّحْر والعِرَافة والشعوذة وغيرها. وكان اتِّهام الكَتَبَة والفرِّيسيين للمسيح بأنه ”ببعلزبول يُخرِج الشياطين“، تعني أنهم اتَّهموه بأنه مجوسي.

وذَكَرَ إنجيل القديس متى أنَّ المجوس كانوا من المشرق، وهذا يعني أنهم كانوا: إمَّا من بلاد العرب، أو ميزوبوتاميا (= ما بين النهرين = العراق = بابل)، أو من البلاد التي تليها شرقاً. ومن المعروف أنَّ المجوس كانوا علماء في الفَلَك، وهو ما جعلهم يُميِّزون نجم المولود ملك اليهود. وقد حقَّق نجم المجوس ما تُشير إليه نبوَّة بلعام القائلة: «وحي الذي يسمع أقوال الله، ويعرف معرفة العَليِّ. الذي يرى رؤيا القدير، ساقطاً وهو مكشوفُ العينَيْن. أراه ولكن ليس الآن. أُبصره ولكن ليس قريباً. يبرز كوكبٌ من يعقوب، ويقوم قضيبٌ من إسرائيل» (عد 24: 17،4). كما أنَّ تقديم المجوس هداياهم للمسيح الطفل حقَّق نبوَّات سفر المزامير القائلة: «لك تُقدِّم ملوك هدايا» (مز 68: 29)، «أمامه تجثو أهل البريَّة، وأعداؤه يلحسون التراب. ملوك ترشيش والجزائر يُرسِلون تقدمة. ملوك شَبَا وسبأ يُقدِّمون هدية. ويسجد له كل الملوك، وكل الأُمم تتعبَّد له» (مز 72: 9-11). وهذه النبوَّة الأخيرة تُشير إلى خضوع الأُمم (أي الوثنيين) والملوك لملك الملوك، وهي التي حقَّقها المجوس الذين كانوا سفراء فوق العادة عن أُممٍ وشعوبٍ كثيرة، كما أنها توحي بأنَّ المجوس الثلاثة كانوا ملوكاً.

وإنْ كانت العلوم المختلفة لا تُلقي إلاَّ ضوءاً باهتاً على المجوس، إلاَّ أنها تكون مُنيرة بالكامل فقط لعيون الذين يؤمنون بأنه «قد وُلد لكم اليوم في مدينة داود مُخلِّصٌ هو المسيح الرب» (لو 2: 11).

ثانياً: ما قيمة هداياهم؟

الذهب واللبان والمُرُّ كانت هي هدايا المجوس للمُخلِّص. وحيث إنهم كانوا ذوي شأن في غناهم وتميُّزهم، فقد لُقِّبوا بالحكماء. ويلزمنا أن نفترض أنَّ هداياهم كانت من أفضل وأثمن الأنواع التي أمكن الحصول عليها في ذاك الزمان:

1. الذهب: وهو هدية ”جاسبار“ (أحد المجوس الثلاثة)(2)، وكان ذا قيمة واضحة من الناحيتين الجمالية والنقدية.

2. اللبان: ماذا عن لبان ”مخيور“ ومُرِّ ”بالتازار“، اللذين هما عبارة عن مادتين صمغيتين راتينجيتين بسيطتين وعطريتين؟ ربما تظنُّ أنهما من الهدايا الاختيارية أو الشاذَّة، ولكنهما - مثل الذهب - كانتا أيضاً من السلع النادرة والغالية الثمن في العالم القديم؛ بل كانت لهما أيضاً معانٍ دينية في نظر المجوس.

اللبـان: Frankincense، وبـاليونـانيـة ???????، وبـاللاتينـة Gum olibanum، ومعناهما الحرفي ”صمغ اللبان“. ولكن الكلمتين اليونانية واللاتينية مأخوذتان من الكلمة العربية ”لبان“. ويمكن الحصول عليه من لحاء شجر ينتمي إلى فصيلة تُسمَّى Boswellia. وهي تتوفَّر فقط بالقرب من جنوب الجزيرة العربية وشمال الصومال.

وفي العهد القديم أحضر موسى النبي معه من جبل سيناء مواصفات تفصيلية، ليس لبيت الله فحسب، بل أيضاً مواصفات لإعداد بخور مقدَّس من اللبان وزيوت للمسحة المقدسة، ومن بينها زيت المُرِّ، مع طُرُق تقليدية مُحدَّدة لاستعمالها. فقد أَمَر الربُّ موسى أن يُقدِّم في العبادة اليومية بخوراً طيِّباً يحرقه على مذبح من ذهب في مجمرة من ذهب (خر 30: 1-10، 35،34). وهكذا، فبحسب طقوس الناموس كان اللبان هو أحد المقوِّمات الرئيسية لرفع البخور الذي كان مُقدَّساً للرب. وكان ممنوعاً استعمال هذا البخور لأغراض أخرى. وكانت توجد في أورشليم مخازن للُّبان (1أي 9: 29؛ نح 13: 5).

وكما ذَكَر العهد القديم البخور واستعماله في العبادة، هكذا نقرأ عن استعماله في السماء: «خرَّت الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرون شيخاً أمام الخروف، ولهم كل واحد قيثارات وجامات من ذهب مملوَّةٌ بخوراً هي صلوات القدِّيسين» (رؤ 5: 8)، «وجاء ملاكٌ آخر ووقف عند المذبح، ومعه مبخرةٌ من ذهب، وأُعطِيَ بخوراً كثيراً لكي يُقدِّمه مع صلوات القديسين... فصعد دُخان البخور مع صلوات القدِّيسين من يد الملاك أمام الله» (رؤ 8: 4،3). وهو ما جعل كنيستنا تستعمل البخور منذ تأسيسها أمام ذبيحتها الوحيدة، وكُتبها المقدَّسة، وأيقوناتها، وفي جميع أسرارها وطقوسها، لأنها هي السماء على الأرض: «لتستقم صلاتي كالبخور قدَّامك» (مز 141: 2). كما أنَّ تقديم البخور أمام المذبح والقرابين والإنجيل (القطمارس) والأيقونات يُشير إلى تقديس هذه كلها؛ أما أمام المُصلِّين فيُقدِّسهم ويجعل لهم مُشاركة طقسية في الصلوات وتقديم ذبيحة القدَّاس.

? ويقول القديس الروسي يوحنا كرونستادت (1829-1908م، وهو كاهن رعية متزوِّج عاش في روسيا؛ وقد كرَّس حياته كلها لخدمة رعيته في بذلٍ وتفانٍ منقطع النظير، وفي نفس الوقت، كان رجل صلاة وأُلفة دائمة مع الله):

[حينما نطوف بالبخور حول المذبح ونُقدِّمه للأيقونات وأجساد القدِّيسين والشعب، فإنما نحن نجمع صلوات الجميع كصوتٍ واحد يحمله البخور المقدَّس، وترفعه الملائكة المنوطة بالخدمة مع صلوات وتشفُّعات العذراء الطاهرة مريم. وهكذا تتقوَّى صلواتنا بصلوات وتشفُّعات القدِّيسين].

3. المُرُّ: ويُنطَق بالعبرية mor، وباليونانية: ??????. وهو يتكوَّن من مواد عطرية تؤخَذ من الراتينج العَطِر الذي ينضح من شُجيرات المُرِّ، واسمها: Commiphora myrra، وهي ذات قرابة من أشجار اللبان Boswellia، ويؤخذ من لحائها الخارجي. وكان المُرُّ أحد سلع التجارة من جلعاد إلى مصر بواسطة الإسماعيليين (تك 37: 25)، وقد جعل يعقوب أبناءه يحملونه إلى يوسف في مصر (تك 43: 11). وكلمة ”لوت“ العبرية المُستعملة في سِفْر التكوين يُعرِّفها الكثير من العلماء بالمادة الصمغية العطرية، وهي ”اللاذن“ من الكلمة العربية ”لادن“، كما كان يُسمَّى في التجارة في القديم، وهو الاسم الذي استخدمته الترجمة العربية البيروتية.

وكان المُرُّ مُقوِّماً هاماً في زيت المسحة المقدس (خر 30: 23) الذي يُعتَبَر نواة لزيت الميرون في عهدنا الجديد، وفي التعطير (أستير 2: 12؛ نش 1: 12) كما ذُكِرَ في عدة مواضع في الكتاب مع أفخر الأطياب. وعندما قُدِّم للرب يسوع «خمراً ممزوجة بمُرٍّ» (مر 15: 23) عند صَلْبه كمُسكِّن للألم، رفضه لكي يتحمَّل آلامه كاملةً من أجلنا! وقد كفَّن نيقوديموس جسد الرب بمُرٍّ وصبرٍ Aloes (يـو 19: 39). وقد استخدمت اللغة الإنجليزية في (رؤ 18: 13) كلمة Myrrh = ”مُر“، واللغة العربية كلمة ”طِيب“، وذلك ترجمة لكلمة ????? = ميرون. ولكن كلمة ”مرهم“ أو ”عِطر“ ربما تكون أدق في الترجمة. وبهذه المناسبة، فإنَّ زيت المُرِّ هو من أهم مكوِّنات زيت الميرون الذي هو أقدس أنواع الزيوت المستعملة في كنيستنا.

ومعروفٌ أنَّ المُرَّ كان يُستخدم في التحنيط أيام قدماء المصريين. وعندما فُتِحَ ختم مقبرة توت عنخ آمون - الذي مَلَكَ نحو 1340 ق.م - وذلك سنة 1922م، كان الجو داخل المقبرة لا يزال يفوح برائحة المُرِّ! وقد ذُكِرَ المُر بالاسم في نقش باللغة الهيروغليفية منذ حُكْم الملكة ”حتشبسوت“ (نحو سنة 1500 ق.م)، وهـو يُوضِّح أنَّ الملكة أرسلت أسطولاً إلى بلاد ”بونط“ - التي هي الآن في شمال الصومال - لاستيراد شُجيرات اللُّبان والمُرِّ، لأن الفراعنة كانوا يهتمون جداً بـ ”عِطْر الآلهة“.

وفي العهد القديم كان تقديم البخور والمُر يُعتَبَر تقدمة ثمينة: «مَن هذه الطالعة من البرية كأعمدة من الدخان، مُعطَّرة بالمُرِّ واللبان وبكل أَذِرَّة (أطياب) التاجر» (نش 3: 6)، ويُناجي الربُّ عروسَه قائلاً: «رائحة ثيابكِ كرائحة لبنان... مع كلِّ عُودِ اللُّبان، مُرٌّ وعُودٌ مع كلِّ أَنْفَسِ الأطياب» (نش 4: 14،11)، «مِن مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأُمم. وفي كل مكان يُقرَّب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة» (ملاخي 1: 11).

الروائح العطرية وحاسة الشَّمِّ:

روائح البخور والعطور في العبادة تأتي بنا إلى بُعْدٍ آخر، وهو مجال حاسة الشم، لأن الشم هو الحاسة المتَّصلة مباشرةً بالجهاز العضوي للجسم الذي يُنظِّم الوظائف الحيويـة التلقائية مـن الناحية البيولوجية والغرائـز الأساسية. وباختصار، فإنَّ حاسة الشم هي مصدر أقوى الأحاسيس الإنسانية، لماذا؟ لأنه عندما يشم الإنسان شيئاً، فإنَّ ذاكرته تقترن بهذا الشيء وتُقْرَن به أشياء أخرى في حياته. ففي الحقيقة إنَّ الذاكرة المرتبطة بالرائحة هي أكثر حيوية ونشاطاً من تلك المرتبطة بالنظر أو السمع.

وقد أثبت العلماء أنَّ الرائحة العطرية تُلطِّف من الإجهاد وإنعاش المزاج: «الدهن والبخور يُفرِّحان القلب» (أم 27: 9)، كما أنها تزيد من اليقظة والنشاط وكفاءة إنجاز المهام الروتينية.

? ويقول في ذلك القديس يوحنا كرونستادت:

[حينما نشم رائحة البخور الذكية، تجتمع حواسنا، وتأخذ النفس نشوة روحية بتنسُّم رائحة الفضيلة والتقوى وحلاوة بيت الله؛ فنتنهَّد على خطايانا المُرَّة، ونتذكَّر قول بولس الرسول: «شكراً لله الذي يقودنا في موكب نُصرته في المسيح كلَّ حين، ويُظْهِر بنا رائحة معرفته في كل مكان. لأننا رائحة المسيح الذكية لله» (2كو 2: 15،14)].

( أَلا تَرَى معي، أيها القارئ العزيز، أنَّ المجوس الثلاثة كانوا أحكم مِمَّا نتصوَّر؟!

(1) عن مجموعة: The Interpreter's Dictionary of the Bible، وأيضاً عن مجلة ”بورتلاند“ الصادرة من جامعة بورتلاند بأمريكا في شتاء عام 1994م.
(2) أسماء المجوس معروفة في التقليد ولم تُذكَر في الإنجيل (وهي: جاسبار، مخيور، بالتازار).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis