نياحة مثلث الرحمات نيافة أنبا ميخائيل
مطران أسيوط ورئيس دير القديس أنبا مقار
(1921-2014م)

+ في عصر يوم الأحد الموافق 14 هاتور 1731ش/ 23 نوفمبر 2014م تنيَّح صاحب النيافة مثلث الرحمات أنبا ميخائيل، بعد صراع طويل مع المرض، عن عمر يُناهز الثلاثة والتسعين عاماً. وقضى في خدمته مطراناً لأسيوط 68 سنة، وفي رئاسته لدير القديس أنبا مقار 66 سنة، وفي رهبنته 75 سنة.

+ وقد وُلِدَ نيافة أنبا ميخائيل في 7 أبريل عام 1921م في قرية الرحمانية التابعة لمركز ”نجع حمادي“ بمحافظة قنا. ثم التحق بدير القديس أنبا مقار في وادي النطرون في 19 فبراير عام 1939م، وترهَّب باسم: ”الراهب متياس المقاري“، ولم يكن قد أكمل العشرين من عمره.

+ ظل نيافته رئيساً وأباً غيوراً على الحق وعلى الحياة الرهبانية والسيرة الروحانية التي تميَّز بها ديره على مدى الأجيال، والذي كان يُعرَف بأنه ”مكان الحكمة العالية والصلاة الدائمة“. فكان دائم الاهتمام بأن يُتابع أحوال الدير منذ أن عُيِّن أميناً للدير في نوفمبر 1940م. ورغم صِغَر سنِّه، فقد صار، بعد أن عُيِّن أميناً للدير، يحمل المسئولية بكل إخلاص وأمانة وشجاعة أدبية؛ مما جعله يصطدم بممارسات رئيس الدير آنذاك ويُراجعه بكل وداعة عن أي سلوكٍ خاطئ.

+ وبسبب أمانة الراهب متياس المقاري وإخلاصه، قام قداسة البابا يوساب الثاني بابا الإسكندرية آنذاك، باختياره لرسامته مطراناً على أسيوط، حيث كان كرسيها شاغراً في ذاك الوقت، خلفاً للمتنيح البابا مكاريوس الثالث الذي كان مطراناً لأسيوط قبل تنصيبه بطريركاً، ولما تنيح الأنبا مكاريوس أصبح لابد من رسامة مطران لأسيوط خَلَفاً له. وفي يوم 25 أغسطس عام 1946م، تمَّت رسامة الراهب متياس المقاري مطراناً على مديرية أسيوط ومركزَي البداري وساحل سليم. وكانت الرسامة في نفس يوم تذكار وصول جسد القديس أنبا مقار إلى ديره، كأنما أرادت السماء أن تؤكِّد ارتباط رسامة نيافة أنبا ميخائيل مطراناً على أسيوط في هذا الميعاد برئاسته لدير القديس أنبا مقار الذي ترهَّب فيه.

+ ظل نيافته رئيساً لدير القديس أنبا مقار، يرعاه من موقع كرسيه بأسيوط، ويُعيِّن له مَن يصلح لتدبير شئونه من أمناء الدير تحت إشرافه وتوجيهه، ويتفقَّد أحواله بالزيارة الرعوية بين الحين والآخر، على قدر ما يتسع له وقته ومسئولياته في إيبارشيته المتسعة؛ خاصةً وأنه بعد سيامته مطراناً لأسيوط لاقَى في البداية مُعارضة شديدة من بعض باشوات أسيوط بدعوى صِغَر سنِّه. ولكنه واجههم بكل حزم، وساندته النعمة الإلهية والسِّيرة الطاهرة والحياة النسكية والتعفُّف والشجاعة في الحق، مما جعلهم يحبونه ويوقِّرونه حتى صار محبوب شعب أسيوط وكل الصعيد في وقتٍ قصير.

+ وفي عهد قداسة البابا كيرلس السادس (1959-1971م)، نما إلى علم نيافة أنبا ميخائيل أخبار الرهبان الذين خرجوا من دير السيدة العذراء الشهير بالسريان مع أبيهم الروحي القمص متى المسكين ولجوئهم إلى منطقة وادي الريان بصحراء الفيوم، وذلك من الراهب موسى السرياني (نيافة المتنيِّح أنبا أندراوس أسقف دمياط وكفر الشيخ) الذي كان حينذاك في سكرتارية قداسة البابا، وأبدى نيافة أنبا ميخائيل تعاطُفه مع هذه الجماعة من الرهبان، واستعداده لقبولهم في دير القديس أنبا مقار إذا سمح قداسة البابا بذلك. وكان ذلك حوالي سنة 1962م.

+ ومرَّت الأيام، وكان نيافة أنبا ميخائيل ضمن البعثة التي توجَّهت إلى روما لإحضار رفات القديس مار مرقس كاروز الديار المصرية، وإذ رأى رؤيا بضرورة العودة فوراً إلى مصر، قطع رحلته وعاد بالطائرة ليُفاجَأ بدعوة قداسة البابا كيرلس السادس في شأن قبول رهبان وادي الريان مع أبيهم القمص متى المسكين للحياة في دير القديس أنبا مقار تحت رئاسة نيافة أنبا ميخائيل. فرحَّب نيافته بذلك بكل فرح ومسرَّة. وكأنما السموات قد استجابت لدعواته وصلواته لتعمير هذا الدير العريق واستعادة أمجاده.

+ وفي يوم 9 مايو 1969م (وكان يوم عيد ميلاد القديسة العذراء مريم، وتذكار جلوس قداسة البابا كيرلس السادس)، حضر القمص متى المسكين مع رهبان وادي الريان إلى البطريركية، وكان نيافة أنبا ميخائيل حاضراً. وفي هذه الجلسة كلَّف قداسة البابا كيرلس السادس القمص متى المسكين بإعادة تعمير دير القديس أنبا مقار تحت رعاية نيافة أنبا ميخائيل رئيس الدير، رهبانياً ومعمارياً. وقد توجَّه الآباء جميعاً إلى الدير في نفس هذا اليوم، وكانت فرحة عارمة لكل رهبان الدير المُقيمين، والذين لم يكن عددهم يزيد عن ستة رهبان، وقد انضمَّ إليهم 12 راهباً. وقد كلَّف نيافة أنبا ميخائيل الأب متى المسكين ليكون هو ”الأب الروحي“ لرهبان الدير.

+ كان نيافة أنبا ميخائيل سعيداً للغاية باستقبال رهبان وادي الريان مع أبيهم الروحي في ديره، وأعطاه كل الصلاحيات للعمل والتدبير حسب نعمة الله المُعطاة له. وسرعان ما أقبل الكثيرون إلى الدير بقصد الترهُّب. وكانت الرسامات تتمُّ بموافقة وتصديق نيافته. وكان يُداوم على زيارة الدير والبقاء فيه لمدة أسبوع على الأقل، وكانت له قلاية خاصة به يُقيم بها حين حضوره. وكان يتجوَّل في كل أرجاء الدير وفي المزارع وأماكن العمل. وكانت له لقاءات خاصة مع الأب القمص متى المسكين، يتحادثان معاً في الأمور الروحية والرهبانية. وكان يُبدي رأيه في أعمال الدير ونشاطاته المختلفة. وظلَّت الأمور تسير هكذا حتى نياحة قدس أبينا القمص متى المسكين في 8 يونية 2006م.

+ وظل نيافة أنبا ميخائيل رئيساً للدير حتى يوم السبت 21 مارس 2009م، حيث قدَّم لقداسة البابا شنودة الثالث استقالته من رئاسة الدير، لأسباب خاصة لم تتضح بعد. ولكن بعد نياحة قداسة البابا شنودة الثالث، وفي 17 مارس 2012م، توجَّه بعض رهبان الدير إلى أسيوط لمقابلة نيافة أنبا ميخائيل، وهم يرجونه أن يستأنف رئاسته للدير، فقَبِلَ هذا الرجاء بكل فرح. وكانت دموعه تسيل من مُقلتيه من الفرح لغيرته على ديره، ولأنه شعر أنَّ تركه للدير تسبَّب في متاعب كثيرة. وكان يقول باتضاعٍ شديد: ”اعتبروني واحداً من مجمعكم“. وقد أوصانا بالحزم والشجاعة في الحق، والتدقيق في خروج الرهبان من ديرهم، وعدم السماح لهم بالخروج والمبيت خارج الدير، خوفاً على خلاصهم. وكان حديثه معنا بمنتهى الحب والغيرة والاتضاع، متوسِّلاً إلينا بكلمات إنجيلية ومبادئ رهبانية سامية أن نهتم بخلاصنا وخلاص إخوتنا، ولا نخاف أحداً في الحق إلاَّ الله وحده.

+ وبعد رسامة قداسة البابا تواضروس الثاني، ولما أحس نيافة أنبا ميخائيل في السنين الأخيرة عدم قدرته بسبب كِبَر سنِّه، وعدم استطاعته القيام بمهام إدارته للدير، ولأجل رغبته المُلحَّة التي كانت تُسيطر على فكره في أواخر أيامه أن يطمئن على مَن يخلفه في رئاسة الدير من أبناء الدير المُخْلِصين، لكي يستمر دير القديس أنبا مقار كما كان يشتهي، في مكانته المعروفة عنه وعن رهبانه في التقوى والنُّسك والتفاني في محبة المسيح والكنيسة؛ سعى بكل اهتمام لدى قداسة البابا تواضروس الثاني عقب رسامته بابا الإسكندرية وبطريركاً للكرازة المرقسية بقليل، أن يسمح لرهبان دير القديس أنبا مقار أن يختاروا من بينهم واحداً من إخوتهم مشهوداً له بالتقوى والعلم والحزم لرئاسة الدير. فوافق قداسة البابا على ذلك. وتم انتخاب الراهب إبيفانيوس المقاري أسقفاً ورئيساً للدير باسم نيافة أنبا إبيفانيوس، وذلك بتزكية نيافة أنبا ميخائيل الذي أوصاه أن يُعيد للدير أمجاده كما اشتهاها نيافته بأن يظل دير القديس أنبا مقار مكان الصلاة والنُّسك والروحانية العالية والحكمة السامية. وقـد طلب نيافة أنبا إبيفانيوس مـن قداسة البابا أن يظل اسم نيافة أنبا ميخائيل مذكوراً في القدَّاسات والصلوات طوال حياتـه بجوار اسم قداسة البابا واسم نيافته، فوافق قداسته. وفي يوم 10 مارس 2013م، تمَّت رسامة نيافة أنبا إبيفانيوس أسقفاً ورئيساً للدير.

+ ومن المعروف عن المتنيِّح نيافة أنبا ميخائيل أنه المطران (والأسقف) الوحيد الذي رفض الخروج من إيبارشيته والصلاة خارجها؛ إلاَّ في أضيق الحدود، وبأَمْر البابا. وعندما اشتدَّ عليه المرض في شهر أغسطس الماضي عام 2014م، وتزامُناً مع نهضة السيدة العذراء في ديرها بجبل أسيوط بمنطقة ”درنكة“، والذي يُشرف عليه نيافته، ذهب نيافته لحضور النهضة على كرسي متحرِّك، واللاصقات الطبية تُحيط بجسده.

+ عاصَر نيافة أنبا ميخائيل مدة جلوسه على كرسي مطرانية أسيوط أربعة بطاركة وهم: البابا يوساب الثاني البطريرك الـ 115، وهو الذي سامه أسقفاً فمطراناً على كرسي أسيوط؛ والبابا كيرلس السادس البطريرك الـ 116؛ والبابا شنودة الثالث البطريرك الـ 117؛ والبابا تواضروس الثاني البطريرك الـ 118.

+ بعد نياحة مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث في 17 مارس سنة 2012م، اعتذر نيافة أنبا ميخائيل عن قبول منصب القائم مقام البطريرك، وذلك لكِبَر سنِّه، حيث كان هو أكبر المطارنة سنّاً. وكان يليه نيافة أنبا باخوميوس مطران البحيرة.

+ يُلقَّب أنبا ميخائيل بعدة ألقاب، ومنها: ”شيخ مطارنة الكنيسة“ لأنه أكبرهم سنّاً، و”عميد أساقفة الكنيسة“، كما يُطلِق عليه أقباط أسيوط لقب: ”أسد الصعيد“.

+ لنيافة أنبا ميخائيل مواقف حاسمة في المواجهة مع المسئولين، مع حكمة وكياسة ومودة واحترام وتقديس للمواعيد وحِفظ الوعود. وله إنجازات عظيمة في إيبارشيته وأعماله في دير العذراء بجبل أسيوط، واهتمامه بكل نواحي الخدمة الروحية والأنشطة الاجتماعية وخدمة الفقراء في إيبارشيته. كما كان متَّسع الفكر، صادق المحبة مع إخوته من الطوائف الأخرى ومن كافة رجال الدولة والمواطنين.

+ عزاءً لشعب إيبارشيته ولرهبان ديره ولكل الكنيسة وعارفي فضله.

+ + +

+ اعتراف بالفضل لأصحابه: عن آخر صفحة من كتاب: ”شرح الرسالة الأولى للقديس بطرس الرسول“، للأب متى المسكين، طبعة سنة 2004:

[والآن أصبح لِزَاماً عليَّ أن أوضِّح للقارئ ماذا كنَّا وما نحن عليه الآن؟!

فقد كُنَّا جماعة رهبان تائهين،كما يقول الكتاب: «في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض»، بعد أن طُرِدنا من الدير، فأرسل نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط ورئيس دير أنبا مقار بوادي النطرون واستدعانا للمعيشة في ديره العامر؛ فلبَّينا الدعوة، وكانت الدعوة من الله، لأننا بمجرَّد أن استقرَّت أقدامنا في الدير، أرسل الرب لنا قوَّة ومعونة، فقُمنا وبنينا الدير حسب توجيه نيافة المطران.

وفَتَحَ الرب بصيرتنا، فبدأنا شرح الأربعة الأناجيل المقدَّسة والرسائل الهامة، بتشجيع من نيافة المطران، وهذه هي آخر رسالة لنا أخرجتها مطابع الدير. وبهذا يرتاح ضميرنا، إذ ننسب الفضل لأصحابه. فنحن لسنا أكثر من لاجئين عملنا ما يُرضي مطراننا نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط، كما أرشده الله من نحونا، وهذا ما يُسجِّله التاريخ علينا].

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis