دراسة كتابية


عن الإيمان والأعمال
القديسان بولس ويعقوب، هل هما ضدَّان؟
-5-

ثانياً: الإيمان والأعمال في رسائل القديس بولس
- 4 -

ملخص ما نُشر:

أشرنا في العدد الماضي (عدد ديسمبر 2008، ص 32) إلى أن الأعمال التي لا موضع لها عند اقتبال الخلاص، تأتي ثماراً طبيعية في "حياة الخلاص" حيث الإيمان يعمل بقوة الروح ومحبة الله، والنعمة التي بدأت الخلاص تُكْمِل "حياة الخلاص" بالعمل الصالح والسلوك بالقداسة ورفض الشر. ونورد هنا من رسائل القديس بولس بعضاً من وصاياه في مجال "أعمال الإيمان".

أ - "أعمال الإيمان" شهادة والتزام

وتتميم لإنجيل المسيح:

و"المعلِّم" سبق وبيَّن أن للحياة الجديدة علاماتها والتزاماتها فقال: "من ثمارهم تعرفونهم" (مت 7: 16)، و"إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي" (يو 14: 15)؛

وها هو إناؤه المختار يوصي المؤمنين أن يعيشوا بحسب الإنجيل الذي قبلوه، مُكثرين في عمل الرب:

+ "عيشوا كما يحـق لإنجيـل المسيح" (في 1: 27).

+ "احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح" (غل 6: 2).

+ "كونوا راسخين غير متزعزعين، مكثرين في عمل الرب كل حين، عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب" (1كو 15: 58).

+ "مُقدِّماً نفسك قدوة للأعمال الحسنة" (تي 2: 7).

+ "ولنُلاحظ بعضنا بعضاً للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة" (عب 10: 24).

+ "... لكي يهتم الذين آمنوا بالله أن يُمارسوا أعمالاً حسنة، فإن هذه الأمور هي الحسنة والنافعة للناس" (تي 3: 8).

+ "... أَوصِ الأغنياء أن يصنعوا صلاحاً، وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة" (1تي 6: 18،17).

+ "لتسلكوا كما يحق للرب في كل رضىً، مثمرين في كل عمل صالح، ونامين في معرفة الله" (كو 1: 10).

+ "فكما قبلتم المسيح يسوع الرب، اسلكوا فيه" (كو 2: 6).

ب - توجيهات في حياة القداسة:

- عندما قال الرب لشعبه: "لا تُدنِّسوا أنفسكم ولا تتنجَّسوا... فتتقدَّسون وتكونون قديسين لأني أنا قدوس" (لا 11: 45،44؛ 20: 26،7)، بدا أن التقديس يعني أن يصير المؤمن لله، مُخصَّصاً له ومُكرَّساً، وليس لإبليس والعالم والخطية والجسد. ولأن الإيمان يعني الانحياز لله وحده، فكل مؤمن - بغير تجاوز - هو قديس: "سلِّموا على كل قديس في المسيح يسوع... يُسلِّم عليكم جميع القديسين" (في 4: 22،21)، والقديس بولس يفتتح رسائله إلى الكنائس بتوجيهها إلى القديسين أعضاء الكنيسة (رو 1: 7؛ 1كو 1: 2؛ 2كو 1: 1؛ أف 1: 4؛ في 1: 1؛ كو 1: 2). ثم امتدَّ معنى القداسة من التكريس لله ليشمل الالتزام بوصايا الله وألوان العبادة والالتزام الروحي وكل أعمال المحبة كما تعرضها الوصايا التالية:

+ "لأن هذه هي إرادة الله: قداستكم" (1تس 4: 3).

+ "اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عب 12: 14).

+ "فأطلب... أن تُقدِّموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية... المحبة فلتكن بلا رياء... غير متكاسلين في الاجتهاد. حارين في الروح. عابدين الرب. فرحين في الرجاء. صابرين في الضيق. مواظبين على الصلاة. مشتركين في احتياجات القديسين. عاكفين على إضافة الغرباء. باركوا على الذين يضطهدونكم... إن كان ممكناً، فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس... فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسْقِه... لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلاَّ بأن يحب بعضكم بعضاً" (رو 12: 9،1، 11-14، 20،18؛ 13: 8).

+ "واظبوا على الصلاة، ساهريـن فيها بالشكر... ليكن كلامكم كل حين بنعمة مُصْلَحاً بملح، لتعلموا كيف يجب أن تُجاوبوا كل واحد" (كو 4: 6،2).

+ "محتملين بعضكم بعضاً، ومسامحين بعضكم بعضاً... كما غفر لكم المسيح... و... البسوا المحبة التي هي رباط الكمال... وكونوا شاكرين... لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى، وأنتم بكل حكمة مُعلِّمون ومنذرون بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنعمة، مترنِّمين في قلوبكم للرب" (كو 3: 12-16).

+ "اهتموا بما فوق، لا بما على الأرض" (كو 3: 2).

+ "فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء مفتدين الوقت، لأن الأيام شريرة" (أف 5: 16،15).

+ "اسهروا... اثبتوا في الإيمان" (1كو 16: 13).

- إضافة إلى وصاياه العامة في الحثِّ على أعمال الإيمان، اهتم القديس بولس بتقديم وصايا خاصة بكل فئة من فئات المجتمع المسيحي من أجل حياة أفضل للجميع. فكتب للرجال والنساء (1تي 2: 8-10)، والزوجين (1كو 7: 3-5؛ أف 5: 22-25، 33؛ كو 3: 19،18؛ 1تس 4: 5؛ عب 13: 4)، والوالدين (1تي 2: 15؛ 5: 8)، والأولاد (أف 6: 1-4؛ كو 3: 21،20؛ 1تي 5: 4)، والشباب (تي 2: 6)، والشيوخ والعجائز (تي 2: 2-4)، والأرامل (1تي 5: 10). كما أفرد جانباً كبيراً من رسالته الأولى للقديس تيموثاوس ورسالته إلى تيطس، موجِّهاً خطابه إلى الأسقف والكهنة والشمامسة وحتى زوجات الخدَّام.

ج - حياة الإيمان ترفض الشر:

ولأن القديس بولس يعلم أن المؤمن لن يصير معصوماً وعليه، إذاً، أن يُجاهد بمعونة النعمة كي يغلب الشر والتجارب وميول جسده وحروب إبليس الذي لن يكفَّ عن قتاله. من هنا فهو يحضُّ المؤمنين على عدم النكوص إلى الوراء أو الاستجابة للأهواء، بل أن يهربوا من الشر مقاومين حتى الدم، متذكرين دعوة الرب للدخول من الباب الضيِّق المؤدِّي إلى الحياة (مت 7: 14،13)، وكلماته أنَّ "ملكوت الله يُغصَب، والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12). بل هو يكتب (حتى إلى الأسقف الشاب تيموثاوس) مُحذِّراً: "وأما الشهوات الشبابية فاهرب منها، واتبع البر والإيمان والمحبة والسلام" (2تي 2: 2)، ومُشدِّداً على الانتباه والسهر وضبط النفس والجهاد ضد الخطية:

+ "إذاً مَن يظن أنه قائمٌ، فلينظر أن لا يسقط" (1كو 10: 12).

+ "فلا نَنَم إذاً كالباقين، بل لنسهر ونَصْحُ" (1تس 5: 6).

+ "فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحم، بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويَّات" (أف 6: 12).

+ "كل مَن يجاهد يضبط نفسه في كل شيء... أَقمع جسدي وأستعبده" (1كو 9: 27،25).

+ "وأيضاً إن كان أحد يُجاهد لا يُكلَّل إن لم يُجاهد قانونياً (أي جهاداً حقيقياً متواصلاً، لا شكلياً مؤقتاً)" (2تي 2: 5).

+ "اسلكوا بالروح فلا تُكمِّلوا شهوة الجسد... ولكن الذين هم في المسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24،16).

+ "لا تُحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء" (أف 4: 29).

+ "فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور. لنسلك بلياقة كما في النهار... البسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات" (رو 13: 14،12).

+ "كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية... إذاً لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تُطيعوها في شهواته، ولا تُقدِّموا أعضاءكم آلات إثم للخطية" (رو 6: 11-13).

+ "كونوا كارهين الشر ملتصقين بالخير... لا يغلبنَّك الشر، بل اغلب الشر بالخير" (رو 12: 21،9).

+ "لنُطهِّر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح، مُكمِّلين القداسة في خوف الله" (2كو 7: 1).

+ "لم تُقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" (عب 12: 4).

+ "جاهد جهاد الإيمان الحسن، وأمسك بالحياة الأبدية التي إليها دُعيت أيضاً" (1تي 6: 12).

+ "محبة المال أصل لكل الشرور" (1تي 6: 10).

+ "ليتجنَّب الإثم كل من يُسمِّي اسم المسيح.. فإن طهَّر أحد نفسه من هذه (آنية الهوان) يكون إناءً للكرامة مُقدَّساً نافعاً للسيِّد مستعدّاً لكل عمل صالح" (2تي 2: 21،19).

+ "مَن يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياةً أبدية" (غل 6: 8).

+ "لذلك اطرحوا عنكم الكذب وتكلَّموا بالصدق كل واحد مع قريبه... لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم" (أف 4: 29،25).

+ "وأما الزنا وكل نجاسة أو طمع فلا يُسمَّ بينكم كما يليق بقديسين، ولا القباحة ولا كلام السفاهة والهزل التي لا تليق... ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحري وبِّخوها... ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة، بل امتلئوا بالروح" (أف 5: 18،11،4،3).

+ "ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح. أفآخُذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية، حاشا" (1كو 6: 15).

+ "فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى، الشهوة الردية، الطمع... إذ خلعتم الإنسان العتيق، ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو 3: 10،9،5).

+ "لا تُخالطوا الزناة... اهربوا من الزنا" (1كو 5: 9؛ 6: 18).

د - الأعمال تشهد على الإيمان في اليوم الأخير:

كما أعلن الرب أيام جسده أنه في مجيئه في مجد أبيه: "حينئذ يُجازي كل واحد حسب عمله" (مت 16: 27)، "فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة" (يو 5: 27). وفي رؤياه للقديس يوحنا يقول الرب: "ها أنا آتي سريعاً وأُجرتي معي، لأُجازي كل واحد كما يكون عمله" (رؤ 22: 12)، وفي الرؤيا أيضاً أن السماء تُطوِّب الأموات الذين يموتون في الرب: "لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم (أو تصحبهم وتشهد لإيمانهم)" (رؤ 14: 13)، وأن الأموات سيُدانون حسبما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم (رؤ 20: 12)؛ هكذا يكتب القديس بولس للمؤمنين:

+ "فإنَّ كل واحد سيُعطي عن نفسه حساباً لله" (رو 14: 12).

+ "فعمل كل واحد سيصير ظاهراً" (1كو 3: 13).

+ "لأنه لابد أننا جميعاً نُظهَر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع، خيراً كان أم شرّاً" (2كو 5: 10).

+ "(الله) الذي سيُجازي كل واحد حسب أعماله... أما الذين بصبرٍ في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء، فبالحياة الأبدية... مجد وكرامة وسلام لكل مَن يفعل الصلاح" (رو 2: 10،7،6).

في النهاية، إذاً، سيُقدِّم كل واحد حساباً أمام كرسي الله لينال بحسب ما صنع، خيراً كان أم شرّاً، وستكون الحياة الأبدية نصيب الذين واصلوا العمل الصالح، صابرين ينشدون المجد والكرامة والبقاء وعدم الموت (عدم الموت Immortality) والسلام (نهاية الحرب الروحية والتجارب والآلام).

ورغم أن نصوص الآيات السابقة لا تذكر غير الأعمال في اليوم الأخير كمعيار للمجازاة، لكن هذا لا يعني أن النعمة والإيمان التي بدأ بهما الخلاص ورافقا المؤمنين كل "مسيرة الخلاص"(1)، لن يكونا هناك في "الخلاص الأخير". فالحقيقة أن النعمة التي بدأ بها الخلاص، والتي عملت في المؤمن وساندت إيمانه ويقينه وهو يواصل "حياة الخلاص"، ووهبته أن يعمل عمل الرب (الذي سبق فأعدَّه له لكي يسلك فيه، وكان هو العامل فيه أن يريد وأن يعمل)؛ هي تتـزكَّى جداً عند "تمام الخلاص" أو "الخلاص الأخير"، عندما يجيء الرب لتمجيد الذين ينتظرونه، ويُتمِّم نعمته على قديسيه بإكليل الحياة الأبدية: "وأخيراً قد وُضِعَ لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديَّان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً" (2تي 4: 8).

فالمؤمن يبدأ الخلاص "بالمسيح"، ويواصل كل الحياة "في المسيح"، ويبلغ مداه في الأبدية "مع المسيح". والكل هنا يستوي، فلا فضل لأحد أو استحقاق، وإنما هي فقط نعمة الله المجانية لمَن يقبل ويؤمن. وأصحاب الساعة الحادية عشرة (في المَثَل الشهير) نالوا نفس الأُجرة مثلهم مثل مَن بدأ أول النهار (مت 20: 10،9)، فالدينار الواحد هو الحياة الأبدية التي هي عطية مجانية من الله الغني لمَن يؤمن.

ولأن الأعمال هي "أعمال الإيمان"، أي ثماره الطبيعية التي لا تنفصل عنه وهي صداه الشاهد على صدقه وحيويته وقامته؛ فتقييم الأعمال من أجل المجازاة هو في حقيقته تقييم للإيمان والمجازاة بحسبه. ذلك لأن الأعمال التي ستُقيَّم هي وحدها "أعمال الإيمان"، والأعمال التي ليست من الإيمان بيسوع (رو 14: 23) لن تأتي إلى الملكوت ولن يتمجَّد أصحابها. إنها أعمال ميتة (عب 6: 1؛ 9: 14)، لأنها لا تنتسب للرب وليست لحسابه ومجده(2).

فالإيمان هو الأصل والأعمال هي الفرع، والإيمان هو الروح والأعمال هي مظاهر الحياة والوسيلة الظاهرة للحُكْم على الإيمان القوة المُحرِّكة لها، ولأنها بادية للكل فبها تتحقَّق الشهادة بعدل الله ويستد كل فم يشتكي على الله الذي "يدين المسكونة بالعدل" (أع 17: 31).

(يتبع)

دكتور جميل نجيب سليمان

(1) والقديس بطرس يُسجِّل نصاً، ارتباط الإيمان بالخلاص الأخير: "أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمانٍ لخلاصٍ مستعدٍّ أن يُعلن في الزمان الأخير" (1بط 1: 5).
(2) حتى وإن كافأ الله أصحابها بصورةٍ ما، إن كانوا بلا لوم (بحسب ناموسهم - أع 10: 35؛ رو 2: 14)؛ فإنَّ نصيبهم لن يكون مع المُخلَّصين الذين يرثون الملكوت: "الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة" (يو 3: 36).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis